تعريف الحديث الحسن لذاته اصطلاحًا
ثالثًا: الحديث الحسن لذاته:
الحسن في اللغة:
الحسن في اللغة ضدّ القبيح، والسيّئ، ويستعمل في المحسوسات والمعنويات.
الحديث الحسن لذاته اصطلاحًا:
اختلفتْ عبارات العلماء في تعريف الحديث الحسن لذاته، وذلك يرجع إلى أن الحسن درجةٌ متوسطةٌ بين الصحيح والضعيف، فشقّ على العلماء أن يُعَرّفوا الحديث الحسن بتعريف جامع مانع لا يَرِدُ عليه أيّ اعتراض، وهذه بعض التعريفات:
التعريف الأول: تعريف أبي سليمان الخطابي.
قال الإمام أبو سليمان الخطابي: الحديث الحسن لذاته هو ما عُرف مخرجه، واشتهر رجاله، وعليه مَدَار أكثر الحديث، ويقبله أكثر العلماء، واستعمله عامّة الفقهاء.
شرح تعريف الخطابي والاعتراض عليه: اشتمل تعريف الخطابي على عدّة قيود:
القيد الأول: “ما عُرف مخرجه”:
والمراد بمعرفة مخرج الحديث اتّصالُ الإسناد؛ لأن الإسناد إذا كان متصلًا عرفنا موطن كل راوٍ وجهته، وذلك لأن المخرج موضع الخروج. يقال: خرج مخرجًا حسنًا، وهذا مخرجه، فالمخرج اسم مكان.
القيد الثاني: “اشتهر رجاله”:
والمراد اشتهارهم بالعدالة والضبط القاصر عن ضبط رجال الصحيح، غير أن الخطابي لم يصرّح بذلك؛ لذلك اعترض عليه العلماء فقالوا: إن تعريفه غير مانعٍ من دخول غير الحسن فيه، وشرط التعريف أن يكون جامعًا مانعًا.
اعتراض ابن دقيق العيد على تعريف الخطابي:
قال ابن دقيق العيد: إن تعريف الخطابي للحديث الحسن يدخل فيه الحديث الصحيح؛ لأنه قد عُرف مخرجه واشتهر رجاله، وقد اعترض ابن الصلاح وصاحب المنهل الرّوي على الخطابي بمثل اعتراض ابن دقيق العيد.
الردّ على ابن دقيق العيد:
قال الشيخ تاج الدين التَّبْريزي: في قول ابن دقيق العيد نظر؛ لأن ابن دقيق العيد ذكر أن الصحيح أخصّ من الحسن، قال: ودخول الخاصّ في حدّ العامّ ضروري، والتقييد بما يُخرجه عنه مخلّ بالحدّ أي: بالتعريف.
قال الحافظ العراقي: وهو اعتراض متّجه.
قال الحافظ السخاوي عقب ردّ التبريزي على ابن دقيق العيد: وبه اندفع الاعتراض، وحاصلة أن ما وُجدت فيه هذه القيود كان حسنًا، وما كان فيه معها قيدٌ آخر يصير صحيحًا، ولا شك في صدق ما ليس فيه على ما فيه إذا وجدت قيود الأول، لكن قال شيخنا: إن هذا كله بناءً على أن الحسن أعمّ مطلقًا من الصحيح. أما إذا كان من وجهٍ كما هو واضح ممّن تدبّره فلا يَرِدُ اعتراض التبريزي؛ إذ لا يلزم من كون الصحيح أخصّ من الحسن من وجهٍ أن يكون أخصّ منه مطلقًا حتى يدخل الصحيح في الحسن. وبيان كونه وجيهًا -فيما يظهر- أنهما يجتمعان فيما إذا كان الصحيح لغيره والحسن لذاته، ويفترقان في الصحيح لذاته والحسن لغيره، ويُعبّر عنه بالمباينة الجزئية. ثم رجع شيخنا فقال: والحقّّ أنهما متباينان؛ لأنهما قسمان في الأحكام، فلا يصدق أحدهما على الآخر البتّة.
