Top
Image Alt

تعريف الاستصحاب، وأنواعه وحجيته

  /  تعريف الاستصحاب، وأنواعه وحجيته

تعريف الاستصحاب، وأنواعه وحجيته

تعريف الاستصحاب:

ابن قدامة عدل عن القياس إلى مصدر آخر:

إن جماهير العلماء يقولون: الأصول المتفق عليها أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

الاستصحاب في لغة العرب: طلب المصاحبة واستمرارها أنا أستصحبك. يعني: أطلب مصاحبتك، وأطلب الاستمرار أن أكون صاحبًا لك، فالاستصحاب “استفعال” من الصحبة، وهي الملازمة.

الاستصحاب في اصطلاح الأصوليين:

عُرف بتعريفات كثيرة جدًّا.

والحاصل: أن ما عُلم وجوده في الماضي ثم حصل تردد في زواله حكمنا ببقائه استصحابًا لوجوده السابق.

2. من أمثلة الاستصحاب:

المثال الأول: لو خرجت من بيتك وأنت متوضئ إلى عملك أو إلى درسك أو إلى محاضرتك أو إلى أي جهة تتجه إليها، خرجت وأنت متوضئ وجاء وقت الصلاة، ثم ترددت هل أنت على وضوء أو لست على وضوء؟

أقول لك: استصحب الحال التي خرجت بها -هذا معنى كلامهم- فالذي عُلم وجودُه في الماضي في هذه الصورة هو وضوؤه، فأنت خرجت وأنت متوضئ، ثم حصل تردد في زواله: هل انتقض وضوئي أم لا؟ أنت غير متيقن. قال أهل العلم: نحكم ببقائه -يعني: ببقاء الوضوء- استصحابًا لوجوده السابق.

المثال الثاني: لو خرجت من بيتك غير متوضئ، ثم حصل تردد هل أنت متوضئ أم غير متوضئ؟ نقول لك: استصحاب الحال الأصلي الذي خرجت به وهو عدم الوضوء، وبالتالي نحكم بعدم الوضوء.

المثال الثالث: هب أن لك أخًا أو ابنًا أو صديقًا آخر عهدك به أمس، وبعد ذلك غاب عنك ولم تعرف أين هو بأن سافر أو فُقد أو نحو ذلك، فالآن أنت عالم بحياته في وقت معين وهو أمس، فأنت تحكم باستمرار حياته حتى يقوم الدليل على وفاته.

هب أنه لم يأتك خبر وفاته لا من أهله ولا من غير أهله، بماذا تحكم أنت بحياة صاحبك أو ابنك أو صديقك أو بوفاته؟ تحكم بحياته؛ لأنك تستصحب حياته.

3. أنواع الاستصحاب:

النوع الأول: استصحاب حكم الإباحة الأصلية للأشياء -يعني: الأشياء التي لم يرد دليل بتحريمها، ومعنى هذا أن المقرر عند جمهور الأصوليين بعد ورود الشرع: هو أن الأصل في الأشياء النافعة التي لم يرد فيها من الشرع حكمٌ معين هو الإباحة، فالأشياء النافعة من طعام أو شراب أو حيوان أو نبات أو جماد، ولا يوجد دليل على تحريمها هي مباحة.

فالأصل في المنافع الإباحة، والأصل في المضار التحريم، فالأشياء التي تحقق للإنسان نفعًا هي مباحة، والدليل على أن الحكم الأصلي للأشياء النافعة هو الإباحة قول الله تعالى ممتنًّا على عباده: {وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ} [الجاثية: 13] وقول الله تعالى: {هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29]. أما الأشياء الضارة، فالأصل فيها التحريم لقوله صلى الله عليه  وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)).

