تعريف: “الحكم الوضعي” وأقسامه، والفرق بينه وبين “الحكم التكليفي”
الوضْع لغة: يأتي الوضع لعِدّة معانٍ، منها:
- الإسقاط، يقال: وضع عنه دَيْنه، أي: أسقطه.
- التّرك، يقال: وضعْت الشيء بيّن يديْه، أي: تَركْته.
- الافتراء والاختلاق، ومنه: الوضع في الحديث.
الحُكم الوضعيّ اصطلاحًا: فهو ما استُفيد بواسطة نصْب الشارع عَلَمًا معرِّفًا لِحُكمه، لِتَعَذُّر معرفة خطابه في كل حال.
أسماؤه:
- يُسمَّى بـ “خطاب الوضْع”، بمعنى: أنّ الشّارع قد وضع هذه الأمور لِقصْد التّعرّف بواسطتها على وجود الأحكام الأخرى نفيًا وإثباتًا.
- يُسمَّى بـ “خطاب الإخبار”؛ لأنّ الشَّرع، بِوَضْع هذه الأمور، أخبرنا بوجود أحكامه عند وجود تلك الأمور، وانتفائها عند انتفائها.
فكأنّ الشارع قال مثلًا: إذا وُجد النِّصاب -الذي هو سبب وجوب الزكاة- والحوْل -الذي هو شرط الوجوب-، فاعلموا أنّي قد أوجبتُ عليكم الزكاة، وإن وجد الدَّيْن -الذي هو مانع مِن وجوبها-، أو انتفى السّوْم -الذي هو شرْط لوجوبها في السائمة-، فاعلموا أنّي لمْ أوجِب عليكم الزكاة.
هل الحُكم الوضْعيّ مِن أقسام الحُكم الشّرعيّ أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
الأول: الحُكم الوضعيّ قِسْم مِن الحُكْم الشّرعيّ.
الثاني: الحُكْم الوضعيّ ليس مِن الأحكام الشّرعيّة مطلقًا.
الثالث: هو مِن الأحكام الشّرعيّة، إلاّ أنه مُندرج اصطلاحًا في الاقتضاء والتخْيِير؛ فمعنى: كون دلوك الشمس سببًا هو وجوب الصلاة عنده، وكون الحَدَث مانعًا مِن الصلاة هو راجع إلى تحريمها، ونحو ذلك…
الفَرْق بيْن الحُكم الوضعيّ والحُكم التّكليفيّ:
الفَرق بينهما مِن جِهتيْن:
الأولى: مِن حيث الحقيقة: فالحُكم الوضعيّ هو قضاء الشّرع على الوصف بكوْنه سببًا أو شرطًا أو مانعًا. والحُكم التّكليفيّ هو لطلب أداء ما تقرّر بالأسباب والشروط.
الثانية: مِن جهة الحُكم.
وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- فروقًا كثيرة من جهة الحُكْم، منها:
الأول: الحُكم التّكليفيّ مُشتمِل على طلب الفعْل، أو التّرْك، أو التّخْيير بين الفعْل والتّرْك، بخلاف الوضعيّ، فإنه خالٍ عن تلك الأمور.
الثاني: خطاب التّكليف هو الأصْل، وخطاب الوضْع على خلافِه.
الثالث: الخطاب التّكليفيّ لا يتعلّق إلا بكسب المكلَّف، بخلاف الوضعيّ؛ فهو قد يثبت في حق الشخص وإن لم يفْعَل. وذلك مثل: إيجاب الدّية على العاقلة، فالعاقلة لم تفْعل القتْل، إلا أنه ثبت في حقها من جهة كونه حكمًا وضعيًّا.
الرابع: الحُكْم التّكليفيّ يتعلّق بفِعْل المكلَّف دون غيْره، بخلاف الحُكْم الوضعيّ، فإنه يتعلّق بفعل غير المكلّف، فلو أتلفت الدّابة شيئًا، ضَمن صاحبُها، وكان ذلك الإتلاف سببًا في الضّمان، مع أن الدّابة غير مكلّفة.
الخامس: الحُكْم التّكليفيّ يُشترَط فيه عِلْم المُكلَّف، وقدرته على الفعْل، بخلاف الوضعيّ، فإنه لا يُشتَرط فيه ذلك.
مثال عدَم اشتراط العلْم: النائم يُتلف شيئًا حال نومه، ومَن رمى صيدًا في ظلمة أو من وراء حائل، فقتل إنسانًا، فإنهما يَضمنان وإن لم يعْلمَا، كذلك يرث الشّخص بالسبب، وإن لم يكن عالمًا.
مثال عدم اشتراط القدرة والكسب: إيجاب الدّية على العاقلة، وإتلاف الدابة فيضمن صاحبها، وإن لمْ يكن مقدورًا له ولا كسبًا.
واستثنى العلماء -رحمهم الله تعالى- من عدم اشتراط العلْم والقدرة أمريْن:
- أسباب العقوبات، كالقصاص لا يجب على المُخطِئ في القتل لِعدَم العلْم.
- الأسباب النّاقلة للملْك، كالبيع، والهِبَة، والوصيّة، ونحوها؛ فهذه يُشترط فيها: العلْم والقُدْرة.
فلو تلفّظ بلفْظ ناقل للملْك وهو لا يعْلم مقتضاه، لكونه أعجميًّا بيْن العرب أو العكْس، لمْ يَلزمْه مقتضاه.
السادس: خطاب الوضْع أعمّ مِن خطاب التّكليف؛ إذْ كلّ تكليف معه خطاب وضْع، إذ إنه لا يخلو مِن شرْط، أو مانع، أو نحو ذلك…
السابع: قد يجتمع خطاب الوضْع وخطاب التّكليف في شيء واحد، كالزّنا؛ فإنه حرام، وسبب للحدّ.
الثامن: قد ينفرد خطاب الوضْع عن خطاب التّكليف، كأوقات الصلوات سبب وجوب الصلاة. وقد ينفرد خطاب التّكليف، كصلاة الظّهر. وقيل: لا يُتصوّر انفراد خطاب التكليف، وهذا هو الصحيح؛ إذ لا تكليف إلا وله سبب، أو شرط، أو مانع.
التاسع: خطاب الوضع يستلزم خطاب التّكليف؛ فقوله تعالى: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]: هذا خطاب تكليفيّ مفيد للأحكام الوضعيّة، بخلاف خطاب التّكليف، فإنه لا يستلزم خطاب الوضع. فلو قال الشّارع: “لا يتوضّأ إلاّ مِن حدَثٍ”، ففيه تكليف، إلاّ أنه يعقل تجرّده عن سبب وضْع أو غيره.