تعريف التفليس
التفليس في اللغة: النداء على المفلس، وشَهْره بين الناس بصفة الإفلاس، وكلمة الإفلاس مأخوذة من الفلوس, التي هي أدنى أنواع المال.
واصطلاحًا: جعل الحاكم المدين مفلسًا بمنعه من التصرف في ماله، أو خلعه عن ماله لصالح غرمائه أو دائنيه. هذا معنى التفليس.
أما الإفلاس فهو في اللغة مصدر: أفلس، وهو فعل لازم، يقال: أفلس الرجل؛ إذا صار ذا فلوس بعد أن كان ذا ذهب وفضة، أو صار إلى حد ليس له فلوس.
وفي الاصطلاح: يطلق الإفلاس على معنيين:
أحدهما: أن يستغرق الدين مال المدين، أي: لا يفي ما عنده من مال بديونه؛ فيقال: أفلس إفلاسًا.
المعنى الثاني: ألا يكون له مال معلوم أصلًا.
فالعلاقة بين التفليس والإفلاس أن الإفلاس أثر التفليس؛ لأن التفليس عمل الحاكم، فالحاكم يحكم على المدين فيفلسه فيصير مفلسًا، فالإفلاس أثر التفليس الذي قام به الحاكم، أي: قضى القاضي بأن فلانًا أصبح مفلسًا فشهره بين الناس بهذه الصفة، وأراد أن يبني أحكامًا -أي: يبني أمورًا- على هذا الحكم, بمنع التعامل معه ووقف يده بعدم التصرفات؛ لأنه يريد أن يحافظ على أموال الدائنين.
فالعلاقة بينهما أن الإفلاس أثر التفليس كما قال علماء اللغة، لكن إذا جئنا للعرف فالمفلس فيه: من لا مال له، فعندما نقول: فلان مفلس أو أفلس, أي: ليس له مال، وهو المعدم الذي ليس له ما يدفع به حاجته، وهذا المعنى له أصل قديم؛ ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: يا رسول الله، المفلس منا أو فينا من لا درهم له ولا متاع, قال صلى الله عليه وسلم: ((المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا… فيؤخذ من حسناته، ويعطى لهم حتى تفنى حسناته، ثم يؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه، ويطرح بها في النار)) قولهم: “المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع” هذا إخبار عن حقيقة المفلس في عرف الناس، وسمي مفلسًا لأنه لا مال له إلا الفلوس، وهي أدنى أنواع المال.
عرفنا التفليس، وعرفنا الإفلاس، وعرفنا المفلس في عرف الناس، لكن المفلس في الاصطلاح قال العلماء فيه: المفلس من دَيْنه أكثر من ماله، فالشخص الذي عليه ديون لآخرين أو لغرماء كثيرين أكثر مما تحت يده من مال هذا يعتبر مفلسًا، وسموه مفلسًا حتى ولو كان عنده مال؛ لأن ماله الذي تحت يده إنما ليس له، أي: ليس مملوكًا له بالكامل؛ لأن هذا المال مستحق الصرف لجهة الدين الذي عليه، فكأن هذا الشخص معدم، أو ليس عنده مال، وسواء كان المفلس من استغرق الدين ماله، أي: هو عنده مال ولكن دينه أكثر من ماله، فلم تفِ هذه الأموال التي عنده بما عليه من ديون، أو ليس له مال أصلًا.
وقد اختلف الفقهاء في أحكام كلٍّ من المفلس, سواء كان عنده مال لا يفي بديونه، أو ليس له مال أصلًا، فاختلفوا في أحكام كل من النوعين، وكلامنا إن شاء الله تعالى سيكون في أحكام المفلس الذي له من المال ما لا يفي بديونه؛ لأن هذا الذي يترتب عليه أحكام شرعية، ونريد أن ننبه هنا قبل أن نتكلم عن أحكام المفلس الذي عنده مال لا يفي بديونه, أن هذا الموضوع وهذا الدرس له ارتباط بالحجر؛ لأننا تكلمنا في الدرس السابق عن أن المحجورين أصناف؛ صنف يحجر عليه لمصلحة نفسه، وهم: الصغير، والمجنون، والسفيه، والشارع يوجب الحجر على هؤلاء الثلاثة لمصلحة أنفسهم للمحافظة على مال أنفسهم.