النوع الثاني: استصحاب البراءة الأصلية، أو ما يُعرف باستصحاب العدم الأصلي كما يسميه ابن قدامة، رحمه الله، فذمَّة الإنسان مثلًا غير مشغولة بحق ما، أي حق، لا لله ولا للآدمي إلا إذا قام الدليل على ذلك، فمن ادَّعى على آخر حقًّا فعليه الإثبات؛ لأن الأصل في المدعى عليه البراءة من المدعى به، فلو ادَّعيت عليك مبلغًا من المال فأنت بريء من هذا المبلغ إلى أن أقيم أنا بينة أو دليل، فإن عجزت عن إقامة بينة ودليل فالقاضي يستصحب العدم الأصلي أو البراءة الأصلية، وهي عدم شغل ذمتك بأي شيء لأي إنسان، هذا ما يسميه العلماء استصحاب البراءة الأصلية أو العدم الأصلي.

النوع الثالث: ذكره ابن قدامة -رحمه الله- على أنه النوع الثاني في روضته، فهو استصحاب الحكم الذي دل الدليل الشرعي على ثبوته ودوامه ولم يقم دليل على تغييره.

فلو أنَّ عندي حكمًا ثبت وتقرر بدليل شرعي، وهذا الدليل أثبت دوام هذا الحكم ولم يقم دليل على تغيير هذا الحكم، فما موقفك أنت؟ عندي حكم ثبت وتقرر شرعًا وليس له دليل يرفعه أو ينسخه أو يغيره، فما موقفك من هذا الحكم؟ تقول: هذا الحكم يبقى مستمرًّا إلى أن يأتي دليل يغير هذا الحكم، هذا من باب الاستصحاب.

النوع الرابع: استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف، وهذا النوع تكلم العلماء فيه كثيرًا، ولنا أن نصوره لكم قبل أن نذكر الكلام فيه بشيء من التفصيل، هذا يسميه العلماء استصحاب حال الإجماع في محل النزاع:

مثال: لو تيمم إنسان لفقد الماء وصلى ولم ير الماء فالإجماع منعقد على صحة صلاته، إنسان فقد الماء، فما الواجب عليه؟ أن يتيمم، فهو قد تيمم وصلى بهذا التيمم ولم ير الماء أثناء الصلاة، فالإجماع منعقد على صحة صلاته، أما إذا رأى الماء في أثناء الصلاة فقد اختلف أهل العلم في صحة صلاته حينئذٍ، هذا مثال يوضح معنى استصحاب حال الإجماع في محل النزاع، حال الإجماع ماذا؟ إنَّه لو صلى بتيمم ولم ير الماء فالإجماع على صحة صلاته، فهل لنا أن نستصحب حال الإجماع في محل النزاع؟ محل النزاع وهو أنه رأى الماء أثناء صلاته، فهل كما حكمنا بصحة صلاته إذا لم ير الماء نستصحب هذا الحكم ونقول: ولو رأى الماء كذلك فصلاته صحيحة استصحابًا لحال الإجماع أم لا بد أن يقطع الصلاة وأن يتوضأ؟ هذا هو النوع الثالث المسمى باستصحاب حال الإجماع في محل النزاع.

4. حجية الاستصحاب:

اختلف أهل العلم فيه، هل هذا الاستصحاب حجة؟ يعني: هل لنا أن نستصحب حال الإجماع؟ فمثلًا في المثال الأول الذي رأى الماء في أثناء الصلاة نقول: صلاته صحيحة ونستصحب حال الإجماع قبل رؤيته للماء يعني: كما أنَّ صلاته صحيحة قبل رؤية الماء فصلاته صحيحة بعد رؤية الماء؛ لأنَّ الصورة الأولى مجمع عليها، فنحن نستصحب حكم الصورة الأولى ونعطيه للصورة الثانية، وهل لنا أن نستصحب حال أم الولد وهو أنه يصح بيعها قبل أن يطأها زوجها فنقول: بعد أن يطأها كذلك يجوز بيعها؟ وهل لنا أن نستصحب أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء فإذا خرج لا ينقض الوضوء؟ اختلف أهل العلم في ذلك:

المذهب الأول الجمهور: لا يجوز أن يحتج بذلك؛ لأنَّ الإجماع إنما دل على صحتها حال عدم الماء، فأما مع وجود الماء فهو محل نزاع ومحل اختلاف، ومعلوم أنه لا إجماع مع الاختلاف.

