Top
Image Alt

تعريف الاستحسان، وآراء العلماء في حجيته

  /  تعريف الاستحسان، وآراء العلماء في حجيته

تعريف الاستحسان، وآراء العلماء في حجيته

. الاستحسان لغة:

الاستحسان في لغة العرب: هو عد الشيء حسنًا، فأنت تستحسن شيئًا ما، أي: تعده حسنًا، يعني: من وجهة نظرك. فالاستحسان: استفعال من الحسن، وهو عد الشيء واعتقاده حسنًا، كذا قرر أهل اللغة في تعريفهم للاستحسان.

وقال بعضهم: والشيء الحسن هو ما يميل إليه الإنسان، ويهواه من الصور والمعاني، وإن كان مستقبحًا عند غيره.

2. الاستحسان اصطلاحًا:

عُرّف الاستحسان في اصطلاح الأصوليين بتعريفات كثيرة، نذكر تعريفًا لكل مذهب من المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

أولًا: تعريف الحنفية:

عرف الحنفية الاستحسان بتعريفات كثيرة ومتعددة، أبينها تعريف أبي الحسين الكرخي بأنه: العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه هو أقوى.

ثانيًا: تعريف المالكية:

عرّف المالكية -وهم أيضًا من أكثر الناس أخذًا للاستحسان- الاستحسان بعدة تعريفات، كلها قريبة من تعريفات الحنفية، ولا تخرج عنها.

فعرفه ابن العربي مثلًا بقوله: الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو: العمل بأقوى الدليلين.

فالمسألة فيها دليلان، أحد الدليلين أقوى من الآخر، فأنا أعمل بالأقوي، وأترك الأضعف، فابن العربي يقول: الاستحسان عندنا، وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين، فالعموم إذا استمر، والقياس إذا اطرد، فإن مالكًا، وأبا حنيفة يريان: تخصيص العموم بأي دليل كان، العموم إذا اضطرد، أو القياس إذا اضطرد، والعموم إذا استمر.

فإن الإمام مالكًا، وأبا حنيفة يريان: تخصيص العموم بأي دليل كان، من ظاهرٍ، أو معنى، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة، حتى عند الإمام مالك يجوز تخصيص النصوص العامة بالمصلحة، وتخصيص النصوص العامة بالمصلحة يكون من باب الاستحسان.

تعريف الحنابلة:

عرف الحنابلة الاستحسان بتعريفات متعددة، أبين هذه التعريفات، وأوضحها تعريف ابن قدامة رحمه الله: بأنه العدول بحكم مسألة عن نظائرها، لدليل خاص من كتاب، أو سنة.

وهذا التعريف هو بعينه تعريف الكرخي الذي سبق بيانه، فابن قدامة يقول: الاستحسان: العدول بحكم مسألة عن نظائرها، فنظائرها له حكم، وهي لها حكم آخر، وإنما أعطينا هذه المسألة حكمًا آخر، لدليل خاص من كتاب، أو سنة، وجدير أيضًا أن نعرف أن الاستحسان في الحقيقة هو عمل بدليل من كتاب، أو سنة، وليس قولًا من الهوى، ولا بالتشهي في دين الله عز وجل.

تعريف الشافعية:

عرف الغزالي الاستحسان -وهو من الشافعية- بأنه: عبارة عما يستحسنه المجتهد بعقله.

وتعريف الغزالي هو أحد التعريفات التي أوردها ابن قدامة -رحمه الله- في روضته، فقد ذكر للاستحسان ثلاثة تعريفات، فبعد أن ذكر تعريفه ذكر تعريف الغزالي، وقال: هو عبارة عما يستحسنه المجتهد بعقله، والغزالي ذكر ذلك في (المستصفى). وهو الذي يسبق إلى فهم السامع حينما ذكر الاستحسان.