نأتي إلى الصنف الرابع وهو المفلس، وهذا داخل تحت المحجور عليه لمصلحة غيره؛ ولذلك أشرنا إلى أن المفلس هو من استغرق الدين ماله، أو كان عنده مال لا يفي بديونه، فنوقف يده من التصرفات لمصلحة الغير وهو الدائن، فالكلام في الإفلاس هنا باعتباره أحد أنواع المحجورين، لكن لمصلحة الغير، ولما كان الكلام فيه كثيرًا أُفرد بدرس مستقلّ.
وكلامنا في أحكام المفلس الذي ليس له من المال ما لا يفي بديونه، نقول في هذا النوع: أولًا هل للحاكم أو القاضي أن يحجر على هذا المفلس بالمعنى الذي قلناه, بمعنى: أن يمنعه من التصرف في ماله فيبيعه عليه، ويقسمه -أي: يقسم هذا المال- بين دائنيه, كل بحسب دينه، أي: على نسبة ديونهم، أم أن الحاكم ليس له ذلك، ولكن يملك أن يحبس هذا المدين حتى يدفع إلى دائنيه جميع ماله على أي نسبة اتفقت، أو لمن اتفق منهم؟ وكذا في حالة الشخص الذي له مال يفي بدينه، ولكن أبى أن يسدد ما عليه من ديون، فكثير من الناس يكون هكذا, عنده مال وعليه ديون، ولكن يأبى أن يسدد فيرفع الأمر للحاكم, فيحجر عليه لمصلحة هؤلاء الناس؛ حتى يسدد لهم ديونهم.
نرجع إلى القول: هل يبيع الحاكم مال هذا المفلس حتى يسدد ما عليه من ديون -أي: الحاكم يقسم هذا المال فيسدد ما على المدين من ديون- أم يحبسه حتى يعطيهم بيده -أي: الشخص نفسه يعطيهم بيده- ما عليه من ديون؟
اختلف الفقهاء في الإجابة على ذلك على رأيين، أي: اختلفوا في ماهية سلطة الحاكم في الحجر على المدين المفلس، هل الحاكم يقوم ببيع ماله ويقسمه على الغرماء, أم يحبس المدين حتى يعطيهم ماله؟ على رأيين:
الرأي الأول: ذهب إليه الجمهور، وقالوا: إن للحاكم أن يبيع ماله عليه, فينصف غرماءه أو غريمه، ولنفترض أنه غريم واحد، وله عليه ديون كثيرة لا يفي ماله بها، فقالوا -أي: الجمهور: للحاكم -أي: من سلطة الحاكم- أن يبيع مال المدين المفلس وينصف الغرماء، بمعنى: أن يعطيهم حقوقهم من ماله الذي باعه، أو يحكم عليه بالإفلاس إن لم يف ماله بما عليه من ديون، ويحجر عليه التصرف فيه إذا طلب غرماؤه الحجر عليه، أي: الحاكم, فالجمهور قالوا: يملك هذا؛ يملك أن يبيع المال ويسدد ما عليه من ديون، ويوصل الحق إلى أصحابه، أو يصدر حكمًا بإفلاسه إن لم يف ماله بما عليه، فلو وجد أن ما عنده من مال لا يفي بما عليه من ديون يحجر عليه التصرفات، ويقول له: توقف عن أي تصرف, بيعًا كان أو شراء، أو أي تصرف يضر بالدائنين ما دام غرماؤه الدائنون طلبوا ذلك. قال بهذا الرأي الجمهور -أي: المالكية، والشافعية، والحنابلة، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة- وهو الرأي المفتى به عندهم.
