Top
Image Alt

تعريف الصلح، ومشروعيته، والأدلة على ذلك

  /  تعريف الصلح، ومشروعيته، والأدلة على ذلك

تعريف الصلح، ومشروعيته، والأدلة على ذلك

تعريف الصلح:

الصلح في اللغة: اسم للمصالحة بمعنى المسالمة، وأصله من الصلاح، وهو استقامة الحال ضد الفساد. والصلح أيضًا من معانيه في اللغة: قطع النزاع، يقال: وقع بينهم صلح أو تصالحوا؛ إذا قطعوا النزاع الحاصل بينهم.

وفي الاصطلاح عند الفقهاء: عقد يرفع النزاع كما يعبر الحنفية عن ذلك، أو عقد وُضع لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتراضي، والمالكية يقولون: هو انتقال عن حق أو دعوى لرفع نزاع أو خوف وقوعه، وعند الحنابلة والشافعية: معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفِين.

والتعاريف هذه كلها وإن اختلفت ألفاظها, إلا أنها متقاربة المعاني؛ فهي كلها تنتهي أو تصبّ في مدلول واحد, هو أن الصلح عقد يقصد به رفع نزاع أو خصومة في أمر متصل بالمعاملات بين الناس، وهذا هو المقصود بالصلح هنا، وليس المقصود بالصلح ذلك الذي يقع بين المسلمين وغيرهم، ولا الصلح بين الإمام والبغاة، ولا الصلح بين الزوجين عند الشقاق، فهذا كله يسمى صلحًا، أما الصلح الذي نتحدث فيه في خصوص فقه المعاملات هو الذي يتصل بالمعاملات بين الناس؛ لنرفع النزاع أو نرفع الخصومة في أمر متصل بمعاملة من هذه المعاملات.

مشروعية الصلح:

الصلح بين الناس مندوب، أي: هو أمر مستحب، وللحاكم أو للقاضي أن يشير به على الخصوم. فلو رفع لقاضٍ نزاع، ورأى أن الأمر فيه أخذ ورد، وأمور مبهمة، وأمور فيها ادعاءات، وأمور فيها ملابسات؛ يشير على الخصوم بالصلح، ولكن لا يجبرهم عليه وإنما يندبهم إليه، فيحسن إليهم الصلح حتى يحببهم فيه، لكن هذا في حالة ما لم يتبين له أن الحق واضح لأحدهما.

فإذا تبين للحاكم أن الحق واضح في خصوص أحدهما؛ أنفذ الحكم لصاحب الحق، فهو يندبهم إلى الصلح في حالة ما إذا لم يتبين له أن الحق مع أحدهما، فإذا كان كذلك أنفذ الحكم لصاحب الحق.

الأدلة على مشروعية الصلح:

الصلح مشروع بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول؛ أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128], فذكر الله تعالى هذه العبارة بعد ذكر مشروعية الصلح بين الزوجين، ووصف الله تعالى الصلح بأنه خير يدل على أنه مشروع ومأذون فيه.

وأيضًا من الكتاب قوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114], قال ابن رشد: وهذا عام في الدماء -أي: الإصلاح بين الناس الوارد في الآية- والأموال، والأعراض، وفي كل شيء يقع فيه الخلاف بين المسلم.

وأما السنة, فيستدل على مشروعيته منها بما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين, إلا صلحًا أحلّ حرامًا، أو حرّم حلالًا))، فقد يكون هناك تصالح يؤدي إلى تحريم الحلال، أو تحليل الحرام، وهذا غير جائز، والحديث واضح الدلالة على مشروعية الصلح ما دام في نطاق عدم تحليل الحرام، أو تحريم الحلال.