اعتراض ابن جماعة على تعريف الخطابي:
قال ابن جماعة: يُعترض على تعريف الخطابي بأنه غير مانع؛ لأن الضعيف الذي عُرِف مخرجه، واشتُهر رجاله بالضّعف يدخل في تعريف الحسن عند الخطّابي، ولكن يُرَدّ على ابن جماعة بأن المراد باشتهار رجال الحسن شهرة خاصة، ثم إن بقيّة تعريف الخطابي يردّ هذا الاعتراض؛ حيث قال فيه: ويقبله أكثر العلماء، واستعمله عامّه الفقهاء، والضعيف ليس كذلك. إذًا مرادُ الخطابي بالشهرة، الشهرة بالعدالة والضبط القاصر عن ضبط الصحيح، وليس المراد مطلق الشهرة. ولا بد مع هذين الشرطين ألا يكون الحديث شاذًّا ولا معللًا.
قوله: “واستعمله عامّه الفقهاء” أي: أن أكثر الفقهاء يعملون بالحديث الحسن، فيستنبطون منه الأحكام؛ خلافًا لمن تشدّد منهم، فإنهم لا يستنبطون منه الأحكام. وهذا الكلام، وهو قوله “واستعمله عامّه الفقهاء” فَهِمَهُ العراقي زائدًا عن التعريف، فأخّر ذكره، وفصله عن التعريف، ولكنه داخلٌ في التعريف؛ ليخرج بذلك الحديث الصحيح، فإنه لا خلاف في العمل به بين الفقهاء، وليخرج بذلك الحديث الضعيف، فإنه لا يُعمل به إلا عند بعض العلماء بشروط. قال البلقيني: بل هو -أي: قوله “واستعمله عامه الفقهاء”- من جملة الحدّ -أي: التعريف- ليخرج الصحيح، بل والضعيف.
التعريف الثاني: تعريف الترمذي:
قال أبو عيسى الترمذي في كتاب “العلل”: وما ذكرنا في هذا الكتاب -أي: سنن الترمذي- حديثًا حسنًا، فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا. ثم عرّف الحديث الحسن فقال: كل حديث يُروى لا يكون في إسناده من يتّهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذًّا، ويُروى من غير وجهٍ نحو ذلك، فهو عندنا حديث حسن.
شرح تعريف الترمذي والاعتراض عليه:
قال شيخ الإسلام ابن حجر: قد ميّز الترمذي الحسن عن الصحيح بشيئين:
الشيء الأول: أن يكون راويه قاصرًا عن درجة راوي الصحيح، بل وراوي الحسن لذاته، وهو أن يكون غير متّهم بالكذب، فيدخل فيه المستور والمجهول، ونحو ذلك. وراوي الصحيح لا بد وأن يكون ثقة، وراوي الحسن لذاته لا بد وأن يكون موصوفًا بالضبط، ولا يكفي كونه غير متهم، قال: ولم يعدل الترمذي عن قوله: ثقات، وهي كلمة واحدة إلى ما قاله إلا لإرادة قصور راويه عن وصف الثقة، كما هي عادة البلغاء.
الشيء الثاني: مجيئه من غير وجهٍ على أن عبارة الترمذي، فيما ذكره في العلل، التي في آخر جامعه، “وما ذكرنا في هذا الكتاب حديثًا حسنًا؛ فإنما أردنا حسن إسناده” إلى آخر كلامه.
قال ابن سيّد الناس: فلو قال قائل: إن هذا إنما اصطلح عليه في كتابه، ولم يَخُنْهُ اصطلاحًا عامًّا لكان له ذلك.
وقال بعض المتأخرين: قول الترمذي مرادف لقول الخطابي: فإن قوله “ويروى نحوه من غير وجهٍ” كقوله: “ما عُرف مخرجه”.
وقول الخطابي: “اشتهر رجاله -يعني: بالسّلامة- من وصمة الكذب” كقول الترمذي: “ولا يكون في إسناده من يتّهم بالكذب”، وزاد الترمذي: “ولا يكون شاذًّا ولا حاجة إليه”؛ لأن الشاذّ يُُنافي عرفان المخرج، فكأن المصنف أسقطه لذلك. لكن قال العراقي: تفسير قول الخطابي: ما عُرف مخرجه بما تقدّم من الاحتراز عن المنقطع؛ لأن الساقط منه بعض الإسناد لا يُعرف فيه مخرج الحديث، إذ لا يدري من سقط، بخلاف الشاذّ الذي أُبرز كل رجاله، فعرف مخرج الحديث من أين. وقال البلقينيّ: اشتهار الرجال أخصّ من قوله: “ولا يكون في الإسناد متّهم” لشموله المستور.
