تعريف “الحرام” وأساليبه، وهل يكون الفعل الواحد واجبًا وحرامًا معًا
الحرام لغة: الممنوع.
الحرام اصطلاحًا: هو ما نهى الشّارع عنه نهيًا جازمًا.
وعُرِّف بأنه: ما تُوُعِّد بالعقاب على فِعْله.
وعُرِّف أيضًا بأنّه: ما في فِعْله عقاب، وفي تَرْكه ثواب.
وقد بيَّن المُحقِّقون مِن العلماء: أنّ هذا التعريف الأخير ليس على إطلاقه؛ فليس كلّ تارك لِلمُحرَّم يُثاب.
أقسام تارك المحرّم:
أولًا: أنْ يَتْركه ولا يطرأ على باله أنّه محرَّم؛ فهذا لا يُثاب على التّرك؛ لأنه لم يَهمّ به.
ثانيًا: أن يَهمّ بالمُحرّم ثم يتركه خوفًا من الله سبحانه وتعالى؛ فهذا يُثاب على التّرْك.
ثالثًا: أنْ يتمنّى المُحرَّم، ولكنه لمْ يفعل أسبابه؛ فهذا يُعاقَب على النّيَّة.
رابعًا: أنْ يهمّ بالمُحرّم، ويسعى في تحصيله، ويَطلب أسبابه، لكنّه يعجز عن الفِعْل؛ فهذا مِثْل الفاعل.
من الأساليب التي تُفيد التحريم:
- استعمال لفظ: “التّحريم”، وما يُشتقّ منه.
- صيغة النّهي المُجرّدة التي لم يَقتَرِن بها ما يَصرِفها عن التّحريم.
- نفْي الحِلّ.
- ترتيب العقوبة على الفِعْل.
- اللّعْن على الفِعْل.
- نَفْي الإيمان عن الفَاعل.
- وصْف الفاعل بأنّه عصَى الله ورسوله.
- وصْف الفِعْل بأنّ الله لا يُحبّه ولا يرضاه.
من أسماء المُحرَّم:
وأسماء المُحرَّم كثيرة، منها: المَحظور، الممنوع، المزجور، المعصية، الذَّنب، القبيح، السّيِّئة، الفاحشة، الإثم، العقوبة، الحَرَج، وغيرها…
هل يكون الفعل الواحد واجبًا وحرامًا معًا؟
تقسيمات الواحد:
قسّم العلماء -رحمهم الله- الواحِد إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الواحد بالجِنس، مثل: الحيوان؛ فهو جِنْس، وتحته حقائق مختلفة. فهو يشمل: البقرة، والإبل، والكلْب، وغيْر ذلك…
وقد اتّفق العلماء على أنّ الواحد بالجِنس يجوز أنْ يَتوجّه الأمْر والنّهي إليه باعتبار أنواعه؛ فيجتمع فيه: الوجوب والحرمة، والتّحليل والتّحريم.
فمثلًا: الخنزير مُحرَّم. والكلب مُحرَّم، والإبل حلال، وكذلك البقر؛ وكلّ هذه الأنواع متَّحدة في جِنْس الحيوانيّة.
القسم الثاني: الواحد بالنوع، كالسّجود؛ فإنّه نوع واحد.
وجمهور العلماء على أنّه يجوز أنْ يتوجّه إليه الأمْر والنّهي.
فالسجود مثلًا نوع واحد، ومع ذلك فإنّه إذا كان لله فهو مأمور به، وإذا كان لِصَنم -والعياذ بالله- فهو مَنهيٌّ عنه؛ وكلاهما يشمله اسم السجود.
القسم الثالث: الواحد بالعيْن أو بالشّخص، مثل: الصلاة في الدار المغصوبة.
هل يتوجّه الأمْر والنّهي إلى الواحد بالعَيْن؟
فيه تفصيل:
- فإنْ كانت له جِهة واحدة (هي متعلَّق الوجوب والتّحريم)، فإنّه لا يصحّ أنْ يتوجّه إليه الأمْر والنّهي؛ لأنّ ذلك يكون مِن التّكليف بالمُحال، وهو لا يجوز.
- أمّا إذا كان له جِهتان مُتغايرتان، أي: مُنفكّتان عن بعضهما: فالاتّفاق حاصل على أنّه إذا انفكّت الجهة صحّ توجّه الأمْر والنّهي إليه.
