Top
Image Alt

تعريف الإجارة، وحكمها، وحكمة مشروعيتها

  /  تعريف الإجارة، وحكمها، وحكمة مشروعيتها

تعريف الإجارة، وحكمها، وحكمة مشروعيتها

أما تعريفها: فالإجارة لغةً “الإثابة” يقال: آجره الله أجرًا، من باب قتل: أجر، يأجُر، ومن باب ضرب: أجر، يأجِر، وآجره لغة ثالثة، والأجرة الكراء، وجمعه أجور.  إذًا فالإجارة في اللغة، تعني: الإثابة، آجره الله، أي: أثابه.

واصطلاحًا: عقد على المنافع بعوض.

وعرفتها (مجلة الأحكام العدلية) بأنها: بيع المنفعة المعلومة بمقابلة عوض معلوم.

لكن التعريف الأول أفضل؛ لأن العلم بالمنفعة والعلم بالعوض المقابل للمنفعة، هو أمر زائد عن حقيقة الإجارة.

والإجارة في الأصل جائزة مباحة؛ لأنها -كما سيأتي في الكلام عن حكمة مشروعيتها- تحقق مصالح الناس، ولو افترضنا أن الشرع الشريف لم يبِحها؛ لوقع الناس في كثير من الحرج، فالأصل فيها الجواز أو الإباحة.

ودليل مشروعيتها: الكتاب، والسنة، والإجماع.

– أما الكتاب فهناك آيات متعددة، منها قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ} [الطلاق: 6]، وذلك بالنسبة للطفل الصغير إذا طلق أمه، وأراد أبوه أن يرضعه؛ فإنه إذا طلب من مطلقته أن ترضع هذا الصبي، فإن لها على ذلك أجرًا، والله سبحانه وتعالى يأمر بأداء هذا الأجر مقابل الإرضاع.

وينطبق على ذلك التعريف عقدٌ على منفعة بمقابل، فهنا العقد على المنفعة، وهي إرضاع الطفل، وليس على اللبن، والمقابل هو الأجرة التي يتفق عليها الرجل -والد الطفل- والمطلقة -أم الطفل- التي أرضعت هذا الطفل.

قال تعالى في آية أخرى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الأمِينُ} [القصص: 26]، صحيح أن هذه الآية تحكي موقفًا حدث في الأمم السابقة، ولكن القرآن الكريم حكى هذا الموقف مقرِّرًا له، فإحدى ابنتي الرجل الصالح الذي سقى سيدنا موسى عليه السلام لها ولأختها الغنم جاءت إليه، فقالت له: “هيا إلى والدي ليكافئك على ما سقيت لنا: {فَلَمّا جَآءَهُ وَقَصّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} [القصص: 25]، هنا قال القرآن: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الأمِينُ} [القصص: 26]، وهذا النص يدل على أن الإجارة كانت مشروعة في الأمم السابقة، وهي مشروعة لنا أيضًا.

وأما الدليل على مشروعية الإجارة من السنة، فأحاديث كثيرة رواها البخاري في: (صحيحه)، ومسلم وغيرهما، ومن هذه الأحاديث:

ما ورد عن السيدة عائشة رضي الله  عنها في حديث الهجرة، قالت: ((استأجر رسول الله صلى الله عليه  وسلم وأبو بكر رجلًا من الدِّيل، -والديل: قبيلة من القبائل العربية، وهي بكسر الدال- هاديًا خريتًا- هذا الوصف مدرج في الحديث أضافه ابن شهاب الزهري، يفسر به معنى الخريت فقال؛ والخريت: الماهر بالهداية، يعني: العارف بطرق الصحراء الملتوية، فهو صاحب خبرة- فقول السيدة عائشة: فهو على دين كفار قريش وأمناه، فدفعا إليه رحليهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال.. إلى آخر الحديث))، رواه البخاري في: (الصحيح)، في كتاب الإجارة، والشاهد فيه قول السيدة عائشة رضي الله  عنها: ((استأجر رسول الله صلى الله عليه  وسلم وأبو بكر…)) إلى آخر الحديث، وفيه فوائد في مقدمتها مشروعية الإجارة.

ومن فوائده أيضًا مشروعية اختيار الخبير الناصح الأمين، وفيه جواز استئجار غير المسلم إذا لم يوجد المسلم الذي يحل محله؛ لأن النبي صلى الله عليه  وسلم وأبو بكر، استأجَرَا رجلًا من الكفار، بدليل أنها تقول: ((وهو على دين كفار قريش وأمناه))، يعني: وهو عندهما أمين، وهذا يدل على أنه ينبغي أن نختار فيمن نستأجره مع الكفاءة الأمانة.