إذن نحن نستصحب حال الإجماع في محل النزاع.

فكلام ابن قدامة هذا يفهم منه المذهب الأول وهو مذهب الجماهير وهو أن استصحاب حال الإجماع في محل النزاع ليس بحجة -أي: لا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب.

المذهب الثاني: قال ابن قدامة: وقال بعض الفقهاء: هو دليل، واختاره أبو إسحاق بن شاقلاء وهو أحد الفقهاء، ووافقه على ذلك عدد من الأصوليين من الحنابلة ومن الظاهرية، منهم داود الظاهري وابن سريج، واختاره الآمدي في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام).

حجية الاستصحاب بصفة عامة:

الكلام في حجية الاستصحاب كثير جدًّا ومتداخل، نلخصه لكم باختصار.

حاصل الأمر:

الحنفية ومن وافقهم يرون أنَّ الاستصحاب حجة لإبقاء ما كان على ما كان ودفع ما يخالفه، وهذا معنى قولهم: الاستصحاب حجة في الدفع لا في الإثبات.

والحنابلة والشافعية ومن وافقهم قالوا: الاستصحاب حجة للدفع وللإثبات معًا، لماذا؟ قالوا: لأن الاستصحاب يستلزم بدلالة الالتزام الظن الراجح ببقاء الشيء على ما كان عليه، والظن الراجح -كما قلت لكم- معتبر في الأحكام الشرعية العملية. تأملوا إلى أثر هذا القول في الفروع الفقهية، وتفرع على هذا -يعني: على القول بأن الاستصحاب حجة في الدفع لا في الإثبات على رأي الحنفية وحجة للدفع وللإثبات على رأي الحنابلة والشافعية- تفرع على هذا الخلاف، خلافهم في المفقود يعني: الشخص الذي فقد وانقطعت أخباره ولم ندر أين هو؟ فهذا الشخص عند الحنفية حي، وكذلك عند الشافعية والحنابلة حي، لكن هناك خلاف وفرق بسيط بين المذهبين، فهو عند الحنفية حي استصحابًا فيأخذ حكم الأحياء بالنسبة لأمواله -تأملوا هذا- وحقوقه القائمة وقت فقده، فلا تورث عنه قبل فقده، ولا تبين منه زوجته إلا إذا ثبتت بينة بوفاته.

أما القائلون بحجية الاستصحاب دفعًا وإثباتًا وهم الحنابلة والشافعية، فعندهم المفقود تثبت حياته وله حكم الأحياء، فلا تزول عنه أمواله، ولا تبين منه زوجته، ويستحق نصيبه من الميراث إذا مات مورثه قبله، هب أن أباه قد مات نُخرج لهذا المفقود نصيبه ونحفظه له إلى أن يعود، وكذا يستحق نصيبه من الموصى به، هب أن إنسانًا كان قد أوصى لهذا المفقود بوصية قال: أوصيت لفلان بربع مالي أو خمس مالي أو ثلث مالي أو نحو ذلك، وهذا الموصى له قد فقد ومات الموصي، فهل المفقود يأخذ هذه الوصية أو لا يأخذها؟ عند الحنابلة والشافعية يأخذها؛ لأن حكمه كحكم الأحياء تمامًا بتمام فالاستصحاب عندهم حجة للدفع وللإثبات معًا.

هذا من الفروع التي فرعها العلماء على حجية الاستصحاب، فالشاهد أن الحنفية والشافعية والحنابلة يرون حجية الاستصحاب، وإن كانوا يختلفون في هل هذه الحجية في الدفع فقط أو في الدفع والإثبات معًا؟ وقد تبينت لكم المسألة الآن، ولله الحمد والمنة.