لكن الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- إنّما هو في تفريعات هذه المسألة: فما يراه شخص مُنفَكَّ الجهة قد لا يراه الآخر كذلك.
وذلك مثل: الصّلاة في الدّار المغصوبة؛ فالجمهور يرَوْن انفكاك الجهة، والحنابلة لا يرَوْن ذلك.
حُكم الصّلاة في الدّار المغصوبة:
اختلف العلماء -رحمهم الله- في صحّة الصّلاة في الدار المغصوبة، أو الأرض المغصوبة على أربعة أقوال:
القول الأول: أنّ الصلاة صحيحة؛ وقال بهذا جمهور العلماء.
- ثم منهم مَن قال: صلاته صحيحة، ولا أجْر له فيها.
- ومنهم مَن قال: صلاته صحيحة، وله أجْر صلاة، وعليه إثْم غَصْبه.
القول الثاني: أنّ الصلاة باطلة، ويجب قضاؤها؛ وقال به الإمام أحمد في المشهور عنه، والظّاهرية.
القول الثالث: أنّ الصلاة باطلة، لكن لا يجب قضاؤها؛ وبه قال الرازي والباقلّاني.
وادّعَوا إجماع السّلف على أنّهم لم يكونوا يأمرون الظّلمة بإعادة الصّلاة؛ وهذا الإجماع لا حقيقة له.
القول الرابع: أنّ المُصلّي إذا عَلِم التّحريم لمْ تصحّ الصّلاة، وإن لمْ يعلمْ صحّت؛ وهذا القول رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله-.
من أدلّة القائلين بصحّة الصّلاة في الدّار المغصوبة، وهم “الجمهور”:
استدلّ الجمهور لِمذهبهم بعِدّة أدلّة، منها:
أولًا: الصلاة في الدّار المغصوبة فِعْل له جهتان: فمِن حيث هي صلاة فهي: قُرْبة، ومِن حيث هي غصْب: معصية.
قالوا: فمُتعلَّق الأمْر غيْر متعلَّق النّهْي؛ فهما متغايران.
ثانيًا: أنّ العُرف والشّرع يدلّ على أصْل المسألة، وهي: أنّ الواحد بالشّخص يصحّ أنْ يكون مَوْردًا للأمْر والنّهي.
فالعُرف كما لو قال السّيّد لعَبْده: “خِطْ هذا الثّوب، ولا تَدخُل هذه الدار”. فخاط الثوب في تلك الدار؛ فإنّه يكون مطيعًا وعاصيًا باعتبار الجِهتَيْن. وكذلك تكون الحال في الصلاة في الدار المغصوبة؛ فإن الشّارع أمَر بالصلاة ونهى عن الغصب؛ وقد جمع المُكلَّف بينهما.
والشّرع: لو أنّ مُسلمًا رمى كافرًا بِسهم، فدخل فيه وخرج منه إلى مسلمٍ فقتَله، فإنّ هذا الشّخص يستحقّ سلَب الكافر، ويضمن دِية المؤمن؛ فهذا فعل واحد، واشتمل على حلال وحرام.
أدلّة القائلين بعدم صِحّة الصلاة في الدار المغصوبة:
الدليل الأول: وأجاب الذين لا يَرَوْن صحّة الصلاة في الدّار المغصوبة بعدم تسليم انفكاك الجهة في الدار المغصوبة فالمُصلّي في الدار المغصوبة إذا قام إلى الصلاة، أو ركَع، أو سجَد، فإنّه يشغَل الفراغ الذي هو كائن فيه، وذلك بقيامه إن كان قائمًا، أو سجوده إن كان ساجدًا، أو ركوعه إن كان راكعًا، وشغْله الفراغ المملوك لغيْره يُعْتبَر مِن التّعدّي؛ فهو غصْب، وهو مُحرَّم.
قالوا: فقيامه وقعوده لا يمكن أن يكون قُرْبة؛ لأنه يمتنع أن يكون الواحد بالعيْن أو بالشّخص واجبًا حرامًا، قُرْبة معصية، لاستحالة اجتماع الضّدّيْن في شيء واحد مِن جهة واحدة؛ فيلزم على ذلك بُطلان الصلاة.