فتعريف الغزالي تعريف باطل؛ لأنه أرجع الاستحسان وهو دليل شرعي على رأي من يحتج به، إلى عقل المجتهد، ومعلوم أن أدلة الأحكام، ومصادر التشريع، لا تؤخذ عن طريق استحسان العقل لها أبدًا، وإنما طريقها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه  وسلم وما ألحق بهما من إجماع، أو قياس عليهما؛ أما ما يستحسنه المجتهد بعقله دون أن يكون له دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس، فهو باطل، ومرفوض من جميع الأئمة؛ لأنه يعتبر قولًا في الدين بالهوى والتشهي، والأمة كلها متفقة على أنه لا يجوز لأحد أن يقول في شرع الله تعالى، وأحكامه بهواه من غير دليل شرعي.

الحاصل في التعريفات السابقة:

يظهر لنا -من خلال التعريفات السابقة- أن الاستحسان ليس سوى ترجيح قياس على قياس، أو ترجيح نص خاص على قياس، وقاعدة عامة، وليس هو قولًا بالهوى والتشهي أبدًا؛ ولذلك أبطلنا تعريف الغزالي بأنه: عبارة عما يستحسنه المجتهد بعقله.

فالقياس والقاعدة العامة حرمة النظر إلى المرأة الأجنبية، ولكن رجحنا نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية للتداوي من باب المصلحة، والقياس والقاعدة العامة حرمة أكل الميتة، لكن جوزنا أكل الميتة حال المخمصة، وحال الضرورة لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ} فرعايةً لحالة المضطر قلنا: بِحِل أكل الميتة؛ استحسانًا.

فالاستحسان في الواقع ونفس الأمر ليس دليلًا زائدًا على الأدلة الأربعة التي هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، بل هو إما راجع إلى النص من كتاب أو سنة، وإما راجع إلى الإجماع، وإما راجع إلى القياس.

فعندي قياسين في مسألة، أحدهما أرجح من الآخر، فأنا أرجح القياس الأقوى.

هذا حاصل ما يقال في تعريف الاستحسان اصطلاحًا.

3. تحرير محل النزاع في معنى الاستحسان، وحجيته:

أولًا: لا خلاف بين العلماء في جواز استعمال لفظ الاستحسان، وإطلاقه؛ لوروده في الكتاب، والسنة، وإطلاق أهل اللغة والاجتهاد.

بعبارة أخرى: اتفق الأصوليون على أن لفظ الاستحسان -يعني: كلمة استحسن وما اشتق منها- يجوز استعمالها، ولا خلاف في ذلك؛ لأن هذا اللفظ ورد استعماله في القرآن، وورد استعماله في السنة، وورد استعماله في الاجتهاد، وورد استعماله عند أهل اللغة.

وروده في الاجتهاد: قال الله تعالى في شأن التوراة: {فَخُذْهَا بِقُوّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145] إذن القرآن الآن استعمل لفظ الاستحسان، وهذا دليل على أنه يجوز استعمال هذا اللفظ، وقال أيضًا في سورة الزمر: {الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] إذن مادة الاستحسان مستعملة، ومستخدمة في الكتاب العزيز، وفي السنة النبوية.

وروده في السنة: قال صلى الله عليه  وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) انظر إلى مادة الحسن أو الاستحسان المستخدمة في الحديث.

إذن، السنة استخدمت مادة الحسن وما اشتق منها، والحديث رواه الحاكم في (المستدرك) بلفظ: ((ما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا فهو عند الله سيئ)) رواه الإمام أحمد، وغيره.

وروده على ألسنة الأئمة: نُقل عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه قال: أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهمًا.

والمتعة ما وُصلت به المرأة بعد الطلاق، قال تعالى: {وَمَتّعُوهُنّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236 ] أي: أعطوهن شيئًا يكون متاعًا لهن. فالإمام الشافعي -رحمه الله- استعمل واستخدم لفظ الاستحسان في قوله، فقال: أستحسن في المتعة -يعني: ما توصل به المرأة بعد الطلاق- أن تكون ثلاثين درهمًا.

وقال كذلك: وأستحسن ثبوت الشفعة للشفيع ثلاثة أيام.

يعني: إذا أراد رجل أن يشتري شيئًا بالشفعة؛ لأنه جار للشيء المبيع، فتثبت الشفعة له مدة ثلاثة أيام.

ومن كلامه رحمه الله أيضًا، قال: وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة.