أدلة من قال: إنَّ الاستصحاب حجة:

استدل من قال بأنَّ الاستصحاب حجة صالحة لإبقاء الأمر على ما كان عليه سواء كان الثابت به نفيًا أصليًّا أو حكمًا شرعيًّا –أي: أنه حجة في النفي والإثبات- بعدد من الأدلة:

الدليل الأول: قول الله تعالى في سورة الأنعام: {قُل لاّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيّ مُحَرّماً عَلَىَ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] وتأمل إلى منطوق الآية: {قُل لاّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيّ مُحَرّماً عَلَىَ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ رَبّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ} [الأنعام: 145] إلى آخر هذه الآية الكريمة.

فالآن الشارع الحكيم يبين في هذه الآية أن المحتج احتج بعدم وجود الدليل.

فإذا نص الشارع على أنَّ المحرم هو الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بقي ما عدا هذه الثلاثة على الأصل، الأصل هو الإباحة. فالشارع الحكيم الآن في هذه الآية بين أن هذا احتجاج بعدم الدليل.

الدليل الثاني: قول الرسول صلى الله عليه  وسلم: ((إنَّ الشيطان يأتي أحدكم فيقول: أحدثت أحدثت)) فماذا تصنع أنت؟ -يعني: وأنت تصلي يأتي الشيطان يشوش عليك ويقول لك: أحدثت أحدثت يعني انتقض وضوؤك، فالنبي صلى الله عليه  وسلم يكرر لنا مبدأ الاستصحاب هنا فيقول: ((فلا ينصرفن حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا)) يسمع صوتًا صوت ضراط أو فساء أو يجد ريحًا كريهه، فإذا ما تيقن وتأكد من سماع الصوت أو وجود الريح فله أن يخرج حينئذٍ من الصلاة ويكون قد أحدث بالفعل، فهذا فيه دليل على حكم استدامة الوضوء عند الاشتباه، وهو عين الاستصحاب كما يقول العلماء.

الدليل الثالث: إنَّ الإجماع قد انعقد -تأملوا هذا جيدًا- على أن الإنسان لو شك في حصول الزوجية ابتداءً حرم عليه الاستمتاع، هذا كلام يحتاج إلى بيان وتفصيل، والتفصيل له صور:

الصورة الأولى: أنت شاب لم تتزوج ثم شككت وأنت تسكن –مثلًا- في بيت فيه بنات عمك، ونحو ذلك، أو بنات خالك أو بنات عماتك أو بنات خالاتك، ثم شككت هل أنت متزوج أو لست بمتزوج؟ فهل لك أن تستمع بإحدى البنات اللاتي تسكن معك في البيت؟ نقول لك: أبدًا، لا يصح ذلك، فالإجماع قد انعقد على أن الإنسان لو شك في حصول الزوجية يحرم عليه الاستمتاع، لماذا؟ لأننا نستصحب الحال، واستصحاب الحال أنه متزوج أو غير متزوج؟ غير متزوج، إذن يحرم عليه الاستمتاع، وفي المقابل لو تيقن في الصورة الأولى كان قد شك في عقد الزوجية.

الصورة الثانية: لو تيقن في حصول الزوجية، متأكد أنه تزوج وصنعوا له فرحًا وتم عقد الزواج وفي وجود الشهود ونحو ذلك، فلو تيقن في حصول الزوجية، ولكنه شك في حصول الطلاق أيهما نستصحب؟ نستصحب الأصل وهو عقد الزوجية الصحيح الشرعي الذي تيقنت منه بداية، فالذي شك في عقد الزواج ابتداءً قلنا له: يحرم عليك الاستماع، والذي تيقن في عقد الزوجية وشك في الطلاق نقول له: يحل لك الاستمتاع، وليس هناك من فرق بينهما -يعني: بين الصورتين- إلا أن الأول قد استصحب فيه الحالة الموجودة قبل الشك، وهي عدم الزوجية وحصول العقد، والثاني قد استصحب فيه الحالة الموجودة قبل الشك أيضًا، وهي الزوجية والعقد، هذا حاصل الدليل الثالث على حجية الاستصحاب.