الرأي الثاني: للإمام أبي حنيفة ومعه بعض أهل الرأي, حيث قالوا: لا يحجر القاضي على المدين, حتى وإن طلب غرماؤه الحجر عليه؛ لأنه كامل الأهلية، وفي الحجر عليه إهدار لآدميته، وربما نكون قد أشرنا إلى ذلك في موضعه، ففي الكلام في الحجر قال أبو حنيفة: لا يُحجَر على المجنون حتى لو طلب غرماؤه الحجر عليه؛ لأن الحجر عليه فيه انتقاص لآدميته، بل إهدار لآدميته، وهذا الأمر أخطر من الضرر الخاص الذي يلحق الدائن، فكأنه وزن بين الأمرين؛ ضرر يلحق الدائن من عدم حصوله على حقه، وحجر على المدين يهدر آدميته، ثم قال: إهدار آدميته بالحجر عليه أخطر من الضرر الذي يلحق الدائن، فتصرفاته نافذة، ولا يباع ماله جبرًا عنه، فلا يمكن أن يجبر على بيع ماله لسداد الدائنين؛ بل يؤمر فقط بسداد ديونه، فإن امتثل خيرًا وبركة، وإن لم يمتثل حبسه القاضي حتى يقضي ما عليه من الدين ببيع ماله أو بغيره.
فكل ما يملكه القاضي هو أن يحبسه كنوع من التهديد، ويقول له: إما أن تقضي ما عليك من الدين، أو ستظل في الحبس حتى توفي ما عليك من دين، وحبسه هنا عند أبي حنيفة إنما جاز لدفع ظلمه بمماطلته، فكأن أبا حنيفة جعل هذا الحبس نوعًا من العقوبة لمماطلته وعدم دفعه، ولا يعد في نظر أبي حنيفة هذا الحبس إكراهًا له على بيع ماله، أي: كأنه يظل في الحبس إلى أن يسدد دون ضغط عليه، ودفع ظلم المماطلة، ولا يكره على بيع ماله، وإنما يكون القصد من الحبس هنا حمله على قضاء دَيْنه، وسيظل في الحبس إذا لم يسدد ما عليه، أو يموت محبوسًا كما قال أبو حنيفة رحمه الله، وإذا مات محبوسًا يبيع القاضي عندئذ ما عنده من مال، ويقسمه على الغرماء.
إذًا: عندنا رأيان: رأي الجمهور، ورأي أبي حنيفة، وهو الذي انفرد به مع بعض أهل الرأي، وكل له دليل.
فالجمهور استدلوا بالمنقول والمعقول، أي: دليل رأي الجمهور -وهو أن المفلس يباع عليه ماله، ويقسمه الحاكم بين الغرماء، ويحجر عليه بطلب الدائنين، ويمنع تصرفه- بالمنقول والمعقول؛ فمن المنقول أنهم استدلوا بحديث معاذ بن جبل الذي أخرجه البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن كعب, أنه كثر دينه -كثر ما على معاذ من دين- وكان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحجر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وقال لغرمائه: ((خذوا ما معه, ليس لكم إلا ما وجدت)).
كذلك أيضًا من المنقول استدلوا بحديث لأبي سعيد الخدري, الذي أخرجه مسلم وغير مسلم، قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها, فكثر دينه -أي: ابتاع ثمارًا كثيرة فظل يشتري ثمارًا، حتى كثرت ديونه فاعتبر ذلك مصيبة نزلت به- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه الذين كثرت ديونهم عليه: ((تصدقوا عليه)), أي: اعملوا فيه معروفًا وتصدقوا عليه؛ فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء بدينه، فحتى من تصدق عليه بشيء من المال جمعه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الوفاء؛ فقال صلى الله عليه وسلم لغرمائه: ((خذوا ما وجدتم, ليس لكم إلا ذلك)).
أيضًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أثرٌ في ذلك، وهو أنه قضى على مفلس بذلك؛ ففيما روي عن بلال بن الحارث: “أن رجلًا من جهينة يقال له: أسيفع جهينة، هذا الرجل قد أفلس؛ فقام عمر رضي الله عنه فقال: “أما بعد, فإن أسيفع جهينة -وكان يغالي بالرواحل- رضي من أمانته ودينه أن يقال: سبق الحاجُّ فادّان مُعرِضًا، فأصبح قد دين به, فمن كان له دين فليأتنا فإنا آخذو ماله” فلم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان هذا اتفاقًا منهم على أنه يباع على المدين ماله.
ومعنى “فادان معرضًا” أي: كان يعترض طريق الناس فيستدين ما وجد ممن وجد، حيث يقف في طريق الناس ويستدين ويقول: أعطني مالًا, أنا أريد مالًا، الذي يجده معهم ما أمكنه، حتى من يطالبه بما له عليه لا يبالي به، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “فأصبح قد دين به” أي: أصبح فكثرت ديونه, فقال رضي الله عنه: “من كان له دين فليأتنا، فإنا آخذو ماله” فلم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان هذا اتفاقًا منهم على أنه يباع على المدين ماله.
عندنا الآن ثلاثة أدلة؛ نقلان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأثر من عمر في هذا الذي يدعى أسيفع جهينة، وأنه كان منه ما كان، وأن عمر رضي الله عنه نبه على الناس، وقال: من كان له دين فليأتنا؛ فإنا آخذو ماله لنوزعه على دائنيه، فلم يعترض عليه أحد من الصحابة، فهذا دليل على أن المدين يباع عليه ماله. هذا هو المنقول سواء كان من السنة أو من أثر روي عن عمر.
أما عن المعقول, فقال الجمهور: إذا كان المدين محجورًا عليه لحق ورثته، فأحرى أن يكون محجورًا عليه لحق الغرماء، أي: إذا كنا نحجر على المدين من التصرف محافظةً على مال الورثة في حق في ماله، فمن باب أولى أن يحجر على هذا الشخص المدين من التصرف في أمواله لحق الغرماء الأجانب، فربما كان الورثة يتهاونون، لكن الغريم ربما لا يتنازل عن دينه؛ فلهذا أخذناه من باب الأحرى فيكون محجورًا عليه لحق الغرماء.
هذه أدلة الجمهور على الاستدلال بجواز بيع مال المدين لحق الغرماء؛ لتوفية حقوقهم.
نأتي إلى أدلة أبي حنيفة والتي قلنا رأيه قبل قليل، فأبو حنيفة ومن معه استدلوا بقوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ} [النساء: 29], على أن بيع المال على المدين بغير رضاه ليس بتجارة عن تراضٍ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم, إلا بطِيب نفسٍ منه))، ثم يأخذ من هذا الحديث أن نفس المدين لا تعتبر طيبة إذا باع القاضي ماله عليه، فلا ينبغي له أن يفعله لظاهر هذا النص من الحديث، وأنه لا تكون نفسه طيبة بهذا البيع.