وهذا الدليل -كما هو ظاهر- مردّه إلى أنّ انفكاك الجهة لا يُتصوَّر في الصلاة في الدار المغصوبة.
الدليل الثاني: ارتكاب المَنهيّ عنه، إذا أخلّ بشرط العبادة أفسدها، وذلك كـ نَهْي المُحدِث عن الصلاة، فلو خالف النّهْي وصلّى، فقد أخلّ بشرط الصلاة (وهو الطّهارة).
فكذلك هنا: نيّة التّقرّب شرْط لصحّة الصلاة، والصلاة في دار مغصوبة مُخِلّة بشرط الصلاة؛ فلا تكون صحيحة؛ لأن الغصب معصية، والتّقرّب بالمعصية مُحال.
وأجيب عن هذا: بأنّ المشترَط في صحة الصلاة هو: أن يَنوي امتثال الأمر الذي وَرَد بتلك الصلاة؛ وهذا ما نواه المصلّي بفِعْله.
والرّاجح: قول الجمهور الذين قالوا بصحة الصلاة في الدار المغصوبة، وأنّ له أجْر صلاته، وعليه إثم غصْبه؛ وذلك لأنّ الجهة مُنفَكّة.
أقسام النّهْي:
قسّم العلماء النّهْي إلى عدة أقسام:
القسم الأول: المَنهيّ عنه لِعيْنه: وهو ما رجع النّهي فيه إلى ذات المَنهيّ عنه، كالنّهي عن الكذب، والظلم، والزّنا، والشرك؛ فهذا لا يمكن اجتماع الأمر والنهي فيه؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى التناقض.
القسم الثاني: المنهيّ عنه لوصْف لازم له: كصوم يوم النّحر، وبيع الربا، والطلاق في الحيض.
فهذا كالنوع الأوّل، لا يمكن اجتماع الأمْر والنهي فيه.
ويُسمِّي الحنفيّة هذا النوع بالفاسد، ولا يُسمّونه باطلًا.
فالفاسد عندهم ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه.
القسم الثالث: المَنهيّ عنه لوصْف خارج غير لازم، وذلك كالصلاة في الثوب الحرير، والصلاة في الدار المغصوبة -عند مَن يرى أنّ الجهة مُنفكّة-.
وهذا النوع يَصحّ اجتماع الأمْر والنّهي فيه، لانفكاك جهة الأمْر عن جهة النَّهْي.
القسم الرابع: المنهيّ عنه لوصف خارج لازم، ويمثِّلون له بالصلاة في الدار المغصوبة.
وهذا القسم هو عيْن الذي قبْلَه عند الجمهور.
هل الأمْر بالشّيء نهْي عن ضِدّه؟
صورة المسألة: أنّه إذا أُمِر بشيء، فهل يكون لفْظ الأمْر نفسه دالًّا على تَرْك ضِدِّ أو أضداد المأمور به أوْ لا؟
فإذا قيل: “قُمْ”، فهذا أمْر، فهل يدُلّ هذا الأمْر على تَرْك القعود والاضطجاع، التي هي ضدّ القيام؟ هل يدلّ على ذلك بِلفْظه؟ أمْ بمعناه؟ أمْ بِلازمه؟ أمْ لا يدلّ أصلًا؟
وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنّ الأمْر بالشّيْء ليس هو عيْن النّهْي عن ضدّه، لكنّه يَستلْزِمه، سواء كان له ضدّ واحد، كالسّكون الذي هو: ضدّ الحركة، أو الكُفْر الذي هو: ضدّ الإيمان. أو كان له أضداد كثيرة، كالقيام، ضدّه: القعود والاضطجاع.
وهذا القَول هو: قَول جمهور العلماء.
القول الثاني: أنّ الأمْر بالشّيْء هو عَيْن النَّهْي عن ضدّه. وهذا قول جمهور المتكلِّمِين مِن الأشاعرة وغيرهم…
وهذا القول مبنيٌّ على زعْمٍ باطل، وهو: أنّ الكلام نوعان: لفظيّ ونفسيّ.
وأنّ النفسيّ هو: المعنى القائم بالنّفس، دون الألفاظ المعبِّرة عنه؛ وهو زعم باطل.
القول الثالث: أنّ الأمْر بالشّيء ليس هو عيْن النّهي عن ضدّه، ولا يتضمّنه. وهذا قول المعتزلة، وبعض علماء أصول الفقه.