قال ابن الصلاح بعد أن ذكر تعريف الترمذي، وتعريف ابن الجوزي: “كل هذا مُسْتَبْهَمٌ لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن من الصحيح، وسنذكر تعريف ابن الصلاح -إن شاء الله تعالى- وكذا قال الحافظ أبو عبد الله بن المواق: لم يخصّ الترمذي الحسن بصفة تميّزه عن الصحيح، فلا يكون صحيحًا إلا وهو غير شاذٍّ، ورواته غير متّهمين بل ثقات.
قال ابن سيد الناس: بَقِيَ عليه أنه اشترط في الحسن أن يُرْوَى من وجهٍ آخر، ولم يشترط ذلك في الصحيح. قال الحافظ العراقي: إن الترمذي حسّن أحاديث لا تُروى إلا من وجهٍ واحد، كأحاديث إسرائيل عن يوسف بن أبي بردة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك». الحديث أخرجه الترمذي كتاب الطهارة، باب ما يقول: إذا خرج من الخلاء. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل عن يوسف بن أبي بردة، وأخرجه غير الترمذي. فقوله: “حديث غريب” لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد أجاب ابن سيد الناس عن هذا الحديث بأن الذي يحتاج إلى مجيئه من غير وجهٍ ما كان راويه في درجة المستور، ومن لم تثبت عدالته. قال: وأكثر ما في الباب أن الترمذي عرّف بنوع منه لا بكل أنواعه.
التعريف الثالث: تعرفي ابن الجوزي:
والحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل: هو الحديث الحسن، ويصلح للعمل به.
شرح تعريف ابن الجوزي، والاعتراض عليه. قال الطيبي: ما ذكره ابن الجوزي مبنيّ على أن معرفة الحسن موقوفة على معرفة الصحيح والضعيف؛ لأن الحسن وسطٌ بينهما، فقوله قريب -أي: قريب مخرجه إلى الصحيح محتمل- لكون رجاله مستورين.
قال ابن دقيق العيد: وليس ما ذكره منضبطًا بضابط يتميّز به القدر المحتمل من غيره. وقد أجاب عن هذا الاعتراض الطيبي فيما سبق. قال البدر ابن جماعة: وأيضًا فيه دور؛ لأنه عرفه بصلاحيته للعمل به، وذلك يتوقّف على معرفة كونه حسنًا. وقد أجاب عن ذلك الحافظ السيوطي فقال: ليس قوله “ويعمل به” من تمام الحدّ بل زائد عليه؛ لإفادة أنه يجب العمل به كالصحيح.
التعريف الرابع: تعريف الشيخ أبو عمرو بن الصلاح:
بعد أن ذكر تعريف أبي سليمان الخطّابي، وأبي عيسى الترمذي، وأبي الفرج بن الجوزي، قلت: كلّ هذا مُسْتَبْهَمٌ لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن من الصحيح، وقد أمعنت النظر في ذلك، والبحثَ جامعًا بين أطراف كلامهم، ملاحظًا مواقع استعمالهم، فتنقّح لي واتّضح أن الحديث الحسن قسمان:
القسم الأول: الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقّق أهليته، غير أنه ليس مغفلًا كثيرَ الخطأ فيما يرويه، ولا هو متّهم بالكذب في الحديث، أي: لم يظهر منه تعمّد الكذب في الحديث، ولا سبب آخر مفسر. ويكون متن الحديث مع ذلك قد عُرف بأن رُوي مثله، أو نحوه من وجه آخر، أو أكثر حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله، أو بما له من شاهد، وهو ورود حديث آخر بنحوه، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذًّا ومنكرًا، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل، وهذا هو تعريف الحديث الحسن لغيره.
القسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح؛ لكونه يقصر عنه في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يُعَدّ ما ينفرد به من حديثه منكرًا، ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذًّا ومنكرًا سلامته من أن يكون معلّلًا. وعلى هذا القسم يتنزّل كلام الخطابي؛ فهذا الذي ذكرناه جامع لما تفرّق في كلام من بلغنا كلامه في ذلك، وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن، وذكر الخطابي النوع الآخر، واقتصر كلّ واحد منهما على ما رأى أنه يُشكِلُ معرضًا عمّا رأى أنه لا يُشكل، أو أنه غفل عن البعض وذَهَنَ، والله أعلم. هذا تأصيل ذلك وتوضحيه. والقسم الثاني هو الحديث الحسن لذاته.
وقد اعترض على تعريف ابن الصلاح: ابنُ دقيق العيد، وابنُ جماعة:
قال ابن دقيق العيد: وعليه مؤاخذات ومناقشات.
قال ابن جماعة: يردُ على الأول من القسمين الضعيف، والمنقطع، والمرسل الذي في رجاله مستورٌ، ورُوي مثله أو نحوه من وجهٍ آخر، وعلى الثاني المرسل الذي اشْتُهِر راويه بما ذكر، فإنه كذلك، وليس بحسن في الاصطلاح.
التعريف الخامس: تعريف ابن جماعة:
قال: لو قيل الحسن كل حديث خالٍ من العلل، وفي سنده المتّصل مستورٌ له به شاهد، أو مشهور قاصر عن درجة الإتقان، فكان أجمع لما حدّدوه وأخصر.
وهذا التعريف للحديث الحسن بقسْمَيْه: فالشطر الأول، وهو قوله “الحسن كل حديث خالٍ من العلل وفي سنده المتصل مستور له به شاهد” هذا تعريف الحسن لغيره.
أما الشطر الثاني وهو قوله: “الحسن كل حديث خالٍ من العلل، وفي سنده المتصل مشهور قاصرٌ عن درجة الإتقان” فهذا تعريف الحسن لذاته.
التعريف السادس: تعريف الطيبي:
قال الطيبي لو قيل الحسن مسند من قَرُبَ من درجة الثقة، أو مرسل ثقة، ورُوي كلاهما من غير وجهٍ، وسَلِمَا من شذوذٍ وعلّةٍ؛ لكان أجمع الحلول وأضبطها، وأبعد عن التعقيد.
يُعترض على تعريف الطيبي بأن الحسن لذاته لا يشترط فيه أن يُرْوَى من غير وجه؛ فهذا شرط الحسن لغيره، والطيبي سوّى بينهما.
التعريف السابع: تعريف شيخ الإسلام ابن حجر:
قال: هو ما اتّصل سنده بنقل عدل خفيف الضبط من غير شذوذٍ، ولا علّةٍ. وهذا التعريف أخذناه من مجموع كلامه في تعريف الصحيح والحسن؛ حيث قال رحمه الله : وخبر الآحادِ بنقل العدل تامّ الضبط متّصلٌ مسندٌ غير معللٍ ولا شاذٍّ، وهو الصحيح لذاته. فإن خفّ الضبط -أي: قل- والمراد مع بقية الشروط المتقدّمة في حدّ الصحيح، فهو الحسن لذاته لا لشيء خارج؛ فشرك ابن حجر بين الصحيح والحسن في كل الشروط إلا تمام الضبط.
ثمّ عرّف الحسن لغيره فقال: هو الذي يكون حسنه بسب الاعتضاد نحو: حديث مستور إذا تعدّدت طرقه. ويُلاحظ أن الحافظ ابن حجر سوّى بين الحديث الصحيح والحديث الحسن في كل الشروط، إلا في شرط الضبط؛ حيث بيّن رحمه الله أن راوي الحديث الصحيح تامّ الضبط، أما راوي الحديث الحسن فهو خفيف الضبط. قال الإمام تقي الدين أحمد الشمني: الحسن خبر متّصل قلّ ضبط راويه العدل، وارتفع عن حال من يُعَدّ تفرّده منكرًا، وليس بشاذ ولا معلل.
من التعريفات السابقة للحديث الحسن لذاته يتضح لنا ما يأتي:
- الحديث الحسن لذاته يُشارك الحديث الصحيح في جميع شروطه إلا في شرط واحد، وهو شرط الضبط؛ فراوي الحديث الصحيح لذاته لا بد من أن يكون تامّ الضبط، أما راوي الحديث الحسن لذاته فهو خفيف الضبط، أو يُشترط فيه مسمّى الضبط لا تمامه.