الدليل الرابع: أن الحكم إذا ثبت بدليل ولم يثبت له معارض قطعًا ولا ظنًّا يبقى بذلك الدليل، الحكم ثبت بدليل، ملكيتي للبيت ثبتت بدليل وهي عقد الشراء أو عقد البيع من البائع، وحل استمتاعي بزوجتي ثبت بعقد الزوجية، والصلوات الخمس ثبتت بالنصوص، فالأحكام الآن ثبتت بدليل ولم يثبت لها معارض ما وجدنا معارض ينسخ هذه الأحكام لا قطعًا ولا ظنًّا، فما الحكم؟ يبقى الدليل أم لا يبقى؟ يبقى الدليل؛ لأن ما تحقق وجوده أو عدمه في حال ولم يظن طروء معارض يزيله؛ فإنه يلزم ظن بقائه، وهذا هو معنى الاستصحاب.

الدليل الخامس: أن الحكم حين ثبت شرعًا، فالظاهر دوامه لما تعلق به من المصالح الدينية والدنيوية، فالأحكام التي ثبتت شرعًا مثل الصلوات والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين والوفاء بالعقود والجهاد، كل هذه أحكام ثبتت وتقررت شرعًا، الظاهر دوامها أم انقطاعها؟ الظاهر دوامها؛ لأنها يترتب عليها مصالح دينية ودنيوية، ولا تتغير المصلحة في زمان قريب، وإلا لو لم نقل بالاستصحاب؛ لجاز لبعض أهل هذا الزمان أن يقولوا: نحن لا نصلي؛ لأنَّ الصلاة قد رفعت، أو لا نصوم؛ لأنَّ الصيام في الحَر متعب. نقول: لا، نحن نستصحب استمرارية فردية الصلوات، وصيام رمضان، ووجوب الزكاة إلى أن يأتي دليل يغير، ولن يوجد دليل يغير؛ لأن زمن التشريع قد انتهى بوفاة النبي صلى الله عليه  وسلم.

هذه أشهر الأدلة على حجية الاستصحاب، ومن خالف في حجية الاستصحاب ذكر أدلة لا نطيل بذكرها؛ لأنها أدلة مردودة وضعيفة، والراجح عند أهل العلم أن الاستصحاب حجة ودليل؛ لذلك نكتفي بذكر أدلة الجمهور الذين يرون حجية الاستصحاب.

5. ملحوظات أخذها بعض أهل العلم على الاستصحاب:

قد لاحظ بعض أهل العلم على الاستصحاب عدة ملاحظات لا بد أن نبينها لكم:

الملحوظة الأولى: أن الاستصحاب في الحقيقة لا يثبت حكمًا جديدًا، ولكن يستمر به الحكم الثابت بدليله المعتبر.

الملحوظة الثانية: إن الاستصحاب لا يُسَار إليه -يعني: لا يلجأ إليه- الفقيه والمجتهد والقاضي إلا عند عدم وجود الدليل الخاص في حكم المسألة.

6. قواعد قامت على الاستصحاب:

بعد ذلك ذكر الفقهاء أنَّ الاستصحاب بنى عليه العلماء عددًا من القواعد الفقهية والمبادئ، فبالاستصحاب تقررت جملة قواعد ومبادئ قامت عليه وتفرعت منه، من هذه القواعد والمبادئ ما يلي:

المبدأ الأول: الأصل في الأشياء الإباحة، هذا الأصل أو هذا المبدأ أخذه الفقهاء من الاستصحاب.

المبدأ الثاني: الأصل براءة الذمة أو الأصل في الذمة البراءة، وقد أُخذ بهذا الأصل في القضايا المدنية والجزائية على حد سواء.

المبدأ الثالث: اليقين لا يزال بالشك، وقد ذكرها بعض العلماء على أنها قاعدة فقهية، منهم السيوطي -رحمه الله- في كتابه القيم (الأشباه والنظائر)، أما مجرد الشك فلا يقوى على زعزعة اليقين فلا يعتد به.