أدلّة الجمهور:
الدليل الأول: أنّ السّيّد إذا قال لعبده: “قُمْ”، فقعد؛ فإنّه يَحسُن توبيخه ولومه على القعود، فيُقال له: “لِمَ قَعدْتَ؟” وهذا يدلّ على أنّ الأمْر بالشّيء نهْي عن ضدّه؛ إذ لو لم يكن كذلك لَمَا حسُن اللّوم والتّوبيخ.
الدليل الثاني: لو لمْ يَقْتضِِ الأمْر بالشّيء النّهْيَ عن ضدّه، لجاز وُرود الأمْر بِضدِّه؛ وفي ذلك تناقض.
الدليل الثالث: اللّفظ إذا كان دالًّا على طلَب القيام مثلًا، فلا يحصل الامتثال إلاّ بالانتهاء عن جميع الأضداد.
الرّاجح: هو قول مَن قال: إنّ الأمْر بالشّيء ليس هو عيْن النّهْي عن ضدّه، لكنّه يَسْتلْزمه.
من فوائد الخلاف في المسألة:
– أنّ الرّجل إذا قال لزوجته: “إنْ خالَفْتِ نهْيِي فأنت طالق”، ثم قال: “قومي”، فقعدت.
- فعنْد القائلِين: إنّ الأمْر بالشّيء هو عيْن النّهي عن الضّدّ: تطلق.
لأن قوله: “قومي” هو عيْن النّهي عن القعود؛ فيكون قعودها مخالفةً لنَهْيه المعبَّر عنه بصيغة الأمْر المُطْلَق.
- وعند القائلين: إنّ الأمْر بالشيء يستلزم النّهْي عن ضدّه: يتفرَّع الحُكم على خلاف العلماء: هل لازم القَول يُعدّ قولًا أمْ لا؟
- وعند القائلين: إنّ الأمر بالشّيء ليس هو عيْن النّهي عن ضدّه، ولا يتضمّنه: لا تطلق.
تتمّات متعلّقة بالمُحرّم:
- الشّارع إذا حرَّم الشّيء مُطلَقًا اقتضى ذلك تحريم كلّ جُزء مِن أجزائه، لا ما استثناه الدّليل.
مثال ذلك: الشّارع حرَّم لُبس الحرير للرّجال؛ فيحرُم لُبْس القليل والكثير منْه، ويُستثْنَى مِن ذلك ما وردت فيه الرّخصة.
- الأمْر الذي يَتوقّف عليه اجتناب المحظور يكون الإقدام عليه محظورًا، والكفّ عنه واجبًا.
تكليف الصّبيّ والمجنون:
عرَّف المصنِّف -رحمه الله- التّكليف بأنّه: الخطاب بأمْر أو نَهْي.
شروط التّكليف:
وشروط التّكليف قسمان:
الأول: قِسْم يَرجِع إلى المُكلَّف.
الثاني: قِسْم يَرجع إلى الفِعْل المُكلَّف به.
أمّا الصّبيّ والمجنون، فهما غيْر مُكلَّفَيْن عند جمهور العلماء -رحمهم الله.
مِنَ الأدلّة على ذلك:
أولًا: قوله صلى الله عليه وسلم: ((رُفِع القلَمُ عن ثلاثة: عن النّائم حتّى يَستيْقظ، وعن الصّغير حتى يَكْبر، وعن المجنون حتى يَعْقل أو يُفيق)).
ثانيًا: أنّ مُقتضى التّكليف: أنْ يمتثل المُكلَّف ويطيع، ولا يكون ذلك إلا بالقصْد، والقصْد لا يكون إلا بعْد الفَهم؛ وذلك غير مُتصوَّر في الصّبيّ والمجنون.
وهذا الفَهم والقصد، وإن كان متصوَّرًا في الصّبيّ المُميِّز، إلاّ أن فَهْمه لم يتمَّ؛ مِن أجْل ذلك جعَل الشّارع البُلوغ علامةً محدّدة لظهور اكتمال أداة الفهْم المُعتبَر.
ثالثًا: أنّ الصّبيّ والمجنون لا يفهمان الخطاب؛ فلا يصحّ تكليفُهما؛ لأنّ التّكليف مع قيام المانع مُنزّل مَنزلة التّكليف بالمُحال، وهو غيْر جائز.