- الحديث الحسن لذاته يُشارك الحديث الصحيح لذاته في وجوب العمل به، وإن كان دونه في المرتبة، ولهذا أدرجه بعض العلماء في قسم الحديث الصحيح، كالحاكم أبي عبد الله النيسابوري صاحب (المستدرك)، وابن خزيمة، وابن حبان مع قولهم: “بأن الحسن لذاته، دون الصحيح لذاته”.
سبب اختلاف العلماء في تعريف الحديث الحسن:
قال ابن كثير: وهذا النوع -أي: الحديث الحسن- لمّا كان وسطًا بين الصحيح والضعيف في نظر الناظر، لا في نفس الأمر؛ عَسُرَ التعبير عنه، وضبطه على كثير من أهل هذه الصنعة أي: أهل الحديث، وذلك لأنه أمر نسبي، شيء ينقدح في نفس الحافظ، وربّما تقصر عبارته عنه، وكذلك قال البلقيني: وقال كما قيل في الاستحسان، أي: في تعريفه، فلذلك صعب تعريفه.
تفاوت مراتب الحديث الحسن: الحديث الحسن لذاته ليس كلّه في مرتبة واحدة، بل تتفاوت مراتبه، كما تفاوتت مراتب الحديث الصحيح لذاته. وذلك إنما يرجع إلى مدى تمكن الحديث الحسن لذاته من شروطه؛ فليس الحديث الحسن لذاته الذي في إسناده راوٍ واحد صدوق، كالحديث الحسن لذاته الذي في إسناده أكثر من راوٍ موصوف بأنه صدوق إلى غير ذلك.
الحديث الحسن الذي اختلف العلماء في تصحيحه أو تحسينه أقوى مما اتفق العلماء على تحسينه، مثال ذلك: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، فذهب بعض العلماء إلى تصحيح ما رُوي بإسناد من هذين الإسنادين، وذهب بعض العلماء إلى تحسين ما رُوي بإسنادٍ من هذين الإسنادين.
مظانّ الحديث الحسن لذاته:
من المعلوم أن كُتب السنة منها كتبٌ اقتصر مؤلفوها على تخريج الأحاديث الصحيحة، مثل “صحيح الإمام البخاري” و”صحيح الإمام مسلم”، وبعض الكتب اقتصر مؤلفوها على تخريج الأحاديث الصحيحة، غير أن مؤلفوها لا يَرَوْنَ التفرقة بين الحديث الصحيح والحديث الحسن؛ لذلك وُجدت في كتبهم أحاديثٌ حسان، مع أنهم خصّوها بالصحيح. من هؤلاء الإمام ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في المستدرك. وإنما جمع هؤلاء في كتبهم بين الصحيح والحسن، وإن كانوا أطلقوا عليها كلمة الصحيح؛ لأن الصحيح والحسن كلاهما صالح للاحتجاج به، بل قد يُوجد في بعض هذه الكتب التي أطلق عليها أصحابها اسم الصحيح أحاديث ضعيفة.
من هذه الكتب التي أُطلق عليها اسم الصحيح، وهي تجمع بين الصحيح والحسن (صحيح ابن خزيمة)، و(صحيح ابن حبان)، و(المستدرك للحاكم)، وبعض الكتب جمعت بين الحديث الصحيح والحديث الحسن والحديث الضعيف. وقد صرّح أصحابها بذلك مثل كتب السنن الأربعة، و(مسند الإمام أحمد ابن حنبل)، و(سنن الدارقطني)، و(سنن الدارمي)، و(صحيح ابن خزيمة)، و(صحيح ابن حبان)، و(المستدرك للحاكم)، و(سنن الكبرى للإمام البيهقي)،… وغير ذلك من كتب السنة. وسنذكر بعض الكتب التي هي مظنّة الحديث الحسن.