7. الخلاف في مسألة النافي للحكم: هل يلزمه الدليل أو لا؟

قبل ذكر الخلاف في هذه المسألة نقول: إنه لا خلاف بين أهل العلم في أن المثبت للحكم يطالب بالدليل.

فالإنسان إما مثبت لأحكام وإما نافٍ لأحكام، فالعلماء اتفقوا على أن المثبت للأحكام يلزمه دليل.

تحرير محل النزاع في مسألة: هل النافي للحكم يلزمه الدليل، أم لا؟

هذه المسألة مستقلة عما قبلها؛ لأنه يجب على النافي للحكم أن يبين الدليل.

مثال: هب أن إنسانًا جاء وقال: العالَم ليس بحادث، معلوم أنَّ العالم: كل ما سوى الله على الراجح، بل القول الحق في المسألة: أنَّ العالم حادث، يعني: كل شيء سوى الله حادث، حادث يعني: وجد بعد أن لم يوجد، ومن الذي أوجده؟ إنه الله، لو جاء إنسان وقال: العالم ليس بحادث، إذن الآن هو ينفي حكمًا، نطالبه بالدليل، أم لا نطالبه بالدليل؟ لو قال مثلًا -كما قلت لكم: لا تجب الزكاة في مال الصبي، نطالبه بالدليل، أم لا نطالبه بالدليل؟ قبل ذكر آراء العلماء في المسألة لا بد أن نحرر لكم محل النزاع فيها، يعني: هل المسألة مختلف فيها في كل صورها، أم أن هناك بعض الصور محل اتفاق؟

نقول -وبالله تعالى التوفيق: لا خلاف بين أهل العلم في أن المثبت للحكم مطالب بالدليل، عندي جهة إثبات للأحكام، وجهة نفي للأحكام، فالذي يثبت حكمًا بلا خلاف بين العلماء يطالب بالدليل، فلو أن إنسانًا قال: في مال الصبي زكاة، في حلي المرأة زكاة، هو الآن يثبت حكمًا، أم ينفيه؟ يثبت حكمًا، فلو أثبت حكمًا نطالبه بالدليل، أم لا نطالبه بالدليل؟ قال العلماء: نطالبه بالدليل قولًا واحدًا، يعني: باتفاق أهل العلم، فلا خلاف في أن المثبت للحكم يطالب بالدليل.

نقول -وبالله التوفيق: أما النافي للحكم كمن يقول: ليس في مال الصبي زكاة؛ لأن العلماء اختلفوا: هل يزكى مال الصبي، أم لا؟ وسبب اختلافهم أن الصبي ليس بالغًا ولا مكلفًا، والأحكام الشرعية تتعلق بالبالغ المكلف، والصبي الآن ليس بالغًا ولا مكلفا، الصبي مثلًا، والمجنون، والمعتوه، ونحو ذلك، فلو جاءنا إنسان وقال: ليس في مال الصبي زكاة، نطالبه بالدليل، أم لا نطالبه بالدليل؟ هذا هو محل الخلاف.

آراء العلماء في المسألة:

المذهب الأول: يقول ابن قدامة -رحمه الله: فصل: والنافي للحكم يلزمه الدليل. وقد ذكر -رحمه الله- في المسألة ثلاثة مذاهب، هذا أولها، ذكر ذلك عدد من العلماء، منهم: أبو بكر الباقلاني في كتاب (التقريب) وحكى هذا المذهب أبو الوليد الباجي عن الفقهاء والمتكلمين في كتابه (إحكام الفصول) وذكره الماوردي وغيره، فالمذهب الأول: أن النافي للحكم يلزمه الدليل مطلقًا، سواء كان النفي في قضايا عقلية -كما مثلت لكم- أو في قضايا شرعية، هذا هو المذهب الأول.

المذهب الثاني: يقول ابن قدامة -رحمه الله- في (الروضة): وقال قوم: في الشرعيات، يعني: النافي للحكم يلزمه الدليل في القضايا الشرعية فقط، فلو قال: ليس في مال الصبي زكاة، نقول له: هات الدليل، ولو قال: العالم ليس بقديم، لا نطالبه بالدليل، على رأي أصحاب المذهب الثاني.