استدل أيضًا بحديث جابر بن عبد الله حين استُشهد أبوه بأُحُد، وكان أبوه هذا عليه دين, فلما طالب الغرماء جابرًا وقالوا: إن أباك عليه دين، قال جابر: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته, فسألهم أن يقبلوا مني حائطي -أي: الحديقة- ويحللوا أبي، فكأن جابرًا عرض على الدائنين أن يأخذوا الحديقة ويتركوه، وسواء أوفت أو زادت يحللوا أباه مما لهم عليه من دَيْن، فلم يعطهم رسول اللهصلى الله عليه وسلم حائطي, أي: هم أبوا قالوا: لا نأخذ الحائط، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يسلمهم الحائط، وقال: ((ولكن سأغدو عليه)) كأنه يخاطب جابرًا، ويقول: سوف أمر عليك بعد ذلك، أو أغدو عليك من الصباح لليوم الثاني، قال جابر: فغدا عليناصلى الله عليه وسلم أي: جاءنا حين أصبح, فطاف بالنخل الذي في الحديقة، فدعا في ثمرها بالبركة، قال: فجذذتها فقضيت منها حقوقهم، وبقي من ثمرها بقية. وهذا دليل على أن النبيصلى الله عليه وسلم لم يبع مال المدين وإنما أبقاه، ودعا للنخل بالبركة فجذّ الثمر وباعه، فكان ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وفاء للديون.
واستدل أبو حنيفة أيضًا ومن معه بأن أسيد بن الحضير مات وعليه عشرة آلاف درهم، فدعا عمر بن الخطاب غرماءه -أي: الدائنين له- فقبلهم أرضه بأربع سنين بما لهم عليه، أي: قال لهم: هذه أرض معكم لمدة أربع سنين تكفي في دينه، قال أبو حنيفة، ومن معه: هذه الآثار كلها ليس فيها بيع أصل في دين، وإنما كل الأصول هنا التي ذكرناها -سواء كان حديث جابر بن عبد الله وموقف أبيه، أو حديث أسيد بن الحضير لما مات وعليه عشرة آلاف درهم, أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لهم: هذه أرض ازرعوها مثلًا أو استعملوها لمدة أربع سنين- ليس فيها دليل على أن يباع أصل في دين، لكن ما هو الرأي الراجح؟
الراجح هو قول الجمهور؛ لأنه هو الذي يحقق العدالة، ويحفظ حقوق الدائنين وأموالهم من الضياع؛ لأن في ترك المدين يتصرف في الأموال دون مراعاة بهؤلاء الدائنين، إبطالًا لحقوق غرمائه، والأصلح الذي يحقق العدالة هو أنه إذا لجأ الدائنون إلى القاضي وطلبوا الحجر عليه؛ يحجر عليه القاضي، ومن حق القاضي أن يبيع ماله ليسدد ما عليه من ديون.
إذا رجحنا رأي الجمهور القائل بالحجر على المدين المفلس, فهل يتوقف الحجر على المدين على قضاء القاضي, أم لا؟
للجمهور رأي، وللمالكية رأي آخر، ففي هذه الجزئية للجمهور -الحنفية والشافعية والحنابلة- رأي وللمالكية رأي آخر، فالجمهور -غير المالكية- قالوا: لا يحجر على المدين المفلس إلا بقضاء القاضي.
إذًا: تصرفاته قبل قضاء القاضي تكون نافذة؛ لأن الأصل هو جواز هذه التصرفات إلا إذا حدث الحجر، فإذا حجر عليه مُنع من التصرفات التي تضر بالدائنين، وهي: التبرعات، والمعاوضات المالية، والإقرار بالدين في حال الحجر، ويبيع الحاكم ما له ويقسم ثمنه على دائنيه.
والحنفية أيضًا اشترطوا في المفتى به عندهم؛ أن يكون دينه مستغرقًا أمواله ويزيد عليها، فكأن الحنفية والمفتى به عندهم من أجل أن يحكم على المدين من القاضي بالحجر, أن يكون ما على المدين من دين مستغرقًا لأمواله، أي: أكثر من أمواله وزيادة، وفي نفس الوقت يطلب الدائنون الحجر عليه، وفيما عدا ذلك لا يُلجأ إلى القاضي، ولا يحكم عليه, ولا يقضى الأمر إلى حكم القاضي بالحجر.
واشترط الشافعية والحنابلة للحجر على المدينين شرطين, كالشرطين السابقين: أن تكون ديونه حالة وتزيد على ماله، وأن يطلب دائنوه الحجر عليه؛ فاشترطوا أن تكون حالة، وفي نفس الوقت تكون مستغرقة وتزيد على ماله، وأن يطلب دائنوه الحجر عليه.
