تعريف البحث العلمي لغة واصطلاحًا
إذا أردنا أن ندخل إلى نطاق موضوعنا، وإلى صميم عملنا في هذه المادة، فإننا نبدأ أوّل ما نبدأ بتعريف “البحث العلمي”؛ وهذه مسألة منطقية وطبيعية، فنقول:
إن هذا العنوان: “البحث العلمي” يتكوّن من كلمتيْن: كلمة “البحث”، وكلمة “العلْم”. وما دمنا في المناهج، فيجب أن نتعلّم بطريقة عملية كيف نعرِّف كلمة: “البحث”، وكيف نعرِّف كلمة: “العلْم”.
“البحث” في اللغة: إذا رجعنا إلى القواميس، ونحن في مجال الدراسات العربية والإسلامية والإنسانية والاجتماعية مكلَّفون بأن نرجع إلى القواميس، لمعرفة المعاني الأصليّة، وهذا أسلوب من أساليب البحث العلْمي نطبِّقه على أنفسنا، فنقول:
“البحث” في اللغة: الطّلب للمجهول، والتفتيش عنه، وسؤال مَن يدلّنا عليه، والاستخبار عن مكان وجوده. ومعنى ذلك: أن الذي يقوم ببحثٍ عليه أن يعلَم أنه سيطلب مجهولًا، ويفحص مسائل تؤدِّي إلى العلْم بهذا المجهول، وسيحتاج إلى أن يطبِّق فيه طُرقًا للوصول إلى هذا المجهول. فهذا هو المعنى في اللغة.
“البحث” في الاصطلاح: سنجد تعريفات متعدِّدة، ولكن نختار من بينها هذا التعريف: البحث عمليّة علْمية تُجمع لها الحقائق، وتُستوفَى فيها العناصر المادية والمعنوية حول موضوع معيّن، لفحصها وفْق مناهج علميّة مقرّرة للتّوصّل إلى نتائج علْمية جديدة.
تعريف ربما كان فيه بعض الطّول، ولكن يُراد به أن يقدِّم تعريفًا دقيقًا جامعًا مانعًا، يصِف العمل الذي سيكلَّف به الباحثون في نطاق العلْم حتى تتحقّق الفائدة المرجوّة منه.
ويمكن الإشارة هنا إلى ثلاثة عناصر في هذا التعريف:
العنصر الأول: أنّ هذه العملية التي يقوم بها الباحثون هي عملية علْمية. ومعنى أنها علْمية: أنها تخضع لتخطيط وتنظيم دقيق، وأنها ليست عشوائية ولا اعتباطية، ولا تجري كيفما اتّفق؛ وإنما تجري حسب تصوّر معيّن سيترتّب عليه خطوات محدّدة حتى يوصف هذا البحث بأنه علْميّ.
العنصر الثاني: أن هذا الجهد يدور حول موضوع معيّن -موضوع يحدّد بدقّة- وعندما نصل إلى هذه النقطة من منهجنا، سنرى كيف يُختار الموضوع، وكيف يُحدّد بطريقة منهجية تجعله صالحًا لإمكان القيام به دون عقبات تحول دون إتمام البحث.
العنصر الثالث: يتم إجراء هذا الموضوع وفْق مناهج عمليّة مقرّرة. وسنرى فيما بعدُ أن هذه المناهج تتفاوت، وتختلف بحسب الموضوع الذي يتمّ استخدام المنهج فيه. فالمنهج الموجود في الدراسات الإنسانية والاجتماعية غير المنهج الموجود في دراسة الظواهر الفلَكية، أو في دراسة الجيولوجيا، أو في دراسة الجسد الإنساني، أو في دراسة العناصر الموجودة في الطبيعة، أو في دراسة الظواهر الجوية، أو في دراسة العلوم التاريخية والمعارف التاريخية القديمة. كلّ هذه موضوعات يمكن إجراء البحوث العلْمية فيها، ولكن لكلّ مجال منها منهج محدّد يتوافق ويتكافأ مع الظواهر الموجودة في هذا المنهج.
المنهج المستخدَم في الطّبّ غير المنهج المستخدَم في دراسة التاريخ، غير المنهج المستخدَم في دراسة الأدب، غير المنهج المستخدَم في دراسة الطبيعة. كلّ شيء من هذه له منهج معيّن.
فعندنا وصْف لهذه العملية بأنها علْمية، بأنها تدور حول موضوع معيّن خاص ليس موضوعًا عامًّا، وهذا المنهج يتمّ وفْق مناهج علْمية مقرّرة، ثم يُراد له أن يتوصّل إلى نتائج علْمية محدّدة ومقرّرة.
