تعدد أوجه الإعجاز في القرآن الكريم دلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم
من معجزات القرآن الكريم: أنه صالح لكل زمان ومكان، وأن أدلّته وبراهينه التي تحدّى بها كفار مكة سابقًا، وتحدّى بها أهل الكتاب في المدينة المنورة هي هي بعينها ما زالت مصدرًا للتَّحدي لكبار المستشرقين المعاصرين لنا الآن، ولكل من سار في فلكهم. لماذا؟ لأنّ أهل الكتاب بالمدينة وقبْلهم كفار مكة، لمّا قالوا: إن القرآن من عند محمد، وإنه إفك افتراه، تحدّاهم القرآن على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم بحُجّة سهلة وميسورة يمكن أن تتكرّر على لسان كل مسلم، فقال لهم: إذا كنتم عربًا، ومحمد عربي مثلكم، وأنتم تجيدون القراءة والكتابة ومحمد أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، وقد أتى بمثل هذا القرآن من عند نفسه -كما تدّعون كذبًا وبهتانًا- فأْتوا بآية من مثْله أو ائتوا بسورة أو ائتوا بعشر سوَر مثلِه مفتريات. وهذه حجّة في غاية الإقناع وفي غاية الإفحام في نفس الوقت؛ لأنها ملزِمة للخصم. فهو إمّا أن يأتي بمثل القرآن إن كان بشريًّا تصديقًا لدعواه، أو يسلِّم بأنه من عند الله سبحانه وتعالى وأنه ليس من صنع البشر، فيؤمن به. فإذا أصرّ على موقفه المعاند المكابر، فإنه بذلك يكون خارجًا عن مجال الحوار العلمي إلى مجال العناد والاستكبار؛ وهذا هو شأن المشركين قديمًا، وهو شأن المستشرقين حديثًا، كما قال القرآن حاكيًا عنهم: {فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـَكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
ومن تمام نعمة الله تعالى على عباده وعلى المؤمنين، ومن كمال حُجّته على خلْقه: أن آيات النبوّة، وبراهين صدق النبيّ معلومة لكل الخلْق، وفي استطاعتهم العلْم بها، وأن يسألوا عنها، وأن يجادلوا حولها ويحاوروا فيها. وقد يكون عند بعضهم من دلائل نبوّته ما لا يوجد عند البعض الآخر، وقد يظهر لكل قوم من دلائل النبوّة، ومن الآيات والدلائل النفسية والأفقية ما يتبيّن به أن القرآن حق. وإذا ظهرت هذه الدلائل، ووضحت هذه البراهين، وأعرض عنها الإنسانُ، أو أعرض عن النَّظر الحقِّ الموجب للعلم بها -كما هو شأن الكثير من الأدعياء ومن المفترين والمردِّدين لهذه الدعاوى- كان هو عين موقف العناد، وموقف الاستكبار، وكان في ذلك شقاق لله ولرسوله.
ثم إنَّ هناك أمرًا آخرَ أُنبِّه إليه وهو: أنَّ القرآن الكريم قد شهد لنفسه بنفسه، كما شهد الله تعالى بصدقه، وبألوهية مصدره ليطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم وليزداد المؤمنون إيمانًا بذلك. فالله تعالى قد شهد للقرآن بنفسه تارةً، وبملائكته تارةً أخرى، وبآياته البيِّنات تارةً ثالثة، وأخبر عن هذا في أكثر من آية، قال تعالى: {قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88].
