تعريف الحديث الصحيح لذاته
أولًا: الحديث الصحيح لذاته:
الصحيح لغةً: ضد السقيم والمكسور. وصحيح فعيل بمعنى فاعل من الصحة، وإطلاق الصحيح على الأجسام إطلاق حقيقي، أما إطلاق الصحيح على الحديث والعبادة والمعاملة وسائر المعاني؛ فهو إطلاق مجازي، من قبيل الاستعارة التصريحية التبعية؛ حيث شبهنا سلامة الحديث من المطاعن الضارة بصحة الأجسام وخلوها من الأمراض، بجامع مطلق الخلو في الكل، ثم استعرنا الصحة بمعنى الخلو من الأمراض إلى سلامة الحديث من المطاعن، ثم اشتققنا من الصحة التي بمعنى سلامة صحيح بمعنى سالم على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
الصحيح اصطلاحًا:
اختلفت عبارات العلماء في تعريف الحديث الصحيح، ونحن نورد بعض هذه التعريفات ثم نتعرض لها بشيء من الشرح والبيان.
التعريف الأول:
قال ابن الصلاح: الحديث الصحيح: هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذًّا ولا معللًا… قال: فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث.
التعريف الثاني:
قال أبو سليمان الخطابي: الحديث الصحيح: هو ما اتصل سنده وعدلت نقلته.
التعريف الثالث:
قال الإمام النووي: الحديث الصحيح: هو ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة؛ فهذا متفق على أنه صحيح.
الاعتراضات على التعريفات السابقة للحديث الصحيح والجواب عنها:
اعترض بعض العلماء على كل تعريف من هذه التعريفات السابقة باعتراضات شكلية نوردها ثم نذكر الإجابة عليها -إن شاء الله تعالى-:
أولًا: الاعتراض على تعريف ابن الصلاح والنووي:
الاعتراض الأول: قال الحافظ السيوطي: عبارة ابن الصلاح ولا يكون شاذًّا ولا معللًا؛ فاعترض عليه بأنه لا بد أن يكون بعلة قادحة، وأجيب بأن ذلك يؤخذ من تعريف المعلول؛ حيث ذكر في موضعه، وقد سبق بيان ذلك عند شرح شروط الحديث المقبول.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: لكن من غير عبارة ابن الصلاح فقال: من غير شذوذ ولا علة… احتاج أن يصف العلة بكونها قادحة وبكونها خفية، وقد ذكر العراقي في منظومته الوصف الأول وأهمل الثاني ولا بد منه، وأهمل النووي وبدر الدين ابن جماعة الاثنين؛ فبقي الاعتراض من وجهين.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: لم يصب من قال: لا حاجة إلى ذلك -أي: إلى وصف العلة بأنها قادحة خفية- لأن لفظ العلة لا يطلق إلا على ما كان قادحًا فلفظ العلة أعم من ذلك.
الاعتراض الثاني: قيل: بقي عليه أن يقول: ولا إنكار، ورُد بأن المنكر عند المصنف -أي الإمام النووي، وابن الصلاح- هو والشاذ سيان، فذكره معه تكرار، وعند غيرهما أسوأ حالًا من الشاذ؛ فاشتراط نفي الشذوذ يقتضي اشتراط نفي النكارة من باب أولى.
الاعتراض الثالث: قيل: لم يفصح بمراده من الشذوذ هنا، وقد ذكر في نوعه ثلاثة أقوال:
إحداها: مخالفة الثقة بأرجح منه.
والثاني: تفرد الثقة مطلقًا.
والثالث: تفرد الراوي مطلقًا.
وَرُدَّ الأخيران؛ فالظاهر أنه أراد هنا الأول.
قال الحافظ ابن حجر: وهو مشكل بأن الإسناد إذا كان متصلًا ورواته كلهم عدولًا ضابطين؛ فقد انتفت عنه العلل الظاهرة، ثم إذا انتفى كونه معلولًا؛ فما المانع من الحكم بصحته؛ فمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أثق منه، أو أكثر عددًا لا يستلزم الضعف؛ بل يكون من باب صحيح وأصح. قال: ولم يروَ مع ذلك عن أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمخالفة؛ وإنما الموجود من تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة، وأمثلة ذلك موجودة في “الصحيحين” وغيرهما.
فمن ذلك أنهما أخرجا قصة جمل جابرٍ من طرق، وفيها اختلاف كثير في مقدار الثمن، وفي اشتراط ركوبه، وقد رجح البخاري الطريق التي فيها الاشتراط على غيرها، مع تخريج الأمرين.
ورجح أيضًا كون الثمن أوقية مع تخريجه ما خالف ذلك، وأمثلة ذلك كثيرة.
وبالجملة: فالشذوذ سبب للترك أم صحة أو عملًا، خلاف العلة القادحة كالإرسال الخفي؛ فتؤذي بوجودها الصحة الظاهرة ويمتنع معها الحكم والعمل معًا.
أورد على هذا تعريف ما سيأتي: الحسن إذا روي من غير وجهٍ؛ ارتقى من درجة الحسن إلى منزلة الصحة، وهو غير داخل في هذا الحد وكذا ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول، قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح؛ قال ابن عبد البر في (الاستذكار) لما حكى عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده: لكن الحديث عندي صحيح؛ لأن العلماء تلقوه بالقبول، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفاريني: تعرف صحة الحديث إذا اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم.
ونأتي إلى تخريج حديث البحر: عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلًا سأل رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء؛ فإن توضئنا به عطشنا؛ أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سنن الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور.
قال الحافظ ابن حجر: هذا حديث في إسناده اختلاف وصحح البخاري فيما حكاه عنه الترمذي في “العلل المفرد” هذا الحديث، وكذا صححه ابن خزيمة وابن حبان.
والحديث كما أخرجه الترمذي أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن الجارود والحاكم في (المستدرك) وصححه الحاكم.
أيضًا أوردوا على هذا التعريف قالوا: المتواتر فإنه صحيح قطعًا ولا يشترط فيه مجموع هذه الشروط قال شيخ الإسلام ابن حجر: ولكن يمكن أن يقال: هل يوجد حديث متواتر لم تجمع فيه هذه الشروط؟!
الاعتراض على تعريف الخطابي:
قال الإمام السيوطي: حد الخطابي الصحيح بأنه ما اتصل سنده وعدلت نقلته. قال العراقي: لم يشترط الخطابي في الحد -أي: في تعريف الحديث الصحيح- ضبط الراوي، ولا سلامة الحديث من الشذوذ والعلة، ولا شك أن ضبط الراوي لا بد من اشتراطه؛ لأن من كثر الخطأ في حديثه وفحش استحق الترك وإن كان عدلًا.
قال الإمام السيوطي: والذي يظهر لي أن ذلك داخل في عبارته، وأن بين قولنا “العدل” و”عدلوه” فرقًا؛ لأن المغفل المستحق للترك لا يصح أن يقال في حقه: عدله أصحاب الحديث… وإن كان عدلًا في دينه، فتأمل.
وبعد أن ذكرنا تعريف العلماء للحديث الصحيح، وما ورد من اعتراضات على كل تعريف، والجواب عنها؛ نستطيع أن نعرف الحديث الصحيح لذاته تعريفًا جامعًا مانعًا لا يرد عليه أدنى اعتراض، فنقول -وبالله التوفيق-:
الحديث الصحيح لذاته: هو ما اتصل سنده بنقل العدل التام الضبط عن مثله، من الابتداء إلى الانتهاء، من غير شذوذ ولا علة قادحة، والمراد من “الابتداء إلى الانتهاء”: أي من أول الإسناد إلى آخره.