وذهب الإمام أحمد في رواية: إلى تكليف الصّبيِّ المُميِّز، لكنّ الصحيح مِن مذهبه هو: عدَم تكْليفه.
رابعًا: إذا كان الصّبيّ والمجنون غيْر مُكلَّفَيْن، فلماذا وجبت الزّكاة في مالِهما؟ وكذلك أروش الجنايات، وقيم المتلفات؟
والجواب: أنّ لزوم ذلك هو: مِن باب خطاب الوضْع، لا مِن خطاب التّكليف.
خامسًا: هل يُخاطّب الصّبيّ بالنّدب والكراهة؟
الصّبيّ -كما هو معروف- غيْر مُخاطّب بالإيجاب والتّحريم، لقيام الإجماع على أنّه لا إثم عليه بِتَرْك واجب، ولا بارتكاب مُحرَّم؛ لكن هل يُخاطّب بالنَّدب والكراهة، أمْ لا؟
- على قول الجمهور السابق، لا يُخاطّب الصّبيّ بشيء مِن الأحكام التّكليفيّة.
- وذهب جمهور المالكيّة -وهو مقتضى كلام الشافعية في الفروع- على أنه يخاطب بذلك. وقصَره بعضهم على الصّبي المُميِّز.
ومِن الأدلة على تكليفه بالنّدب: حديث المرأة التي رفعت للنبي صلى الله عليه وسلم صبيًّا. فقالت: ألِهذا حجّ؟ قال: ((نعَمْ، ولكِ أجْر)).
وتفرَّع على القول بخطاب الصّبيّ بالنَّدْب والكراهة بعْض الفروع الفقهيّة، ومنها:
- ينعقد نكاح الصّبيّ؛ لأنّ العقد سبب لإباحة الوطء، والصّبيّ مُخاطَب بالإباحة، والنّدب، والكراهة.
ولا ينعقد طلاقه عند المالكية؛ لأنّ الطلاق سبب تحريم الوطء، والصّبيّ ليس مِن أهل الخطاب بالتّحريم.
- يُخاطَب الصّبيّ بإزالة النّجاسة، على سبيل النّدب لا على سبيل الوجوب.
سادسًا: إذا قلنا: أنّ الصّبيّ يُخاطّب بالنّدب والكراهة، فهل الخطاب له أوْ لِوَلِيِّه؟
على ثلاثة أقوال:
أ- له. ب- لِوَليِّه. جـ- لهما معًا.
وعلى القول بأنّ الخطاب للوليّ وحده، فهل يُثاب الصّبيّ، أمْ أنّ الثواب لوالدَيْه؟
قيل: لا ثواب للصّبيّ، وإنّما الثواب لوالِدَيه. وقيل: هما في الثواب سواء.
الرّاجح: أنّ عدَم مخاطبة الصّبيّ بالعبادة، لا يدلّ على أنّه لا يُثاب عليها إذا فَعَلها؛ فهو يُثاب على طاعات بدَنه، وما يُخرجه مِن العبادات الماليّة مِن مالِه.
تكليف النّائم والنّاسي:
النّائم والنّاسي غيْر مُكلَّفَيْن في حال النّوْم والنِّسيان.
ومِن الأدلّة على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله تجاوز لِي عن أُمَّتِي الخَطأ، والنِّسْيانَ، وما استُكْرهوا عليه)).
أمّا مِن حيث ما يتعلّق بحقوق الآدميِّين، فلا شكّ أنهم مُكلَّفون بِضمان ما أتْلفوه.
فلوْ أكل طعامَ غيْره ناسيًا، فلا إثْم عليه، وعليه ضمانُه.
تكليف السّكران:
قبل البدء في ذِكر أقوال العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة، لا بدّ مِن توضيح الأمور التّالية:
- أنّ السّكران الذي وقع فيه الخلاف هو: الذي سكِر باختياره وعالمًا بأنه يُسْكِر. أمّا المُكرَه، فحُكمه حُكم المجنون.
- أنّ حدَّ السّكران الذي وقع فيه الخلاف هو: الذي يَخلط في كلامه، ويَسقط تمْييزه بيْن الأعيان، وهو ما يُسمَّى بالسَّكران الطّافح.