وهذه الفكرة التي يُختم بها التعريف، وهو أنّ البحث يُجرى بقصد التّعرف أو الوصول إلى نتائج علْمية محقّقة مسألة في غاية الأهمِّيّة؛ لأنها هي الغاية من البحث، ومن الإنفاق، ومن الوقت ومن الزمن، ومن الجهد، ومن الإشراف.
إن الإنسان عليه أن يسعى في بحثه إلى أن يضيف إلى العلْم إضافة جديدة لا يكون عمله تكرارًا لعمل السابقين، ولا يكون جُهده ترديدًا لما توصّل إليه الباحثون من قبل، وإنما يجب عليه أن يضع في اعتباره وأن يسأل نفسه دائمًا، وأن يذكِّر نفسه دائمًا: ما النتائج التي سأتوصّل إليها من البحث؟ لا بدّ أن يكون لدينا جديد، وهذا الجديد لا بدّ من العناية به حتى ولو كان هذا الجديد بنتيجة سلبيّة توفّر على الباحثين عناء البحث في هذا الأمر مرة أخرى.
ولكن لا بدّ أن يكون لدينا في البحث جديد، وهذه الإضافة العلْمية الجديدة لا بدّ أن يكون فيها عدد من الأمور أو الاحتمالات. فقد تكون حلًّا لمشكلة علْمية قائمة، أو لمشكلة عملية قائمة، وقد تكون كشفًا لأمر غامض، وقد تكون إضافة لأفكار جديدة تمامًا لم يتوصّل إليها أحد من قبل، وقد تكون برهنة على حقائق معلومة، وقد تكون إعادة لتفسير بعض النتائج العلمية التي تفسّر بهذا البحث تفسيرًا جديدًا غير التفسيرات التي سبق إليها الدارسون. لا بدّ أن يكون لدينا نتيجة علْمية.
وقد أوضح علماؤنا المسلمون من قبل أن التأليف يكون في سبعة أنواع:
فالقصد والغاية والهدف والنتيجة لا بدّ أن تكون داخلة في واحدة أو أكثر من هذه الأنواع السبْعة، لا يُؤلّف عالِم عاقل إلَّا فيها:
- إمّا شيء لم يُسبق إليه الباحث، فيقوم هو باختراعه.
- وإمّا شيء ناقص، فيقوم بإتمامه.
- وإمّا شيء مطوّل في الكتب القديمة فيقوم باختصاره، دون أن يُخلّ بشيء من معانيه.
- أو أن يكون شيئًا متفرقًا، فيقوم بتجميعه وتركيبه.
- أو أن يكون شيئًا مختلطًا، فيقوم بربط المعلومات وتنسيقها.
- أو أن يكون شيئًا مُغلقًا، فيقوم الباحث بشرْحه.
- أو أن يكون شيء قد وقع فيه خطأ لدى الدّارسين من قبل، فيقوم الباحث بإصلاح هذا الخطإ.
هذه سبعة أغراض كان المؤلّفون القدامى يؤلِّفون فيها.
ولكننا نستطيع الآن أن نقول: إن التأليف في الكتب العلْمية القديمة كان شيئًا، وما يراد أن نقوم به نحن الآن من البحوث هو شيء آخر. وأقرب ما يكون إلى البحث العلمي هو الغرض رقم (1)، وهو: أن يكون هناك شيء لم يُسبق الباحث إليه، فيقوم باختراعه؛ هذا داخل في البحث العلمي الحديث مائة في المائة. أو أن يكون هناك شيء ناقص فيقوم الباحث بإتمامه؛ هذا داخل في نطاق العلم الحديث والبحث الحديث. أو أن يكون هناك شيء قد أخطأ فيه السابقون فيقوم المصنف بإصلاحه. لكن التلخيص، والاختصار، وكشف الغموض، هذا نوع من التأليف، لكن لا يرتقي إلى درجة البحث العلْمي المطلوب الآن. نحن لا نريد مجرّد حلّ المغلقات، ولا توسعة المختصرات، أو اختصار المطوّلات؛ هذا ينفع في مستوى من التعليم؛ مستوى التلقين، مستوى الحفظ، مستوى معرفة المتون، وهذا شيء جيد، ولكننا نحن الآن مكلَّفون باختراع جديد، أو بإتمام ناقص، أو بتصويب خطإ: هذا هو الذي يستحق أن نبذل فيه الجهد الأكبر.