فهناك عقد في الفقه الإسلامي يسمى: عقد الكتابة، ومعناه: أن السيد يكاتب عبده أن يدفع له مبلغًا من المال على أقساط، أو على نجوم، فإذا ما دفع هذه النجوم أو هذه الأقساط، صار حرًّا.

إذن الإمام الشافعي استعمل لفظ الاستحسان، فلا خلاف ولا نزاع بين الأصوليين في جواز استعمال لفظ الاستحسان، لوروده في الكتاب والسنة، وكلام الأئمة.

ثانيًا: اتفق الأئمة على أن الاستحسان بمعناه اللغوي وهو: ميل الإنسان إلى ما يحبه ويهواه ليس حجة، ولا يصح أن يكون أصلًا من الأصول التي يعتد بها في تشريع الأحكام؛ لأنه قول في الدين بالهوى والتشهي، وهو ممنوع إجماعًا.

واختلفوا بعد ذلك في الاستحسان من حيث كونه دليلًا يحتج به، أو ليس دليلًا.

الحنفية والمالكية: ذهبوا إلى أنه حجة، وقالت الشافعية: لا يعتبر حجة، حتى نُقل عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه قال: من استحسن فقد شرع، أي: وضع شرعًا جديدًا.

الحنابلة: اختلف النقل عنهم، فنقل الآمدي وابن الحاجب مثلًا عن الحنابلة: أنهم يعتبرون الاستحسان حجة كالحنفية، ونقل غير الآمدي وابن الحاجب أن الحنابلة: لا يعتبرون الاستحسان حجة كالشافعية.

لكن عند التحقيق نجد أن الحنابلة يأخذون بالاستحسان؛ لأن الاستحسان كما فهمه الحنابلة، وطبقوه في الفروع- هو: العدول بحكم المسألة عن نظائرها، لدليل خاص من كتاب، أو سنة، فهو في الواقع ونفس الأمر عمل بأدلة، وليس قولًا بالهوى، ولا بالتشهي.

أدلة الحنفية والمالكية على أن الاستحسان حجة:

استدلوا على حجية الاستحسان بالكتاب العزيز، والسنة النبوية، والإجماع.

أولًا: الدليل من الكتاب:

الدليل الأول: قول الله تعالى في كما سورة الزمر: {الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] ووجه الاستدلال من الآية على أن الاستحسان حجة، هو أن الآية وردت في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول، حتى قال السرخسي في كتابه (المبسوط) وهو من كتب الفقه: والقرآن كله حسن، ثم أمر باتباع الأحسن، أو أَمر -يعني: الله تعالى- باتباع الأحسن، ولولا أن الاستحسان حجة لما أورد ذلك.

الدليل الثاني: قول الله تعالى في سورة الزمر أيضًا: {وَاتّبِعُـوَاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُـمْ} [الزمر: 55] ووجه الاستدلال على حجية الاستحسان أن الله تعالى أمر باتباع أحسن ما أُنزل، فدل على ترك بعض، واتباع بعض، بمجرد كونه أحسن، وهو معنى الاستحسان، ومعلوم أن الأمر للوجوب؛ لأنه في الآية أمر مطلق، ولولا أن الاستحسان حجة لما كان كذلك.

ثانيًا: الدليل من السنة: قول النبي صلى الله عليه  وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآوه قبيحًا فهو عند الله قبيح)) ووجه الدلالة من هذا الحديث على المطلوب، أن هذا يدل على أن ما رآه الناس في عاداتهم، ونظر عقولهم مستحسنًا فهو حق، يعني: ما يراه الناس في نظر عقولهم، وفي عاداتهم، وفي أعرافهم، ما يراه الناس مستحسنًا فهو حق؛ لأن النبي يقول: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) والذي عند الله حسن يكون حقًّا؛ لأن الذي ليس بحق فليس بحسن عند الله تعالى، وما هو حق وحسن عند الله فهو حجة، ولولا أنه حجة لما كان عند الله حسنًا.