وللمالكية رأي آخر في مسألة: هل يتوقف الحجر على المدين المفلس, على قضاء القاضي, أم لا؟ فهم يقولون: للمدين المفلس بالنظر إلى الحجر عليه, وعدم الحجر عليه حالتان: حالة وقت الفلس وقبل الحجر عليه، وحالة بعد الحجر، والحالة الأولى -وهي حالة ما قبل الحجر عليه- لا يجوز له التصرف في ماله بغير عوض, إذا كان من الأمور غير اللازمة.
وهناك أمور لازمة وأخرى غير لازمة، فمن الأمور اللازمة: نفقته على الآباء، نفقته على الأبناء، ويلزمه الشرع بفعلها، فإذا كانت من الأمور غير اللازمة فلا يجوز له التصرف فيها، أما إذا كانت من الأمور اللازمة كالنفقة فينفق منها بقدر ما يحتاجه هؤلاء، وتراعى العادة في ذلك، أي: فيما له الإنفاق تراعى فيه العادة، فلا ينفق ببذخ، أي: في الحدود المعقولة.
هذه حالة ما قبل الحجر عند المالكية؛ حيث يتصرف في ماله إذا كان من الأمور اللازمة، أما إذا لم يكن من الأمور اللازمة، ولم تجر العادة بفعله، أو كان في تصرفه غير لازم، أو فيه محاباة كما لو أقر بدين لمن يتهم عليه، فكل هذه الأمور التي ترجع إلى حالة ما قبل الحجر، لا يجوز له التصرف فيها.
يعني المالكية يفرقون في تصرفاته بالنظر إلى الحجر عليه وعدمه، حالة ما قبل الفلس أو قبل الحكم بالتفليس، وحالة بعد الحجر قبل الحكم عليه بالتفليس، قالوا: بعد الحكم بتفليسه لا يجوز له بيع، ولا شراء، ولا إقراره بدين في ذمته لا لقريب ولا لبعيد، ولا تحقق هذه الحالة إلا إذا طلب جميع الدائنين ذلك أو بعضهم, وكان الدين حالًّا، فلا يصح تفليسه بدين مؤجل، أي: لو أن هؤلاء الدائنين كان لهم ديون لم يحل موعدها بعد, فليس لهم أن يطلبوا من القاضي أن يحكم بتفليسه؛ لأنه قد يسدد لهم الدين عند حلول الأجل.
هذا كل ما يتصل برأي الجمهور ورأي المالكية في مسألة: هل يتوقف الحجر على المدين على قضاء القاضي, أم لا؟ بعد أن قلنا: إن هناك رأيين؛ رأيًا للجمهور ورأيًا لأبي حنيفة في المدين الذي استغرق دين ماله، فالجمهور يقولون: يحجر عليه، وأبو حنيفة وحده يقول: لا يحجر عليه، واستدل كلٌّ بأدلته، لكنّا رجحنا قول الجمهور، ثم قلنا مع ترجيح قول الجمهور: هل يتوقف الحجر عند الجمهور على قضاء القاضي, أم لا؟ فللجمهور رأي وللمالكية رأي آخر، وعندما نقول: رأي الجمهور فهنا لا ندخل رأي أبي حنيفة معنا، وإنما ندخل قول الصاحبين اللذين كان لهما رأي في ذلك، وهو أن يكون دينه مستغرقًا أمواله ويزيد عنها، وأن يطلب دائنوه الحجر عليه، وقلنا: هذا رأي الجمهور، كأنه رأي الشافعية والحنابلة ورأي أبي يوسف ومحمد، وللمالكية رأي فقالوا: ينظر إلى المدين المفلس في حالة ما قبل الحجر عليه، وما بعد الحجر عليه، وعرفنا ذلك.