تعريف الإنشاء، وبيان الفرق بينه وبين الخبر
ذكرتُ أنَّ العلماء قسموا الكلام إلى قسمين: خبر وإنشاء، وإذا كان الخبر هو الذي يحتمل الصدق والكذب لذاته، فإنَّ الإنشاء الذي يشمل الأمر والنهي، والاستفهام، والتمني، والدعاء، والترجي، والقسم -فلا يحتمل الصدق والكذب؛ إذ لا يصح أن يقال في جواب شيء مما يشمله الإنشاء: صدق أو كذب.
وقبل أن نذكر الفروق بين الخبر والإنشاء نقول: إن الإنشاء ينقسم إلى قسمين.
القسم الأول: قسمٌ مجمع عليه في الجاهلية وفي الإسلام:
وهذا القسم أربعة أنواع:
الأول: القَسَم، كقولنا: أقسم بالله لقد قام زيد، هذا الكلام إذا قلته فهل تستطيع أن تقول: هذا الكلام يحتمل الصدق والكذب؟ لا تستطيع أن تقول ذلك. وقد اتفق أهل اللسان -يعني: أهل اللغة- من الجاهلية والإسلام على أن قائله أنشأ به القسم، لا أنه أخبر به عن وقوع في المستقبل. فلذلك قال بعض العلماء: القسم جملة إنشائية يُؤكد بها جملة خبرية.
الثاني: الأوامر والنواهي؛ فالأوامر والنواهي من أقسام الإنشاء المجمع عليه، مثال الأمر: افعل كذا، ومثال النهي: لا تفعل كذا، والأوامر في نصوص الشريعة كثيرة: {وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ} [البقرة: 43] {وَآتُواْ الزّكَاةَ} [البقرة: 43] {اعْبُدُواْ رَبّكُمُ} [البقرة: 21] {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]… إلى غير ذلك.
الثالث: هو الترجي، نحو: “لعل الله يأتينا بالخير” وكذلك التمني نحو: ليت لي مالًا فأنفق منه، والعرض نحو: “ألا تنزل عندنا فتصيب خيرًا” والتحضيض، وصيغ التحضيض أربع وهي: ألا، وهلا، ولولا، ولو ما، نحو: “ألا تشتغل بالعلم”.
الرابع: النداء، مثاله: يا زيد أنفق على الفقراء والمحتاجين.
القسم الثاني من أقسام الإنشاء مختلف فيه:
وهو نوعان:
الأول: صيغ العقود نوع من أنواع الإنشاء لكن إنشاء مختلف فيه، ومثال صيغ العقود كبعت، واشتريت، وأنت حر، وامرأتي طالق، فهذه كلها صيغ للعقود، وهي نوع من أنواع الإنشاء، غاية الأمر أنه نوع مختلف فيه؛ ولهذا قالت الأحناف: إنها إخبارات على أصلها اللغوي، وغير الأحناف يرون أنها إنشاءات، وقال غيرهم: إنها إنشاءات منقولة عن الخبر إليه.
الثاني: صيغ الحمد، والذكر، والتنزيه ونحوها.
الفرق بين الخبر والإنشاء:
أولًا: أن الخبر يحتمل الصدق والكذب لذاته، بخلاف الإنشاء فلا يحتمل صدقًا ولا كذبًا.
ثانيًا: أن الإنشاء سبب لثبوت متعلقه، فلا يوجد معناه بدونه، بخلاف الخبر فإنه مظهر لمعناه فقط؛ لأن المعنى يتحقق بدونه.
ثالثًا: أن الإنشاء يتبعه مدلوله، فلا يقع الطلاق مثلًا، والملك مثلًا إلا بعد صدور صيغة الطلاق؛ فبما أن الأخبار تتبعها مدلولاتها، كذلك الإنشاء يتبعه مدلوله، والأخبار تتبعها مدلولاتها، بمعنى: أن الخبر تابع لتقرير مخبره في زمانه، ماضيًا كان أو حاضرًا أو مستقبلًا.
رابعًا: من الفروق بين الخبر والإنشاء: أنَّ الإنشاء هو الكلام الذي ليس له متعلق خارجي يتعلق الحكم النفساني به بالمطابقة وعدم المطابقة، بخلاف الخبر فإنه يشتمل على نسبة كلامية يصح أن تكون مطابقة للنسبة الخارجية؛ فيكون الخبر صادقًا، كما يصح أن تكون غير مطابقة لها؛ فيكون الخبر كاذبًا.