ثالثًا: الدليل من الإجماع: قال الحنفية والمالكية ومن وافقهم: وأما الإجماع على أن الاستحسان حجة:

الصورة الأولى: أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام، فأتَوا بصور هي محل اتفاق العلماء، ومحل اتفاق الفقهاء، وجعلوها دليلًا على حجية الاستحسان، من هذه الصور أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة، وهذا كان موجودًا، وإن لم يكن موجودًا في زماننا، فمن يدخل الحمام الآن قد يكون عارفًا بالأجرة مسبقًا، لكن قبل ذلك كان دخول الحمام من غير تقدير أجرة، وكان هذا مستحسن. ولا تقدير للماء المصبوب، يعني: الداخل للحمام لا يعرف كمية الماء التي سيستعملها، ولا تقدير مدة اللبث في هذا الحمام، هل هي ساعة؟ أو أكثر؟ والأمة قد استحسنت ذلك.

الصورة الثانية: استحسنت الأمة شرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير العوض، وهذه من الصور التي كانت موجودة قديمًا: أن الناس كانت تسقي الماء، ولا تحدد أجرة، ولا تحدد قدرًا معينًا من الماء في مقابل السقي، والأمة استحسنت ذلك.

فهذه أمور لو أَجريت عليها القواعد، والأقيسة، والنصوص العامة لحكمت بمنعها؛ لأن العقود الآن تكون واردة على أشياء غير معلومة، لكن الأمة استحسنت هذه الأشياء، وعدلت بحكمها عن حكم نظائرها؛ لأنها صارت من عادات الناس ومن أعرافهم، ومن الأمور المستحسنة في عقولهم.

قال أهل العلم: ولا سبب لذلك إلا أن المشاحة في مثل ذلك قبيحة في العادة، فاستحسن الناس تركها، يعني: لو حصلت مشاحة بين صاحب الحمام والداخل للحمام في تحديد المدة التي سيمكثها الإنسان في الحمام، وقدر الماء المستعمل، والأجرة التي سيدفعها، لو حصلت مشاحة في هذه الأمور لعدها الناس أمرًا قبيحًا؛ ولذلك تركوها استحسانًا.

هذه بعض الصور التي استدل بها الحنفية، والمالكية، ومن وافقهم على حجية الاستحسان.

الإمام الشاطبي رحمه الله في (الموافقات):

قال الإمام الشاطبي بعد ذكر تعريف الاستحسان ومعناه: وله في الشرع أمثلة كثيرة، كالقرض مثلًا، فإنه ربًا في الأصل؛ لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل، ولكنه أبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين.

قال الشاطبي: ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر، يجوز للإنسان أن يجمع العشاء مع المغرب في وقت المغرب، عند المطر الشديد.

ومثله أيضًا: جمع المسافر، وقصر الصلاة، والفطر في السفر الطويل، وصلاة الخوف، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل.

وذكر الشاطبي أشياء من هذا القبيل كثيرة، ثم قال: هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة، وعليها بنى مالك، وأصحابه.

أدلة الشافعية في إبطال القول بالاستحسان:

استدل الإمام الشافعي -رحمه الله- بأدلة كثيرة؛ لإبطال القول بالاستحسان:

الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى لم يترك الإنسان سدًى، بل أمره ونهاه، وبين له ما أمره به، وما نهاه عنه في كتابه العزيز، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه  وسلم نصًّا، أو دلالة، فالأوامر للإنسان والنواهي ثابتة نصًّا، أو دلالة، فمن جوّز الاستحسان، واعتبره حجة -على فهم الإمام الشافعي- يكون قد فهم أن الله تعالى ترك الإنسان سدًى، وهو في ذلك مخالف لما قاله الله تعالى، وما قرره رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

الدليل الثاني: لا يجوز الحكم إلا بالخبر، أو الإجماع، أو القياس عليهما، يعني: الحكم في الشريعة الإسلامية لا يثبت إلا بنص من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس عليهما، والقول بالاستحسان ليس قولًا بالخبر، أو الإجماع، ولا قياسًا عليهما، فالقول بالاستحسان قول بلا دليل، وعليه فالاستحسان لا يكون حجة، ولا دليلًا.