المذهب الثالث: يقول ابن قدامة: وقال قوم: لا دليل عليه مطلقًا. وقد عرفتم معنى كلمة “مطلقًا” يعني: النافي للحكم لا يلزمه الدليل مطلقًا، أي: سواء كان الحكم عقليًّا أو شرعيًّا، وذهب إلى هذا المذهب داود الظاهري من الظاهرية.

إذن عندي في المسألة ثلاثة مذاهب: النافي للحكم يلزمه الدليل مطلقًا، النافي للحكم لا يلزمه الدليل مطلقًا، النافي للحكم يلزمه الدليل في الشرعيات دون العقليات.

أدلة المذاهب:

ثم شرع ابن قدامة -رحمه الله- يذكر أدلة المذاهب:

أدلة المذهب الثالث: يرى أصحابه -ومنهم داود الظاهري: أن النافي للحكم لا يلزمه الدليل مطلقًا، سواء كان الحكم عقليًّا أو شرعيًّا، وقال: لأمرين، يعني: الدليل على أن النافي للحكم لا يلزمه الدليل مطلقًا أمران:

أحدهما -الدليل الأول دليل عقلي يحتاج إلى إعمال عقل: أن المدعى عليه الدَيْن لا دليل عليه، بمعنى: أن الشارع جعل على المدعي البينة في حديث النبي صلى الله عليه  وسلم ما معناه: ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) ولهذا داود الظاهري ومن وافقه من أصحاب المذهب الثالث يقولون: إن الشارع جعل على المدعي البينة، ولم يجعل على المدعى عليه بينة. فإذا كان المدعي هو المثبت، والمدعى عليه نافٍ لذلك الحكم؛ فلا يلزمه الدليل.

الدليل الثاني: إن الأصل هو النفي الأصلي، الأصل يعني: القاعدة المستمرة، فكلمة “الأصل” تأتي بمعنى: الدليل، يقولون: الأصل في المسألة كذا، يعني: الدليل عليها كذا، و”الأصل” تأتي بمعنى: الراجح، يقولون: الأصل في الكلام الحقيقة، يعني: الراجح في الكلام الحقيقة، و”الأصل” بمعنى: المقيس عليه في باب القياس، فنقول: الخمر أصل للنبيذ، يعني: مقيس عليه، و”الأصل” بمعنى القاعدة المستمرة كالاستصحاب، فالأصل حرمة الميتة، يعني: القاعدة المستمرة: أن الميتة حرام، إلى أن يأتي عذر وضرورة تبيح حل الميتة، فأصحاب المذهب الثالث يقولون: الأصل -يعني: القاعدة المستمرة- هو النفي الأصلي، فالعدم والانتفاء ثابت، والنفي الأصلي معناه: أن ذمم الناس بريئة من كل شيء؛ لأنه الأصل؛ فكيف يكلف النافي للحكم بالإتيان بالدليل على هذا النفي، وهو متعذر؛ فيكون من باب التكليف بما لا يطاق.

أدلة أصحاب المذهب الأول “الجمهور”:

الدليل الأول: يقول ابن قدامة -رحمه الله: ولنا، يعني: والدليل لنا على ما ذهبنا إليه قوله تعالى، كما في سورة البقرة حكاية عن اليهود والنصارى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تِلْكَ أَمَانِيّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] وتأمل إلى الآية الكريمة: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ} هم الآن يثبتون حكمًا أم ينفون؟ ينفون، قالوا: ما أحد يدخل الجنة إلا إذا كان يهوديًّا أو نصرانيًّا {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تِلْكَ أَمَانِيّهُمْ} بماذا رد الله عليهم؟ رد عليهم بقوله: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} هاتوا الدليل؛ فالذي ينفي حكمًا يلزمه الدليل، وهذا نفي لحكم شرعي. هذا هو الدليل الأول من أدلة الجمهور على أن النافي للحكم يلزمه الدليل.