المقصود بهذا: أن تزداد المعرفة الإنسانية ثراء، وأن يزداد التراكم العلْمي، وأن يضيف كلّ باحث إلى العلْم لَبِنة جديدة يتمكّن الناس عن طريقها من الإفادة من النتائج التي توصّل إليها هذا الباحث.
فمثلًا:
- باحث أخرج إلى الوجود مخطوطًا ليس موجودًا من قبل مطلقًا: هذه إضافة علْميّة.
- طبيب توصّل إلى دواء جديد في بحث علْمي لم يكن موجودًا من قبل: هذه إضافة علْمية جديدة. وآخر أخذ دواء قديمًا كان يُستخدم في علاج مرض معيّن، فاستخدمه هو في علاج مرض آخَر لم يكن العلماء من قبله قد توصّلوا إليه، أو توصّل إلى إجراء عمليّة جراحيّة لم يتوصّل إليها القدامى.
- أحد العلماء اكتشف نجْمًا أو كوكبًا في السماء، أو توصّل إلى معلومات فلَكية لم يتوصّل إليها القدامى.
فهذه نماذج للبحوث العلمية الجديدة التي فيها إضافة للعلْم، وفيها إثراء للمعرفة الإنسانية؛ وهذا هو الهدف الذي ينبغي أن يسعى إليه الدارسون: أن يضيفوا إلى العلْم جديدًا، ليس مجرّد التكرار، أو التّرديد، أو حفظ ما قاله السابقون في مجال البحث العلمي. نحن نحفظ ما قاله السابقون في مجالات التّعلّم الأخرى، ولكن في مجال البحث المطبّق في العلْم لا بدّ أن نضيف إلى العلْم جديدًا.
وكما ذكرنا: لا بدّ على الباحث أن يسأل نفسه دائمًا: ماذا الذي سأضيفه إلى العلم؟ مجرّد جمْع الآراء القديمة وإلصاقها بعضها ببعض لا يقدّم للعلْم جديدًا، ويعرّفنا ما هو معروف؛ لكننا نريد أن نتوصّل إلى مجهول جديد نجعله معلومًا ببحثنا: فهذه مسألة مهمّة جدًّا، ولا بدّ من الحرص عليها؛ حتى نكون قائمين فعلًا بمقتضيات واشتراطات البحث العلْمي النافع والمفيد.
ربما يزداد هذا الأمر وضوحًا في أن نُبين بأن ما ليس فيه إضافة جديدة إلى العلْم لا يُسمَّى بحثًا علميًّا. وسنقدّم لذلك عددًا من النماذج التي قد تلتبس في الأذهان، وقد يُتصور من ورائها أنها بحوث علمية، ولكنها في الحقيقة لا ترقى إلى درجة البحث العلمي المعتبَر عند العلماء.
على سبيل المثال:
المؤلَّفات التقريرية التي لا تتجاوز إعادة الصياغة والتقسيمات، من غير أن نقدّم أي تفسير أو تعليل لهذه المؤلّفات التقريرية. يعني: افرضْ عندي كتاب يقدّم قواعد النحو، أو يقدّم لي تعريفًا بعصر -على طريقة الطبري وعلى طريقة المؤرِّخين القدامى. يقول: فلان تولّى سنة كذا، وفلان مات سنة كذا، وفلان قام بعملية حربية سنة كذا، وفلان قام ببناء مسجد في سنة كذا … إلخ، دون أن يقدّم لي لا تفسيرًا، ولا تعليلًا، ولا ربطًا للمعلومات بالظواهر الاجتماعية، ولا بالظواهر السياسية القائمة في ذلك الوقت البعيد، ولا أن يُفسّر لي غموض بعض الأحداث، ولا شيء … مجرّد تعريف بما هو معروف: هذه تسمَّى: “مؤلفات تقريريّة”. هذه تنفع في مستوى من العلْم أقلّ من مستوانا الذي نتحدّث عنه، ولكنها لا تنفع في البحث العلْمي.
وكذلك ما كان جمعًا لمعلومات تقريريّة عن بعض الظواهر، هذه لا تسمَّى بحثًا علميًّا جديدًا.
ومن النماذج التي لا يعتبرها العلماء بحثًا علميًّا -وإن كانت تنفع في مستوى أقلّ من العلْم- ما كان جمعًا لمعلومات تاريخية عن أيّة ظاهرة من الظواهر، سواء في مجال العلوم الإنسانية أو في غيرها. مثل ما يتعلق بتاريخ العلوم، فيقدّم معلومات معروفة ولا يقدم جديدًا. لكن إذا قدّم جديدًا في مجال العلوم، فإنه يكون عندئذ بحثًا علميًّا، يكون فيه تحليل وفحص، وفيه استنباط، وفيه كشف لمجهول، وفيه مقارنات، وفيه موازنات، وفيه إضافة إلى أبواب من العلْم لم تكن معروفة من قبل، عندئذ ينتقل من كونه مجرّد جمْع للمعلومات إلى أن يكون بحثًا تاريخيًّا.