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في أوّل أمر الدعوة وهو ما زال في مكة، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا وبهذا النفي العام الشامل القاطع للإنس والجن، فيه آيات لنبوّته، وفيه دلائل لصدْقه صلى الله عليه وسلم لأنّ مثل هذا الخبر لا يقوله ولا يُقِدم عليه من يريد من الناس أن يصدِّقوه إلّا وهو واثق تمام الثقة أنّ الأمر في نفسه كذلك، وأن القرآن في نفسه كذلك، وأنّ الإنس والجن لو اجتمعوا على قلب رجل منهم لا يأتون بمثله. ولو كان عند الرسول صلى الله عليه وسلم ذرة من شك في ذلك، لجاز أن يظهر كذبُه في هذا الخبر، ويفسد عليه قصْده. وهذا يقدم عليه كثير من الناس، ولكن لا يأتي بمثل هذا الجزم وبهذه الصيغة النافية القاطعة. لا يقدم عليها حكيم ولا عاقل، إلا وهو يعلم تمام العلم أنّ القرآن في نفسه كذلك يعجز عن الإتيان بآية واحدة منه، أو بسورة أو بعشر سوّر كلّ الإنس وكلّ الجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
ثم إن الواقع الذي عاشه الرسول صلى الله عليه وسلم والذي عاشه القرآن الكريم بين أهل مكة وأهل المدينة، وأيضًا في عصرنا الحاضر، لم يُثبت التاريخ أن واحدًا من العرب عارض القرآن الكريم أبدًا، والذي حاول ذلك منهم أتى بأشياء فضحت أمْرَه بين قومه. ومعلوم أنّ توفّر الدواعي المعارضة للقرآن الكريم كانت موجودة عند كلّ مشرك. محاولة معارضة القرآن، محاولة الاتّهام، محاولة بيان أنه مفترًى وأنه أساطير الأوّلين وأنه وأنه … كل هذه الدواعي كانت موجودة، وحاولوا جميعًا أن يُبيِّنوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنه كذا … وكذا … وكذا … ولكن لما عارضهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بآية أو بسورة أو بعشر سوَر، عجزوا عن معارضته، مع توفّر الدواعي عند جميعهم، ومع الحرص الشديد على محاربته وإبطاله بكل وسيلة ممكنة. ولما كان الأمر كذلك، دلّ هذا الموقف في ذاته على العجز المطلق لكلّ بني البشر، بل للجنّ أيضًا؛ وهذا في حد ذاته برهان تام على صدْق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدْق القرآن الكريم، وعلى أنه من عند الله، وعلى أنه ليس من عند محمد، ولا مِن صنْع البشر، ودلالة على صدق أنه آية في نفس الوقت على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه آية ظاهرة وباقية إلى يوم القيامة: أن القرآن يُتلى بيننا صباحًا ومساءً، وعلى أصحاب هذه الادّعاءات الكاذبة أن يأتوا بآية أو يأتوا بسورة.
وليس القصد هنا الحديثَ عن إعجاز القرآن؛ فإنّ ذلك له مجال آخَر، ولكن الذي أودّ الإشارة إليه والتنبه إليه: أن دلائل كون القرآن الكريم من عند الله U متنوّعة ومتعدّدة، وكلها من أوجُه إعجاز القرآن الكريم، وكلُّ وجه منها منفردًا دليل على صدق النبي، ودليل على قدسيّة القرآن الكريم. ولمَّا قص القرآن الكريم علينا موقف المشركين في مكة ودعواهم الكاذبة في أنّ القرآن من عند محمد قال لهم القرآن الكريم: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} [هود: 13]. استعينوا بمن تشاءون إن كنتم صادقين. {فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } [هود: 14]، والشرط هنا معلوم، الجواب عنه معلوم، يعني: فإن لم يستجيبوا. الله سبحانه وتعالى يعلم أنَّهم لن يستجيبوا؛ لأنهم عاجزون عن ذلك. {فَإِلّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاّ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مّسْلِمُونَ} [هود: 14]. ثم تنزل الآية الكريمة لتُطمئن قلب النبي صلى الله عليه وسلم وتُسَرِّي عنه ما يلقاه من وحشةٍ، إزاء مواقف المشركين، وأنّ المشركين إذا كانوا حاربوه وعاندوه، فإنّ الذي نزل على قلبه من آيات الوحي الكريم كفيلة بأن تُطَمْئن خاطره، قال تعالى: {لّـَكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً} [النساء: 166] أي: كفاك يا محمد أن الله وملائكته يشهدون بما أنزل إليك. ثم أعاد التجديد في المدينة المنورة مع أهل الكتاب، فقال في سورة “البقرة”: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(23) ثم قال {فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ}(24) [البقرة: 24]، فدلّت هذه الآية وغيرها على أمريْن مهميْن جدًّا:
الأوّل: قوله تعالى: {فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ }[البقرة: 24] يعني: إذا لم تفعلوا ذلك، فقد علمتم أنه حق، وينبغي أن تعترفوا بذلك وتؤمنوا به.
أمّا الأمر الثاني: فقوله تعالى:{ وَلَن تَفْعَلُواْ }، {وَلَن} هنا تفيد تأبيد النفي في المستقبل، يعني: لن تستطيعوا أن تفعلوا ذلك مهما حاولْتم، سواء في الحاضر أو في المستقبل؛ فثبت بذلك أنَّ البشر لن يأتوا بمثْله فيما يُستقبل من أمرهم. فكأنَّ القرآن الكريم بذلك قد أخبر بعجز الإنس والجنِّ، أن يأتوا بمثله ولو تعاون على ذلك أهلُ الأرض قاطبةً.