الدليل الثالث: أن الصحابة رضي الله  عنهم كانوا يحكمون بالخبر، أو بالقياس عليه، كما فعلوا في الحكم في جزاء الصيد، فقد حكموا فيما ليس له مثل بأقرب الأشياء شبهًا بـ”النعم” ولم يقولوا برأيهم واستحسانهم، وكأن هذا الدليل عمل للصحابة، ومذهب للصحابة، فالصحابة رضي الله  عنهم كانوا إذا أرادوا أن يحكموا على شيء حكموا: إما بالخبر، وإما بالقياس عليه.

الدليل الرابع: لو جاز للمجتهد القول بما يستحسنه عقله فيما ليس فيه خبر؛ لجاز لغيره من العوام أن يقولوا ذلك أيضًا، وهذا لا يجوز بالاتفاق.

وأنت ترى من كلام الشافعي -رحمه الله- أنه منصب على الاستحسان بالعقل، وقد قررنا قبل ذلك أن الاستحسان بالعقل الذي مبني على الهوى والتشهي وبدون دليل، لا يكون حجة باتفاق العلماء.

الدليل الخامس: إن الاستحسان لا ضابط له.

فالمسائل التي لا نص فيها، لو جوزنا لكل مفتٍ ومجتهد، وحاكم وقاض أن يستحسن فيها؛ لأدى ذلك إلى وجود أحكام مختلفة في النازلة الواحدة، هذه الأحكام لا ضابط لها، ولا مقاييس تبين الحق فيها، وما هكذا تُفهم الشرائع.

حاصل القول في حجية الاستحسان:

بعد أن ذكرنا أدلة الحنفية والمالكية ومن وافقهم، وأدلة الشافعية ومن وافقهم -نستطيع أن نقرر الآتي:

1. إن الاستحسان كما ظهرت حقيقته، من خلال تعريفه عند الحنفية، والمالكية، والحنابلة، ليس قولًا بالهوى، ولا تشريعًا بمجرد الرأي، ولا خروجًا على النصوص الشرعية؛ فهو يعتمد عند أبي حنيفة على القياس، وعلى الأثر، وعلى الإجماع، وعلى العرف الذي يعتبره أبو حنيفة دليلًا من الأدلة الشرعية في غير موضعِ نص، كما يعتمد أيضًا على الضرورة، ومن المعلوم أن الضرورات تبيح المحظورات.

ومن يتتبع مسائل الاستحسان في الفقه الحنفي يجدها -إلا القليل منها- ترجع إلى قاعدة الاستثناء من عموم الأدلة، والقواعد الكلية، كما ظهر من تعريف الكرخي؛ فمسائل الاستحسان التي امتلأت بها كتُب الحنفية، ما هي إلا استثناء من عموم الأدلة، ومن القواعد الكلية؛ والاستثناء من العمومات، ومن القواعد أمر مقرر، وثابت، وكذا أكثر تعريفات المالكية للاستحسان صريحة في أنه استثناء؛ وإذا كان الاستحسان يرجع إلى الاستثناء من مقتضى الدليل أو القاعدة فلا يستطيع أحد إنكاره؛ لتقرير أصله في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وعمل الصحابة من غير نكير.

فكلام الشافعي: “من استحسن فقد شرع” المراد به: من استحسن بهواه، بدون دليل، أو بمجرد رأيه الخالي عن دليل، أما الاستحسان الذي هو استثناء من مقتضى الدليل، أو القاعدة فلا يسع الإمام الشافعي -رحمه الله- أن ينكره أبدًا؛ لأن أصل هذا الاستثناء مقرر في القرآن، وفي السنة، وفي عمل الصحابة رضي الله  عنهم.

أما في القرآن، مبدأ الاستثناء من الأدلة والقواعد: فالقرآن الكريم لمَّا حرم بعض المحرمات قال في سورة الأنعام: {إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [البقرة: 119] فالله تعالى عدد أشياء، وحرمها علينا: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ…} [المائدة: 3] إلى آخر الآية الكريمة، وقال أيضًا: {فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] فقول الله تعالى: {إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}، {إِلاّ} هذه أداة استثناء، يعني: هذه الأشياء التي عددتها لكم حرام عليكم {إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}، فيحرم علينا أكل الميتة، إلا إذا اضطررنا إلى أكل الميتة؛ هذا الاستثناء مقرر بصريح القرآن الكريم، فيجوز حينئذ أكل الميتة، أو ارتكاب المحظور حال الضرورة.