الكتاب الأول: (سنن الإمام أبي داود) للحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني، الْمُتَوَفَّى في سنة خمس وسبعين ومائتين من الهجرة، فلقد جاء عنه أنه يذكر في كتابه السنن الحديث الصحيحة، وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهنٌ شديد -أي: ضعف شديد بيّنه، وما سكت عنه فهو صالح.
الكتاب الثاني: (سنن الترمذي): للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة المعروف بالترمذي، الْمُتَوَفَّى في سنة تسعٍ وسبعين ومائتين من الهجرة، والترمذي يتعقّب الأحاديث بالحكم عليها، كما هو واضحٌ في سننه، كما أن الترمذي ينقل في سننه عن البخاري تصحيح أحاديث ليست في صحيح الإمام البخاري، أو صحيح مسلم.
الكتاب الثالث: (سنن الإمام النسائي) للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب المعروف بالنسائي، الْمُتَوَفَّى في سنة ثلاثٍ وثلاثمائة.
الكتاب الرابع: (سنن الإمام ابن ماجه) للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد المعروف بابن ماجه القزويني، الْمُتَوَفَّى في سنة خمس وسبعين ومائتين من الهجرة.
الكتاب الخامس: (سنن الإمام الدارقطني) للحافظ أبي الحسن علي بن عمر المعروف بالدارقطني، الْمُتَوَفَّى في سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
الكتاب السادس: (سنن الإمام الدارمي) للحافظ أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن، المعروف بالدارمي، الْمُتَوَفَّى في سنة خمس وخمسين ومائتين من الهجرة.
الكتاب السابع: (مسند الإمام أبي عبد الله) أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الْمُتَوَفَّى في سنة إحدى وأربعين ومائتين من الهجرة.
الكتاب الثامن: (صحيح الإمام ابن خزيمة) للحافظ أبي بكر محمد بن خزيمة السلمي النيسابوري، الْمُتَوَفَّى في سنة إحدى عشر وثلاثمائة من الهجرة، وأكثر صحيح ابن خزيمة مفقود.
الكتاب التاسع: (صحيح الإمام ابن حبان) للحافظ محمد بن حبان بن أحمد أبي حاتم التميمي البُستِي، و(صحيح ابن حبان) يُسَمّى بالتقاسيم والأنواع.
الكتاب العاشر: (مستدرك الحاكم) للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، الْمُتَوَفَّى في سنة خمس وأربعمائة من الهجرة.
الكتاب الحادي عشر: (السنن الكبرى) للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين، المعروف بالبيهقي، الْمُتَوَفَّى في سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة من الهجرة، وغير ذلك من الكتب الكثيرة والتي لا يحصيها إلا الله -عز وجل.
مسائل تتعلّق بالحديث الصحيح والحسن:
المسألة الأولى: ما المراد بقول المحدثين: “هذا حديث صحيح الإسناد”، أو “حديث حسن الإسناد”؟
من المعلوم أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن، فقد يصح الإسناد؛ لأنه متصل ورجاله ثقات، ولا يصح المتن بأن للمتن شذوذ أو علة قادحة. وقد يصحّ المتن والإسناد غير صحيح؛ لأنه لم يستكمل شروط الصّحة، ثم يأتي المتن من طريق آخر، أو بإسناد آخر صحيح؛ لذلك كان الحكم على الحديث حكمًا على متنه وإسناده، فإذا قال إمام من الأئمة هذا حديث صحيح، فقد حكم على إسناده ومتنه بالصحة، وكذا إذا قال: هذا حديث حسن، فقد حكم على إسناده ومتنه أيضًا. أما إذا قال إمام: هذا إسناد صحيح، أو هذا إسناد حسن، فهل يُعتبر ذلك حكمًا على المتن، أم على الإسناد فقط.
قال الحافظ السيوطي: إذا قال الحافظ هذا حديث حسن الإسناد، أو صحيح الإسناد، دون قولهم: “حديث صحيح”، أو “حديث حسن”؛ لأنه قد يصحّ أو يحسن الإسناد لثقة رجاله، دون المتن لشذوذ أو علة، وكثيرًا ما يستعمل ذلك الحاكم في مستدركه. فإن اقتصر على ذلك حافظ معتمدٌ ولم يذكر له علة، ولا قادحة؛ فالظاهر صحّة المتن وحسنه، لأن عدم العلّة والقادح هو الأصل والظاهر.