ومن المعلوم: أنّ الكفار في مكة كانوا من أحرص الناس على إبطال القرآن ومعارضته بمثله، واجتهدوا في ذلك بكل الوسائل، تارةً يسألون أهل الكتاب من اليهود عن بعض المسائل الغيبية ليوجّهوا هذه الأسئلة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التعجيز، ليبيّنوا بذلك أنه جاهل، وأنه عاجز، وأنه ليس معه من العلْم شيء، كما سألوهم عن قصة يوسف عليه السلام وسألوهم أيضًا عن أهل الكهف وعن عددهم. {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] إلى آخِر القصة. وسألوهم عن ذي القرنين، وحاولوا أن يخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ويحاوروه في شأن هذه المسائل الغيبية، ليس على سبيل العلْم ولا على سبيل المعرفة، ولكن على سبيل التَّعجيز والقهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانوا يجتمعون المرة بعد المرة ليتّفقوا فيما بينهم على أمور محدّدة يسألون عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بقصد إعجازه، فكان ينزل القرآن الكريم بالإجابة الشافية لأمراضهم لو أرادوا.
فإذا كان هذا شأنهم معه صلى الله عليه وسلم من الحرص التام على المعارضة المرة بعد المرة، ولو كانوا قادرين عليها لفعلوها؛ لأنَّه حيث وجدت الدواعي التامة، وامتنعت الصوارف، وكانوا قادرين على ذلك لوجب أن تتم المعارضة، وأن يأتوا بمثله، وما تكرر مع المشركين قديمًا ينبغي أن يكون هو هو شأننا مع المستشرقين حديثًا الآن، الذين يحاولون أن يتهموا القرآن بأنه كذا وكذا وكذا، وهذا التحدي الذي نوجهه الآن هو من أبلغ المواقف القرآنية التي يتحدى القرآن بها أهل الأرض قديمًا وحديثًا، ويتحدى بها كل من ادعى بشرية القرآن عليه أن يأتي بمثله آية، أو سورة، أو عشر سور، فإن لم يستطع أحد أن يفعل ذلك، فعليه إن كان طالبًا للحق أن يؤمن به، ومعلوم لدى أهل العلم، خاصةً أهل الخبرة بالقرآن وعلومه، أنّ أوجُه الإعجاز القرآني من جهة معانيه، وإخباره عن الغيب الماضي أو الغيب المستقبل، هذه الوجوه الإعجازية أكثر وأكثر بكثير من جهة إعجازه من حيث لفظه، ولكن أردنا بذلك أن نضع أمام إخوتنا وأخواتنا طلاب هذه الجامعة نماذج من هذه الوجوه على وجْه التمثيل فقط، وليس على وجه الاستقصاء أو الحصر؛ لأنه من ذا الذي يستطيع حصْر أوجُه إعجاز القرآن الكريم. ومن أراد تفصيل ذلك القول فليراجع كتب علوم القرآن الكريم، كـ(الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي، أو كتاب (دقائق التفسير) لشيخ الإسلام ابن تيمية خاصةً الجزء الأول، وخاصةً أيضًا المقدمة الخاصة بإعجاز القرآن الكريم.
ومن المفيد: أن نشير هنا إلى: أنَّ الذين تأمَّلوا القرآن وقرءوه بعين الإنصاف من المستشرقين، وعلموا تمامًا أنَّ ما في القرآن -سواء من الأخبار ومن المعاني ومن الحقائق العلمية ومن الإشارات الكونية- ليس من صنع البشر، لم يلبثوا أن أعلنوا إسلامهم، وأعلنوا اعتناقهم للإسلام، وللقرآن الكريم، واتخذوا الإسلام دينًا والقرآن دستورًا، وأعلنوا ندَمهم الشديد على ماضي أيامهم التي قضوها على الكفر والعناد.
يقول “موريس بوكاي” أحد المستشرقين الفرنسيِّين الذين هدى الله قلوبهم وأعلنوا الإسلام، وألّف كتابًا مهمًّا بعنوان: (القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلْم)، يقول “موريس بوكاي”: “لقد أثارت دهشتي هذه الجوانب العلمية التي يختصّ بها القرآن الكريم، والتي كانت مطابقةً تمامًا للمعارف العلمية الحديثة، ولقد درست هذه النصوص بروح متحرّرة تمامًا من كل حُكم سابق، وبموضوعية تامّة؛ بيْد أني لا أنكر تأثير التعاليم التي تلقّيتها في شبابي؛ حيث لم تكن الأغلبية تتحدث عن الإسلام، وإنما عن المحمّديِّين؛ لتأكيد الإشارة إلى أنّ هذا الدِّين أسّسه رجل اسمه محمد، وبالتالي فهو ليس بدين سماوي، فلا قيمة له عند الله.