هذه أهم الفروق بين الخبر وبين الإنشاء، وكل هذا مقدمة لتقسيم الخبر؛ لأن الكلام سيأتي عن أقسام الخبر باعتبارات متعددة.
الخبر ينقسم إلى: ما يقطع بصدقه، وإلى ما يقطع بكذبه، وإلى ما لا يعلم حاله ولم يعلم صدقه ولا كذبه، فما هو تعريف كل نوع من هذه الأنواع وما مثاله؟
ما يقطع بصدقه من الأخبار نوعان:
نوع متفق عليه: يعني: اتفق أهل العلم على أن هذا الخبر يفيد الصدق.
ونوع مختلف فيه: بعضهم يقول: هو يفيد الصدق، وبعضهم يقول: لا يفيد الصدق.
قال أهل العلم: المتفق على القطع بصدقه سبعة:
الأول: الخبر الذي علم وجود مخبره، وحصول العلم بهذا النوع قد يكون بالضرورة، كقولنا: الواحد نصف الاثنين، وهذا الخبر يفيد الصدق، ونقطع بصدقه؛ لأن وجود مخبره معلوم بالضرورة، وقد يكون بالاستدلال كقولنا: العالم حادث، والعالم: كل ما سوى الله، فأنت تستدل على حدوث العالم بإعمال الفكر والرأي، لكن في النهاية نقطع بحدوث العالم.
الثاني: خبر الله سبحانه وتعالى؛ فكل ما يخبر به الله عز وجل فنحن نقطع بصدقه؛ لأنه لو جاز الكذب عليه لكنا في بعض الأوقات -وهو وقت صدقنا وكذبه- أكمل منه من جهة الصدق والكذب؛ لكون الصدق صفة كمال والكذب صفة نقص، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك؛ إذن لك أن تقول: أن خبر الله سبحانه وتعالى مقطوع بصدقه اتفاقًا؛ لاستحالة الكذب في حق الله -تبارك وتعالى.
الثالث: خبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، والمعتمد في حصول العلم به هو دعواه الصدق في كل الأمور وظهور المعجزة عقب هذه الدعوى؛ لأن المعجزة حينئذٍ في قوة قوله تعالى: ((صدق عبدي فيما يبلغ عني)).
الرابع: خبر كل الأمة؛ لأن الإجماع حجة، فلو أن الأمة أجمعت على خبر معين نقطع بصدق هذا الخبر، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن الأمة لا تجتمع على ضلالة.
الخامس: فهو خبر جمعٍ عظيم من الناس يستحيل في العادة أن يتفقوا على الكذب إذا ما أخبرونا عن شيءٍ من أحوالهم، كأن يخبرونا مثلًا بأنهم يجيدون السباحة، أو ركوب الخيل، أو يحبون من الثياب البيضاء، ونحو ذلك.
السادس: هو الخبر الذي احتفت به قرائن لا تدع مجالًا للكذب، وذلك -كما يمثل أهل العلم- كخبر ملكٍ عن موت ولده، ولا مريض عنده سواه.
السابع: هو الخبر المتواتر، وهذا سيأتي الكلام عنه مفصلًا عند تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد، وحاصل الخبر المتواتر: الخبر الذي ترويه جماعة، عن جماعة، عن جماعة تحيل العادة تواطؤهم واتفاقهم على الكذب.
وأما الخبر المختلف فيه فمنه ما يلي:
الأول: إذا أخبر أحد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر من الأمور ولم ينكر صلى الله عليه وسلم عليه، فهل عدم الإنكار دليل على صدق الخبر مطلقًا، أم لا؟ قيل: نعم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر باطلًا، وقيل: يكون دليلًا على صدق الخبر في حالتين فقط هما:
الحالة الأولى: أن يكون المخبر به أمرًا دينيًّا لم يتقدم بيانه من الرسول صلى الله عليه وسلم أو تقدم بيانه ولكن مما يجوز نسخه.
الحالة الثانية: هي أن يكون المخبر به أمرًا دنيويًّا وادَّعى المخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم به، أو علمنا نحن علمه صلى الله عليه وسلم به.