قال الحافظ ابن حجر: والذي لا شكّ فيه أن الإمام منهم لا يعدل عن قوله صحيح إلى قوله: “صحيح الإسناد” إلا لأمر ما. والذي يظهر لي أن الإمام الحافظ إذا قال: “هذا حديث صحيح الإسناد”، أو “حديث حسن الإسناد”؛ فإن ذلك حكمًا منه على الإسناد دون متن، ولا يلزم من حكمه على الإسناد دون المتن أن يكون قادحًا في المتن، بل يكون قد توقّف في الحكم على المتن، وإلا فما الذي جعله يخصّ الحكم بالإسناد دون المتن، والأصل عدم التفرقة بينهما في الحكم.
المسألة الثانية: ما المراد بقول العلماء: “هذا حديث حسن صحيح”؟
سبق أن تحدث، عن الحديث الصحيح والحديث الحسن، وبيّنّا أن الحديث الحسن يُشارك الحديث الصحيح في جميع الشروط إلا في شرط واحد، وهو الضبط؛ فراوي الحديث الصحيح لا بد أن يكون تامّ الضبط، وراوي الحديث الحسن خفيف الضبط، غير أن الإمام الترمذي يجمع بين الوصفين في الحكم على الحديث الواحد فيقول: هذا حديث حسن صحيح. واستخدم هذا الاصطلاح في سننه كثيرًا، وكذلك استخدم هذا الاصطلاح في الحكم على الحديث الإمام علي بن عبد الله المعروف بابن المديني، الْمُتَوَفَّى سنة أربعٍ وثلاثين ومائتين من الهجرة، والإمام يعقوب بن شيبه صاحب المسند. وهذا الاصطلاح مُشْكِل؛ لأن راوي الحديث -راوي الحديث الصحيح- لا بد من أن يكون تامّ الضبط، وراوي الحديث الحسن خفيف الضبط. فكيف يجتمع تمام الضبط وخفّة الضبط في راوٍ واحد؟ وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال، أو الاعتراض بما يلي:
ما قيل فيه “حديث حسن صحيح”، إما أن يكون له إسناد واحد أو أكثر من إسناد:
أولًا: إذا كان ما قيل فيه: “هذا حديث حسن صحيح له إسنادان”؛ فإنه يكون صحيحًا باعتبار إسنادٍ، حسنًا باعتبار الإسناد الآخر.
مثال ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كل صلاة» ثبت تخريج هذا الحديث في موضع الحديث الصحيح. هذا الحديث أخرجه الإمام الترمذي من طريق محمد بن عمرو بن علقمة الليثي.
وخلاصة ما قيل في محمد بن عمرو: أنه من أهل المرتبة الرابعة، أي: أنه صدوق، فحديثه يكون حسنًا. وأخرج البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وأخرجه الإمام مسلم من غير طريق الإمام الترمذي أيضًا، راجع تخريج الحديث.
وعلى ذلك يكون معنى قول الترمذي: “حسن صحيح”؛ أنه حسن وصحيح في نفس الوقت، غاية الأمر أنه حذف حرف العطف، ويكون ما قيل فيه “حسن صحيح” إن كان له أكثر من إسناد أعلى مرتبة مما قيل: فيه صحيح فقط. إذا كان فردًا؛ لأن كثرة الطرق تعطي الحديث قوّة.
ثانيًا: إن كان ما قيل فيه: حسن صحيح ليس له إسناد واحد، وهو الذي يُعبّر عنه الترمذي بقوله “هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه”.
وقد أجاب العلماء عن ذلك النوع بعدة أجوبة ليرفعوا التعارض فقالوا:
الجواب الأول: وجود الصفة العليا لا يُنافي وجود الصفة الدُّنيا؛ فكل حديث صحيح فهو حسن، وليس كل حديث حسن صحيح.