- أنّ السَّكران يجب عليه قضاءُ ما فاتَه مِن العبادات في زَمن سُكْره.
من أدلّة الجمهور القائلين بتكليف السَّكران:
أولًا: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43]؛ وهذه الآية نزلت بعْدها آية (المائدة)، والتي حرّمت الخمر.
وجْه الدّلالة: أنّ هذه الآية خطاب للسّكران في حال السّكر، بأنْ يكفّ عن الصّلاة حتى يعْلَم ما يقول، ولا يُخاطِب الشّارع إلا مُكلَّفًا؛ فدلّ ذلك على أنّ السّكر لا ينافي الخِطاب.
واعتُرض على وجْه الاستدلال بهذه الآية بما يأتي:
- أنّ معنى هذه الآية: لا تسكروا، ثم تقربوا الصلاة! كقوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]؛ فيكون الخطاب في الآية موجَّهًا للمؤمنِين في حال الصّحو، لا حال السّكْر.
- أنّ الخطاب في هذه الآية إنّما هو للنّشوان الذي وُجدَت منْه مبادئ الطَّرب، ولمْ يزُل عقْله بالكلّيَّة.
ثانيًا: أنّه يجب عليه حدّ الزّنا والقذْف إذا فعل ذلك في حال السّكر، ويلزمه ضمان ما يُتلفه مِن الأموال، ممّا يدلّ على تكليفه.
وأجيب عن هذا: بأنّ هذا ليس مِن باب خطاب التّكليف؛ بل هو من باب خطاب الوضع.
من أدلة القائلين بِعَدم تكليف السّكران:
أولًا: أنّ السّكران لا يفهم الخطاب، فلا يصحّ تكليفه؛ إذ تكليف مَن لا يَفهَم الخطاب مِن التكليف بالمُحال.
ثانيًا: قياس السّكران على الصّبيّ والمجنون والبهيمة، في عدم وجوب التّكليف على الجميع، بجامع زوال العقل والتّمييز في الكلّ.
أدلّة شيخ الإسلام -رحمه الله- على عدم صحّة تصرّفات السّكران:
ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى عدم صحّة تصرّفات السّكران، وإلى عدم تكليفه، سواء فيما يتعلّق بالأقوال أو الأفعال. وممّا استدل به -رحمه الله- على عدَم صحّة تصرّفاته ما يلي:
- حديث ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه إقامة الحدّ عليه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((أبِكَ جُنون؟)) فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: ((أشَرِب خمرًا؟)). فقام رجل فاستنْكهَه (أي: شمّ رائحة فمه)، فلم يجد منه ريح خمْر… الحديث.
وجْه الدّلالة: دلّ هذا الحديث على: أنّه لو وُجد مِن ماعز رضي الله عنه شُرب الخمْر، لما اعتُبر إقراره بالزّنا صحيحًا، ممّا يدلّ على عدم صحّة تصرّفات السّكران.
- أنّ عبادة السكران لا تصحّ بالنصّ والإجماع، فعُقوده من باب أوْلى؛ لأنّ كلّ مَن بطلت عبادته لِعَدم عقْله، فبُطلان عقوده أوْلى وأحْرى، كالنّائم والمجنون.
- أنّ جميع الأقوال والعقود مشروطة بوجود التّمييز والعقل؛ فمَن فقَدَهما فليْس لكلامه في الشَّرع اعتبارٌ أصْلًا.
تعريف الإكراه:
الإكراه هو: أنْ يُجبِر إنسان غيْرَه على قوْل أو فِعْلٍ لا يرضاه، بحيث لو خُلِّيَ ونفسه لمْ يفْعله ولمْ يُباشِره.
أنواع الإكراه:
والإكراه نوعان:
الأول: إكراه مُلجِئ: وهو الذي لا يبقى للشّخص معه قدرة واختيار. مثاله: شخص حلَف لا يدخل دارًا، فقهَره شخْص أقوى منه وكبّله، وحمَلَه قهرًا حتى أدخله تلك الدار؛ فهذا الإكراه لا يكلّف صاحبه، لِعدَم القدرة والاختيار.
الثاني: إكراه غيْر مُلجِئ: وهو الذي لا يَفقد فيه القُدرة، ولا ينعدم الاختيار بالكلّيّة، ويجد صاحبُه مندوحة عن الفِعْل، لكن بالصّبر على إيقاع ما أُكْرِه به، إن كان أشدّ ممّا أُكْرِه عليه.