الدليل الثاني: وحاصله: أن يقال للنافي للحكم: هل عرفت نفي الحكم لذلك بالعلم، أو أنك شككت فيه؟ فإن أجاب هذا النافي قائلا: أنا شككت فيه؛ لذلك نفيته، فهذا الشاك لا يطالب بالدليل؛ لأنه لما أقر بالشك قد اعترف بالجهل، والجاهل لا يطالب بالدليل على جهله، ولا يلزمه ذلك، كما لا يطالب على دعواه، وقوله: إني لا أجد ألمًا، لو أن إنسانًا قال: أنا ما عندي ألم، ولا أشعر بألم، ولا أشعر بتعب، ولا أشعر بجوع، ولا أشعر بعطش، إلى غير ذلك، نقول له: هات الدليل على هذا؟ وأين هذا الدليل؟ وكيف يظهر هذا الدليل؟ وإن أجاب هذا النافي في سؤالنا عليه، وقال: أنا أعلم ذلك يقينًا بأن هذا الحكم منفي، نقول له: علمك ويقينك هذا بنفي ما نفيته حصل عن ضرورة، أو عن دليل؟ فإن قال: إنه حصل هذا العلم عن ضرورة فهذا لا يمكن؛ لأنه لا تعد معرفة النفي ضرورة إلا لاشتراك نافيه، لو كان هذا ثابتا بالضرورة كنا اشتركنا معه في إدراك هذا الحكم؛ فلم يبقَ إلا أنه علم نفي الحكم عن غير ضرورة، فإما أن يعلمه عن طريق نظر واستدلال وإعمال فكر وتدبر وبحث في النصوص، أو يعلمه عن طريق تقليد، فإن كان يعلمه عن طريق تقليد -كما قلت لكم- فهو مثبت لعمى نفسه، وغاية ما يفعله أنه يثبت العلم لغيره، وإذا أثبت جهل نفسه وعمى نفسه لا نطالبه بالدليل، وإن قال: أنا أعرفه بنظر واستدلال قلنا له: هات هذا النظر وهذا الاستدلال؛ لأن النبي صلى الله عليه  وسلم: “حذر من كتم علمًا نافعًا فقد تبوأ مقعده من النار”. إذن لا بد للنافي من بيان الدليل على نفيه لذلك الحكم، وهو المطلوب.

الدليل الثالث: لو قلنا بأن النافي للحكم لا يلزمه الدليل؛ للزم من ذلك ألا يطالب أحد بأي دليل على دعواه، مما يؤدي إلى دعوى أحكام بلا أدلة.

المذهب الثالث: يلزمه الدليل في الشرعيات دون العقليات.

واستدلوا بأن الشرعيات يمكن الاستدلال عليها بنص ونحوه، الأمور الشرعية من السهولة بمكان أن أستدل عليها بنص من كتاب أو سنة، أو باستدلال بالإجماع، أو بقياس، أو بنحو ذلك من الأدلة المعروفة المشهورة، فالأمور الشرعية يمكن الاستدلال عليها، بخلاف الأمور العقلية، العقليات من الصعوبة الاستدلال عليها.

الترجيح:

الرأي الراجح في هذه الآراء الثلاثة هو رأي الجمهور : وهو المذهب المختار؛ لأنه يلزم على القول بعدم الدليل أنه لا يجب دليل على نافي الخالق، لو قال إنسان: لا يوجد إله، هذا ينفي وجود الخالق سبحانه وتعالى فالذي يقول: النافي للحكم لا يلزمه الدليل يؤدي هذا الكلام إلى خطر شديد، فلو نفى وجود الخالق، أو نفى وجود النبوات، أو نفى وجود البعث، أو نفى وجود الحشر، أو نفى وجود الجنة، أو نفى وجود النار، أو نحو ذلك، ولا نطالبه بالدليل، فهذا يؤدي إلى محظور كبير، فالذي يترجح هو أن النافي للحكم يلزمه الدليل.

error: النص محمي !!