الثاني: فهو إذا أخبر أحد عن أمرٍ بحضرة جمع كبير؛ بحيث لو كان كاذبًا لما سكتوا عن تكذيبه فأمسكوا عن ذلك ولم يكذبوه، فقال بعض العلماء: إن هذا الخبر يفيد ظن صدقه؛ لجواز عدم علمهم بما أخبر به، وقال بعضهم: إنه يفيد اليقين؛ لامتناع جهلهم به في العادة، ومع عدم الجهل فإن العادة تحيل عدم تكذيبهم له إذا كان كاذبًا فيما أخبر به.
الثالث: هو الخبر الذي يبقى نقله مع توافر الدواعي على إبطاله، فالجمهور يرى أن بقاء نقل هذا الخبر لا يعتبر دليلًا على صدقه قطعًا؛ لجواز أن يكون بقاء النقل لظن صدق الخبر، وإلا لما نقل إلا الخبر المقطوع بصدقه.
أما الخبر الذي يقطع بكذبه: فهو أيضًا أنواع:
الأول: الخبر الذي علمنا خلافه إما بالضرورة كقول القائل: النار باردة، فهذا نقطع بكذبه؛ لأن الضرورة داعية إلى أن النار حارة أو محرقة وليست باردة، أو بالاستدلال كالخبر المخالف لما علم صدقه من خبر الله تعالى، أو غيره، كقول القائل: العالم قديم، فنحن نقطع بكذب هذا الخبر بطريق الاستدلال.
الثاني: الخبر الذي يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة.
الثالث: الخبر الذي يروى في وقت قد استقرت فيه الأخبار، فإذا فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب ولا في صدور الرواة علم أنه لا أصل له، وأما في عصر الصحابة حين لم تكن قد استقرت الأخبار، فإنه يجوز أن يروي أحدهم ما لم يوجد عند غيره.
الرابع: الخبر الذي صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا قالوا: حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلًا، فهذا يحكم بكذبه.
الخامس: الخبر الذي لو صح لتواتر؛ لكون الدواعي على نقله متوافرة، إما لغرابته كسقوط الخطيب عن المنبر يوم الجمعة، يعني: لو قال واحد من الناس: إن الخطيب سقط من على المنبر يوم الجمعة ولم يؤيد الناس الحاضرون للجمعة مع هذا الراوي هذا الخبر، فنحن نقطع بكذب هذا الخبر؛ لأن الخبر الآن توافرت الدواعي على نقله ولم ينقل، أو لتعلقه بأصل من أصول الدين كالنص على إمامة علي -كرم الله وجهه- فعدم تواتره مع توافر الدواعي على نقله دليل على عدم صحته، وقد خالفت في ذلك الشيعة وقالت: إن عدم التواتر لا يدل على عدم صحة الخبر، فالنص الجلي دل على إمامة علي كرم الله وجهه ولم يتواتر كما لم يتواتر غيره من الأمور المهمة كالإقامة والتسمية في الصلاة، وحنين الجذع وتسبيح الحصى، إلى غير ذلك.
أما الخبر الذي لم يعلم صدقه ولا كذبه فهو ثلاثة أنواع:
الأول: ما ترجح فيه جانب الصدق على جانب الكذب، وهو خبر العدل، يعني: لو أخبرنا العدل فموقفنا أن نرجح جانب صدقه على جانب كذبه.
الثاني: ما ترجح فيه جانب الكذب على جانب الصدق، وهو خبر الفاسق، الفاسق إذا أخبرنا بخبر أيهما نرجح: صدقه، أم كذبه؟ نرجح -لا شك- كذبه، فهذا خبر الفاسق.
الثالث: ما استوى فيه الأمران: ترجيح الصدق، وترجيح الكذب، وهذا هو المعروف بخبر مجهول الحال.
والذي تعرض له الأصوليون بالشرح هو النوع الأول، وهو خبر العدل؛ لأنه حجة في إثبات الأحكام الشرعية، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عنه بالتفصيل، وأما النوعان الآخران: خبر الفاسق، وخبر مجهول الحال فلا يُحتج بهما.
ما ذكرناه الآن كان تقسيمًا للخبر من حيث القطع بصدقه أو بكذبه، أو عدم القطع بواحد منهما.