وهذا النوع قسمان:
- إكراه بحقّ: وهو الإجبار على أمر واجب شرعًا؛ وذلك كإكراه الحاكم الزّوج على الطّلاق، وإكراه الحربيّ والمرتدّ على الإسلام.
- إكراه بغيْر حقّ: وذلك كالإكراه على أمْر مُحرَّم شرعًا كالسّرقة، والأكل مِن الميْتة، والزّنا، ونحو ذلك…
وقد اختلف العلماء في تكليف المُكْرَه على قوليْن:
القول الأول: أنّه مُكلّف؛ وهو قول جمهور العلماء.
القول الثاني: أنّه غيْر مُكلَّف؛ وبه قال بعض المعتزلة.
حُكم أفعال المُكرَه وأقواله:
أمّا أقوال المُكْرَه: فإنّ المُكرَه إذا أُكْرِه على قول، كالتّلفّظ بكلمة الكُفر، فإنّه يُباح له ذلك القول مِن غيْر أن يأثم، وكلامه وتصرّفاته القوليّة كلّها مُلغاة كأن لمْ تَكن، سواء كانت تلك التّصرّفات القوليّة ممّا تَحتمل الفسْخ، كالبيع والإجارة، أوْ لا تحتمل الفسخ، كالنّكاح والطّلاق.
من الأدلّة على عدَم تكليف المُكرَه فيما يتعلّق بالأقوال:
- قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
- وقوله صلى الله عليه وسلم لعمّار رضي الله عنه، لمّا أَكرَهه المشركون على سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فَإنْ عادُوا فَعُدْ)).
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله تجاوز لي عن أُمّتي: الخَطأ، والنِّسيان، وما استُكْرِهوا عليه))؛ وهذا عامّ في الأقوال والأفعال.
أمّا الأفعال: فإنْ كانت حقًّا لله تعالى خالصة، كمَنْ أُكْرِه على الأكل في نهار رمضان، أو الأكل مِن الميْتة، فإنّ الإكراه هنا يكون عُذرًا مُسقطًا للتّكليف؛ وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله تجاوز لي عن أمَّتي: الخَطأ، والنِّسيان، وما استُكْرِهوا عليه))، ولقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وأمّا ما يتعلّق بحقوق المخلوقِين، فإنّ الإكراه لا يكون عذرًا مُسقِطًا للتّكليف فيها؛ وذلك كمَن أُكْرِه على قتْل شخْص مثلًا، فإنّه يجب عليه القصاص.
ومع ذلك، فإنّ صُوَر الإكراه قد تختلف باختلاف الأفراد، والأمور التي يُكْرَه عليها، والأمور التي يُخوَّف بها، والأحوال والقرائن؛ والحُكم في ذلك مردّه إلى اجتهاد المجتهد.
شروط الإكراه:
للإكراه شروط كثيرة، إذا تحقّقت حَكمْنا بكوْن الإكراه عُذرًا مُسْقطًا للتكليف. مِن هذه الشروط:
- أنْ يكون المُكْرِه قادرًا على تنفيذ ما هَدّد به.
- أنْ يَغلب على ظنّ المُكرَه إيقاع ما هُدِّد به في الحال إذا لمْ يَمتثل.
- أنْ يكون الشّيء المهدَّد به ممّا يشقّ على المُكْرَه تَحمُّله.
- أنْ يكون المكرَه عاجزًا عن دفْعه بِهرَب، أو استغاثة، أو نحو ذلك…
- أن يتحقّق بفِعْل الأمْر المُكْرَه عليه التّخلّص مِن المتوعَّدِ به.
- أن يكون الإكراه بغير حقّ.
- أن يكون الحُكم مترتّبًا على فِعْل المُكلَّف. فإن لمْ يكن الحُكم مترتّبًا على الفعْل، لم يؤثِّر فيه الإكراه.
ومثال ذلك: لو أُكْرِهت امرأة على الإرضاع فأرضعت، ثَبَتت الحرمة؛ لأنّ الحرمة معلّقة بوصول اللّبَن إلى الجوف لا بالإرضاع.
- أنْ يكون المُكرَه كارهًا لِمَا أُكره عليه مِن عمَل أو قوْل.