قال ابن دقيق العيد: إن الحسن لا يُشترط فيه القصور عن الصحة إلا حيث انفرد الحسن. أما إذا ارتفع إلى درجة الصحة؛ فالحسن حاصل لا محالة تبعًا للصحه؛ لأن وجود الدرجات العليا، وهي الحفظ والإتقان لا يُنافي وجود الدنيا كالصدق، فيصح أن يقال: حسن باعتبار الصفة الدنيا، صحيح باعتبار العليا. ويلزم على هذا أن كل صحيح حسنًا، وقد سبقه إلى نحو ذلك غيره.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: ومثل ذلك قولهم في الراوي صدوق فرد، وصدوق ضابط. فإن الأول قاصرٌ عن درجة رجال الصحيح، والثاني منهم، فكما أن الجمع بينهما لا يضرّ، ولا يُشْكلٌ، فكذلك الجمع بين الصحة والحسن.
الجواب الثاني: الجمع بين الصحة والحسن درجة متوسطة بين الصحيح والحسن، فما نقول فيه: حسن صحيح أعلى رتبةً من الحسن ودون الصحيح. قال ابن كثير: إن الجمع بين الصحة والحسن درجة متوسطة بين الصحيح والحسن، فما تقول فيه: حسن صحيح أعلى رتبة من الحسن، ودون الصحيح. قال العراقي: هذا تحكم لا دليل عليه، وهو بعيد.
الجواب الثالث: إن ذلك يرجع إلى اختلاف علماء الجرح والتعديل في الحكم على راوٍ في إسناد هذا الحديث؛ فبعضهم يرى أنه من رجال الصحيح، وبعضهم يرى أنه من رجال الحسن، ولا يترجّح عنده قول واحد منهم، أو يترجّح ولكنه يُريد أن يشير إلى أقوال أهل العلم في الراوي، فيقول: حسن صحيح، وكأنه قال: هذا حديث حسن عند قوم، صحيح عند قوم آخرين. وغاية ما فيه أنه حذف حرف التردّد؛ لأن حقّه أن يقول: هذا حديث حسن أو صحيح. وعلى ذلك فما قيل فيه حسن صحيح، دون ما قيل فيه صحيح؛ لأن الجزم أقوى من التردّد. والله أعلم.
الجواب الرابع: قالوا: الوصف بالحسن وارد على المتن، والوصف بالصحة وارد على الإسناد؛ فلا تعارض بينهما، قال ابن الصلاح:
“المراد بالحسن معناه اللغوي، وهو: ما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب، دون المعنى الاصطلاحي، قال الحافظ السيوطي مؤيدًا كلام ابن الصلاح ذاكرًا مثال له، قال: كما وقع لابن عبد البر حيث روى في كتاب العلم، حديث معاذ بن جبل مرفوعًا: “تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله تعالى به أقوامًا؛ فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقص آثارهم، ويُقتدى بفعالهم، ويُنتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم”. إلى آخر الحديث.
وقال عقب هذا الحديث: “هذا حديث حسن جدًّا، ولكن ليس له إسناد قوي”.
فأراد بالحسن حسن اللفظ؛ لأنه من رواية موسى البلقاوي، وهو كذاب نسب إلى الوضع، عن عبد الرحيم العمي، وهو متروك.
وذكر السيوطي: أن شعبة وإبراهيم النخعي أطلقا الوصف بالحسن، وأرادا به المعنى اللغوي، دون الاصطلاحي.
اعتراض ابن دقيق العيد على ابن الصلاح:
قال ابن دقيق العيد: “يلزم على جواب ابن الصلاح أن يطلق على الحديث الموضوع إذا كان حسن اللفظ أنه حسن؛ وذلك لا يقوله أحد من المحدثين، إذا جروا على اصطلاحهم”.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: “ويلزم عليه أيضًا؛ أن كل حديث يوصف بصفة؛ فالحسن تابع لها؛ لأن كل الأحاديث حسنت اللفظ بليغة، ولما رأينا الذي وقع له -أي: للإمام الترمذي- هذا كثير الفرق؛ فتارة يقول: حديث حسن فقط، وتارة يقول: صحيح فقط، وتارة: حسن صحيح، وتارة: صحيح غريب، وتارة: حسن غريب؛ عرفنا أنه لا محالة جار مع الاصطلاح مع أنه قال في آخر (الجامع): وما قولنا في كتابنا: حديث حسن؛ فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا، فقد صرح بأنه أراد حسن الإسناد؛ فانتفى أن يراد حسن اللفظ”.