وكان يمكن أن أظل محتفظًا بالكثير من هذه الأفكار الخاطئة عن الإسلام، وهي شديدة الانتشار في بلادنا، ولمّا تحدثت مع بعض المستنيرين من غير المتخصِّصين، عرفت أنّي كنت جاهلًا قبل أن تُعطى لي صورة واضحة عن الإسلام تختلف تمامًا عن تلك التي تلقّيْتها في الغرب عن الإسلام.
وكان هدفي الأوّل هو: قراءة القرآن الكريم، ودراسة نصّه آية آية. وانتهيت إلى دقّة الإشارات الخاصة بالظواهر الطبيعية، ومطابقتها للمفاهيم التي تملكها اليوم مؤسّسات العلم، والتي لم يكن لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ولا لأي إنسان في عصر محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده أدنى فكرة عنها. وعلى حين نجد في التوراة أخطاء كثيرة علميةٍ وتاريخيةٍ، أخطاء فادحة، فإننا لا نجد في القرآن الكريم أيّ خطإ.
وقد دفعني ذلك إلى أن أتساءل: لو كان مؤلِّف القرآن إنسانًا بشرًا، فكيف استطاع في القرن السابع المسيحي أن يكتب ما اتّضح اليوم أنه يتّفق تمامًا مع معطيات العلْم الحديث؟ ففي مجال القضايا التي تخضع للملاحظة والتجربة مثل: “تطوُّر الجنين” يمكن مقابلة مختلف المراحل الموصوفة في القرآن الكريم مع معطيات علْم الأجنّة الحديث مرحلة مرحلة”.
هذا كلام أحد المستشرقين الذين قرءوا القرآن بعين الإنصاف ليَحكم له أو عليه بحُكم موضوعي. وهو رجل هداه الله تعالى للإسلام؛ لأنه بحث عن الإسلام وبحث في الإسلام مستخدمًا خطوات المنهج العلمي بروح متجرِّدة إلّا من البحث عن الحقيقة، وصدق الله العظيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82].
هذه بعض الملاحظات التي أردت تسجيلَها حول ما اشتمل عليه القرآن في آياته البيِّنات من دلائل صدْقه، ومن العوامل التي تؤيِّد ألوهيّة مصدره. وهي نفس الآيات ونفس الأدلة والبراهين التي يُمكن أن نقدّمها للمستشرقين الآن الذين يردِّدون هذه الافتراءات، وتلك الادعاءات، وهذه الأكاذيب التي ورثناها في القرآن الكريم عن المشركين سابقًا. فباستطاعة أي مسلم الآن أن يمسك قرآنه بيده ويتحدّى به أعْتى عتاة الأرض، وأكثر علماء الأرض، وأعظم مفكِّري الأرض، ويقول له كما قال القرآن سابقًا: فأتوا بآية، فأتوا بسورة، فأتوا بعشر سورة، وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا، فإن كنتم طالبين للحق فآمنوا به، أمّا إن كنتم أهل عناد ومكابرة، فلا شأن لنا معكم الآن؛ لأنَّ أهل العناد وأهل الاستكبار لا ينفع معهم الحوار العلمي؛ لأنهم لا يطلبون الحق في ذاته، وإنما يطلبون العلوّ والاستكبار في الأرض.
كما لا أريد هنا أن أستقصي الآيات القرآنية التي تحدّثت عن الحقائق الكونية المبثوثة في آيات القرآن الكريم، من مثْل قوله تعالى: {لاَ الشّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلّيْلُ سَابِقُ النّهَارِ وَكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يـس: 40]، ومن مثل حديث القرآن عن تاريخ الجنين في بطن أمّه، ومن مثل حديث القرآن عن البحار وأهوالها وما فيها من عجائب، والسماء وأبراجها وما فيها من عجائب، والأفلاك وآثارها وما فيها من دلائل القدرة الإلهية، لَخَرجنا عن الحدّ المحدّد لنا، أو لَخرَجْنا عن مقصودنا، ولكنها فقط إشارات لِما في القرآن الكريم من دلائل صدْقه، ليكون القرآن بنفسه شاهدًا لنفسه على أحقِّيّته، وعلى ألوهية مصدره، وما علينا إلّا أن نعايش القرآن الكريم قراءةً وتدبرًا وفهمًا واستعانةً بالله سبحانه وتعالى على حسن فهمه، والله من وراء القصد.