ومن الأدلة من السنة على مشروعية الإجارة، حديث أبي هريرة رضي الله  عنه عن النبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه؛ وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))، رواه أحمد، والبخاري، وابن ماجه، وهو في: (الصحيح)، من كتاب الإجارة.

والشاهد في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه  وسلم قد استؤجر لرعاية الغنم على قراريط لأهل مكة، ويؤخذ من هذا الحديث أن الأنبياء استعملهم الله سبحانه وتعالى في رعاية الغنم، والحديث يبين أن كل الأنبياء وظفهم الله في هذا، فقال: ((ما بعث الله نبيًّا))، وهذه صيغة تدل على العموم، فهي نكرة في سياق النفي.

والحكمة في أن الله سبحانه وتعالى كان يستعمل الأنبياء في رعاية الغنم قبل أن يُبعثوا؛ وذلك لتدريبهم على رعاية الأمم؛ لأن رعاية الغنم -ولم يقل رعاية الجمال مثلًا أو الإبل- تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى يقظة، وتحتاج إلى رحمة، ورقة، ورأفة، ورعاية، وعناية أكثر من غيرها من الحيوانات، وذلك ليتدرب على رعاية الأمم بعد ذلك.

وأما قوله: ((على قراريط لأهل مكة))، يعني: أنه رعى هذه الغنم مقابل قراريط، أو في مكان يسمى قراريط، لكن التعبير بقوله: ((على))، يشير إلى أن هذه القراريط، إنما كانت هي الأجرة التي يدفعها له أهل مكة مقابل انتفاعِهِم برعايته لغنمهم، والقراريط جمع قيراط، وهو قدرٌ معينٌ من الذهب، وليس كما هو مشهور في مصر أنه جزء من أربعة وعشرين جزءًا من الفدان، وقد ورد ذلك في أكثر من حديث، مثل حديث: ((من يتبع الجنازة…)).

كما أن الإجماع معقود على مشروعية الإجارة؛ ولا خلاف في ذلك، ولكن الخلاف هل الإجارة موافقة للقياس أو لا؟

الجمهور على عدم موافقة الإجارة للقياس؛ لأن المعقود عليه -وهو المنفعة- غير موجود عند التعاقد، وإنما يتحصل عليه المستأجر شيئًا فشيئًا، فإذا حصَّلَهُ لم يجده، يعني: ينتهي، كالانتفاع بالبيت في السكن عند التعاقد، فهو غير موجودة، إذ الموجود هو العين المؤجرة، فهو تعاقد على غير موجود.

لذلك قال جمهور العلماء -الذين يذهبون إلى القياس- بأنه مخالف للقياس، يعني: تشريع الإجارة فيه مخالفة للقياس، ولكن الرد عليهم سهل ويسير؛ لأن كل شيء إنما تعرف منفعته بقبض الأصل الذي تكون فيه هذه المنفعة، والمنفعة شيء معنوي والحصول عليها معلوم أنه يأتي شيئًا فشيئًا، والشرع عندما أجازها جعلها أصلًا ما دام ورد ذكرها في القرآن وفي السنة. واتفق عليها بالإجماع، فليس من الضروري أن تكون موافِقة للقياس أو غير موافقة؛ لأنها هي بنفسها أصل، إنما يقال: موافق للقياس إذا كان ذلك فرعًا، لكن الإجارة أصل من الأصول ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع.

والحكمة من مشروعيةِ الإجارة: أنها تُلَبِّي حَاجَةَ الناس، فما كل إنسان عنده في ملكه، وفي حوزته كل ما يحتاج إليه، بل يحتَاجُ إلى غيره كثيرًا فيما لا يملكه، وهذا الغيرُ لا تسمحُ نفسُهُ بإعطاءه هذه المنفعة التي يملكها دون مقابل؛ فهو يحتاج إلى المنفعة مني، وأنا احتاج إلى المنفعة منه، فكان توسيط النقود؛ للوصول إلى التعاون على البر والتقوى.

ولكي نتصور إلى أيِّ مدى كان في تشريع الإجارة رحمة وبركة للناس، ورفعٌ للحرج عنهم، وتحقيقٌ لمصالحهم الحاجية، لنا أن نتصور لو أن الإجارة ممنوعة أو محظورة؛ لوقع الناس في حرج شديد، من أجل ذلك شرع الله سبحانه وتعالى الإجارة لرفع هذا الحرج.

error: النص محمي !!