ومن السنة أيضًا: ما روي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه لما تنازع مع ابن أبي حدرد في دين له عليه, أصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، فأمر كعبًا أن يضع -يتنازل- عن شطر -أي: نصف- دَيْنه، وأمر ابن أبي حدرد بأداء الشطر الآخر. وهذا توجيه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجوع إلى الصلح، فهذا يدعي كذا، وهذا لا يتنازل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر كعبًا أن يتنازل عن شطر الدين، وأمر ابن أبي حدرد الذي ينكر مثلًا أن يعطيه بعض الدين، وينتهي المشكل، وتحل الخلافات بهذا الصلح.

أما الإجماع, فقد أجمع العلماء على مشروعية الصلح بالجملة؛ لكونه من أكثر العقود فائدة؛ لما فيه من قطع النزاع ورفع الشقاق وإنهاء الخلاف بين الناس، وإن كان بين العلماء اختلاف في بعض صوره.

وأما من المعقول, فالصلح إما أن يرفع فسادًا واقعًا، أو يؤدي الصلح إلى رفع فساد متوقع قد يحدث بعد ذلك؛ لأنه غالبًا ما يكون الصلح عند حدوث نزاع، والنزاع سبب الفساد بين الناس، والصلح يرفع ذلك ويزيله، فيكون إذًا أمرًا حسنًا ومطلوبًا ما دام يرفع سببًا للفساد بين الناس.

أركان الصلح:

الحنفية يذهبون إلى أن الصلح له ركن واحد, جريًا على عادتهم في أن العقد له ركن واحد, هو الصيغة التي تتكون من الإيجاب ومن القبول الدال على موافقة الإيجاب، هم يذهبون إلى هذا، فيقولون: إن العقد عندنا ليس له إلا ركن واحد، هو الصيغة.

أما الجمهور فقد خالفوا الحنفية, وأرجعوا أركان الصلح كما أرجعوا أركان كل العقود إلى: الصيغة، والعاقدين، والمحل، وهنا في باب الصلح: المحل المصالح به والمصالح عنه، وسوف نأتي إلى تعريف وبيان ما هو المصالح به وما هو المصالح عنه، وهل هما بمعنى واحد؟ إلى آخره.

أقسام الصلح:

الصلح إما أن يكون بين المدعي والمدعى عليه، أي: بين شخصين كل منهما يمسك بالآخر, فيقول أحدهما: لي عليك كذا، والآخر يقول: ليس لك كذا، وإنما لك عندي كذا، فيقول أقل مما يدعي المدعي، أو ينكر بالمرة، وهنا يكون الصلح بين مدَّعٍ ومدعى عليه. وقد يكون بين مدعٍ وأجنبي -أي: شخص آخر غير المدعى عليه- وسوف نتعرض لحالة ما إذا كان الصلح بين مدعٍ وشخص آخر غير المدعى عليه.

وفي كلٍّ من الحالتين, سواء كان الصلح بين مدع ومدعى عليه، أو بين مدع وشخص آخر غير المدعى عليه؛ ينقسم الصلح إلى ثلاثة أقسام: صلح على الإقرار، وصلح على الإنكار، وصلح على السكوت.

فالإقرار بأن يقول له: لي عندك كذا فيقر, يقول له: لك عندي، لكن صالحني على كذا, فلا أستطيع ردّ الدين كله، ولكن صالحني على دفع النصف؛ هذا صلح على الإقرار. أما الصلح على الإنكار فبأن يقول له: لي عندك كذا, والمدعى عليه ينكر بالمرة, ثم يقول المدعي: أصالحك على أن أتنازل، والآخر منكر، فهذا يسمى صلحًا على الإنكار على المدعى عليه. والصلح على السكوت بأن يقول له: لي عليك كذا, فيسكت, لا يقر ولا ينكر.

هذا، وستأتي أحكام كل من الصلح على الإقرار, والصلح على الإنكار في حالة ما إذا كان كل منهما بين المدعي والمدعى عليه، أو بين المدعي والأجنبي، وذلك في العنصرين الأخيرين من عناصر الموضوع، وهما العنصر الخامس والسادس -إن شاء الله.

error: النص محمي !!