إذن لا يسع الإمام الشافعي ولا غيره أن ينكر استثناء من مقتضى عموم، أو من مقتضى دليل؛ لأن القرآن أثبت هذا الاستثناء.

وأما تقرير هذا المبدأ في السنة، فالرسول صلى الله عليه  وسلم يطبق ذلك عمليًّا، فيحرم على الناس أن يقطعوا شجر الحرم وحشائشه، كما في معنى الحديث: ((لا تلتقط لقطته)) يعني: لقطة الحرم: ((ولا ينفر صيده، ولا يعضد شجره)) يعني: لا يقطع شجر الحرم ولا حشائشه، ثم يستثني النبي صلى الله عليه  وسلم الإذخر -وهو نبات، كانت تستعمله العرب في تثقيف البيوت- استجابة لسؤال عمه العباس، الذي بين له حاجة الناس إليه، وعدم استغنائه عنهم، فهذا الاستثناء من الرسول صلى الله عليه  وسلم دليل على أن الإذخر يأخذ حكمًا غير حكم شجر الحرم وحشائشه.

فما حكم قطع أشجار الحرم وحشائشه وكل ما نبت في أرض الحرم؟ تقول: حرام.

وما حكم قطع الإذخر؟ تقول: حلال.

فلماذا استثنيت هذه الصورة من نظائرها؟ تقول: لأنه ثبت بالدليل أن النبي صلى الله عليه  وسلم استثناه؛ إذن الاستثناء من عمومات الأدلة ومن القواعد الكلية وهو أمر مقرر في القرآن، وفي السنة النبوية.

كما طبق الصحابة مبدأ الاستثناء -الذي هو الاستحسان- في كثير من الوقائع، فمثلًا حكموا بإرث المرأة التي طلقها زوجها في مرض موته، مع أن الأصل والقاعدة الكلية المستمرة، والنصوص العامة: انتهاء الإرث بانتهاء العلاقة الزوجية؛ لزوال الموجب للميراث، وهو الزوجية، فأسباب الميراث -كما قال بعضهم:

أسباب ميراث الورى ثلاثة

*كل يفيد ربه الوراثة

وهي نكاح وولاء ونسب

*ما بعدهن للمواريث سبب

فعقد الزوجية الصحيح سبب من أسباب الميراث، والولاء سبب من أسباب الميراث، والنسب سبب من أسباب الميراث، فعقد الزوجية طالما هو قائم يثبت التوارث بين الزوجين، ولو طلق الرجل زوجته لا ترثه، ومع ذلك استثنينا المرأة التي طلقها زوجها في مرض موته؛ لأنه بطلاقه إياها في مرض موته يقصد الفرار من توريثها، فمعاملة له بنقيض مقصوده ورثناها منه طالما في العدة.

إلى غير ذلك من الأحكام والفتاوى التي صدرت من الصحابة، تطبيقًا لمبدأ الاستثناء، بناء على ما اقتضته المصلحة، وهو ما يصدق عليه حد الاستحسان عند القائلين به.

وعلى هذا يمكن أن نحمل قول الشافعي: من استحسن فقد شرع، على المعنى المتفق علي رده، بمعنى: ميل الإنسان إلى ما يحبه ويهواه؛ لأنه يكون قولًا في الدين بالهوى والتشهي، وهو متفق على منعه.

كلام ابن قدامة على الاستحسان وحجيته:

المعنى الأول من معاني الاستحسان:

فقد قال ابن قدامة -رحمه الله- في كتاب (الروضة): الثالث: الاستحسان، ولا بد أولًا من فهمه، وله ثلاثة معان:

أحدها: أن المراد به العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة. قال القاضي يعقوب: القول بالاستحسان مذهب أحمد رحمه الله.

وهو في هذه الجزئية يبين أن الاستحسان حجة شرعية يقول بها الإمام أحمد، كما يقول بها الحنفية.