الكتاب المدرسيّ الذي يُؤلَّف بقصد تعريف الطلاب لمجموعة من الحقائق العلْمية المعلومة والقضايا المسلّمة، دون أن يقدِّم لنا نظريةً جديدةً أو تفسيرًا جديدًا، ودون أن يقدِّم أيَّةَ نتائج جديدة إلَّا عرض ما هو معروف فقط، دون أن يعلّل للأحداث، دون أن يتوصّل إلى نتائج لم تكن معروفة من قبل، هذا الكتاب المدرسي إذا كان على هذا النحو فلا نستطيع أن ندخله في نطاق البحث العلْمي؛ ولذلك لا يستطيع الأساتذة الحاصلون على الدكتوراه أن يتقدّموا بمثل هذه الكتب للحصول على درجات علمية أعلى. فإذا كان أستاذًا مساعدًا لا يستطيع أن يتقدّم بمثل هذه الكتب لكي يرقَى إلى أستاذ مشارك، وإذا كان أستاذًا مشاركًا لا يستطيع أن يتقدّم لكي ينال درجة أستاذ كامل، وإنما لا بدّ أن يقدم جديدًا. هذه المسألة لا بدّ أن تكون مفهومة، ونحن نتحدّث عن البحوث باستمرار. السؤال: ما الذي سيضيفه البحث إلى العلْم؟
المقالات الطويلة التي تقدّم معلومات معروفة سلفًا، وليس فيها إلَّا مجرّد تجميع هذه المعلومات، هذه أيضًا لا تمثّل شيئًا علميًّا مهمًّا.
تطوير مشروع علْمي يعتمد على معلومات معروفة، دون جديد، أو دون مقارنة، هذا أيضًا ليس بحثًا علميًّا معتبَرًا.
تطوير طريقة معيّنة ووضعها موضع التطبيق، دون جديد يضاف إلى هذا الأمر، ليس هذا بحثًا علميًّا.
فالبحث العلمي دائمًا يستخدم خطوات محدّدة تتّبع منهجًا معيّنًا بقصد التّوصّل إلى إضافة علْمية جديدة.
لا بدّ أن يكون القصد النهائي للبحث العلْمي هو: ما يضيفه من المعلومات إلى صرْح العلْم الذي يسعى العلماء إلى إقامته وإلى إعلائه؛ حتى تستفيد البشرية من جهود العلماء، وحتى يكون ما ينفَق على العلْم والبحث العلْمي وهو باهظ وكثير، لا بد أن يكون له جدوى، وأن يكون له فائدة، وأن يكون له عائد يعود بالخير وبالنفع على الإنسان فردًا وجماعة وأمّة وأممًا؛ لأن البحث العلمي يجب أن يكون تراثًا إنسانيًّا مشتركًا تشترك فيه جميع الأمم؛ لأن حاضر البشرية كلّها مرهون وموقوف على الإقامة في كوكب واحد، وما يحدث من البحوث العلمية الجديدة في مكان معيّن ينبغي أن تستفيد به البشرية كلّها دون احتكار لنتائج العلْم، كما تسعى إلى ذلك بعض الحضارات في عصرنا هذا، على عكس الإسلام الذي يطالبنا بنشر العلْم وإشاعاته وإذاعته وتقديمه للناس وإفادة البشرية به؛ لأن من كتم علمًا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَن كتَم علْمًا ألجمَه الله بلِجام من نار يوم القيامة)).
فهذا هو التعريف الذي نقدّم به لموضوعنا، وهو: تعريف البحث العلمي. ومن الواضح أنّ العلْم يفترق عن الخرافة، ويفترق عن الأساطير، ويفترق عن المعلومات غير المنظّمة. العلْم نظام معيّن يستخدم منهجًا معيّنًا، يستخدم خطوات محدّدة بقصد الكشف عن المجهول، وبقصد إثراء المعرفة الإنسانية؛ فعندئذ نكون أمام بحث علْمي حقيقي.
وهذه نقطة أخرى متّصلة بهذا الموضوع تمامًا، وتزيده بيانًا ووضوحًا، عندما نتحدث عن خصائص هذا البحث العلْمي الذي نسعى إلى أن نتحقّق به، وأن نتعلّمه، وأن نتوصّل إلى ثمراته وفوائده.