والثاني: أنه ما يستحسنه المجتهد بعقله.

وقد ذكرنا أن هذا المعنى ذكره الغزالي -رحمه الله- في (المستصفى) وقد أبطلناه؛ لأن الاستحسان بمجرد العقل دون استنادٍ إلى دليل، من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس، هذا لم يقل به أحد من الأئمة.

وقال ابن قدامة -رحمه الله: ولنا على إفساده مسلكان.

أي: والدليل لنا على إفساد المعنى الثاني من معاني الاستحسان: مسلكان:

الأول: أن هذا لا يُعرَف من ضرورة العقل ونظره. ولم يرد فيه سمع متواتر، ولا نقل آحاد، ومهما انتفى الدليل وجب النفي.

يعني ما يستحسنه المجتهد بعقله غير معروف من ضرورة العقل، ولا من نظر العقل، ولم يرد سمع، أو دليل، أو خبر، أو أثر، متواتر على أن ما يستحسنه المجتهد بعقله هو دليل تُبنى عليه الأحكام.

الثاني: أنا نعلم بإجماع الأمة قبلهم -يعني قبل من يرى أن الاستحسان هو ما يستحسنه المجتهد بعقله- أن العالم ليس له الحكم بمجرد هواه وشهوته، فهذا أمر مقرر، ليس له الحكم بمجرد هواه وشهوته من غير نظر في الأدلة، بل المعتبر والمتفق عليه عند أهل العلم أن معرفة الحكم تكون عن دليل، وتكون عن نظر، وتكون عن بحث، وتكون عن تدبر، إلى غير ذلك.

قال ابن قدامة: والاستحسان من غير نظر حكم بالهوى المجرد، فهو كاستحسان العامي.

وهذا الكلام من ابن قدامة فيه إشارة إلى مذهب الشافعي -رحمه الله- في الاستحسان، وأنه ليس بحجة، بل قال: من استحسن فقد شرَّع، يعني وضع شرعًا جديدًا، ثم استشهد الشافعي -رحمه الله- بأن النبي صلى الله عليه  وسلم لما أرسل معاذًا قاضيًا إلى اليمن، وقال له: ((بمَ تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو)). فمعاذ رضي الله  عنه حين بعث إلى اليمن لم يقل: إني أستحسن، بل ذكر في معرفته للأحكام الشرعية الكتاب والسنة والاجتهاد فقط.

وهذا الكلام من ابن قدامة مناقشة لأدلة الحنفية والمالكية والحنابلة على حجية الاستحسان، وهي مناقشة مفترضَة، وإلا فابن قدامة -رحمه الله- ممن يرى أن الاستحسان بالمعنى الذي قرره حجة، وهو العدول بحكم المسألة عن نظائرها، لدليل خاص من كتاب أو سنة.

فهم يقولون -يعني من يناقش دليل الجمهور، أو دليل الحنفية والمالكية والحنابلة : لعل هذه الصور التي استشهدتهم بها على حجية الاستحسان، هي في الواقع ونفس الأمر ثابتة بالسنة التقريرية، فإن مثل هذه الصور كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه  وسلم وقد عرف بها، ومع ذلك أقرها؛ فهي إذن ثابتة بالسنة التقريرية، وليس بالاستحسان كما يرى الحنفية والمالكية والحنابلة.

قال: وما استشهدوا به من المسائل لعل مستند ذلك جريانه في عصر النبي صلى الله عليه  وسلم وتقريره عليه، مع معرفته به؛ لأجل المشقة في تقدير الماء المصبوب في الحمام، ومدة المقام، والمشقة سبب الرخصة.

إذن هذه المناقشة حاصلها: أن الاستحسان ليس بحجة، وأن ما ذكرتموه -يا معشر الحنفية، ومعكم المالكية والحنابلة- من صور زعمتم أنها إجماع على الاستحسان، هي في الواقع ونفس الأمر ثابتة بالسنة التقريرية؛ لأنها كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه  وسلم وقد عرف بها ولم ينكرها.

والثالث: في تعريفه: المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه. وقد بينا ضعف هذا المعنى وزيفه.

error: النص محمي !!