تعريف العارية، ومشروعيتها، وحكمها
العارية في اللغة قد تكون بتشديد الياء فيقال: العاريّة، وقد تخفف فيقال: العاريَة، وهي اسم للشيء المعار أو اسم لعقد العارية نفسه، وهي مأخوذة من الفعل “عار” نسبة إلى العار -كما يقول الفقهاء أو أهل اللغة- لأن طلبها عار وعيب, وهذا محل اعتراض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، ولو كانت عارًا وعيبًا ما فعلها؛ ولذلك قيل: إنها مأخوذة من التعاور؛ أي: التداول والتناوب والرد، فيتداولها الناس لأنها من الماعون والأشياء التي تنتقل بين أيدي الناس. هذا من ناحية اللغة.
أما تعريف العارية اصطلاحًا, فقد عرفها الحنفية بأنها: تمليك المنفعة بلا عوض. وعرفها المالكية بأنها: تمليك منفعة مؤقتة بلا عوض. وعرفها الشافعية والحنابلة بأنها: إباحة الانتفاع بلا عوض.
وهنا نلاحظ أن هناك فرقًا بين تعريفي الحنفية والمالكية، وتعريف الشافعية والحنابلة؛ فتعريف الحنفية والمالكية يفيد التمليك -أي: تمليك المنفعة- وبناء على أنها عندهم تمليك المنفعة فللمستعير أن يعير الشيء لغيره؛ لأنه ملك المنفعة من المعير، فيجوز له أن يملّكها لغيره؛ لأنه ملكها.
أما تعريف الشافعية والحنابلة، وهو القائل: إنها إباحة الانتفاع بلا عوض, فهذا لا يفيد إلا الإباحة، وبناء على أن هذا التعريف يفيد الإباحة فلا يكون من حق المستعير أن يعير الشيء لغيره, أو يؤجره له.
فالفرق بين ملك المنفعة، وملك الانتفاع هو أن ملك الانتفاع يعطي الحق للمنتفع باستعمال العين المعارة واستغلالها هو فقط، وليس له أن يؤجرها ولا أن يعيرها لغيره.
أما ملك المنفعة فهو أعم من ملك الانتفاع؛ لأنه في ملك المنفعة -كما قال الحنفية والشافعية- ينتفع الشخص بنفسه، ويملّك غيره هذا الانتفاع الذي ملك له من المالك، فله أن يعير الشيء المستعار، وأن يؤجره. هذا عن تعريف العارية أو العاريّة في اللغة، وفي اصطلاح الفقهاء.
وعن مشروعية العارية, فالعارية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون} [الماعون: 7], فإنه سبحانه وتعالى ذمّ على منع الماعون؛ لأنه قال قبل هذه الآية من أول السورة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون} [الماعون: 1-7], فجاء المنع هنا في معرض ذمه سبحانه وتعالى على منع الماعون, ومنع الماعون هو عدم إعارته، فتكون الإعارة محمودة.
وأيضًا قال سبحانه وتعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114], والعارية من المعروف. وقد روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا في تعريف الماعون: هو العواري. وفسر ابن مسعود العواري بأنها القدر والميزان والدلو، وما في معنى ذلك مما يحتاجه الناس والجيران والأقربون مما يتداولونه بينهم، بما فيه قضاء الحاجات، ونحو ذلك.
أما مشروعية العارية في السنة، فما روي عن صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعًا يوم حنين, فقال -أي صفوان-: أغصبًا يا محمد؟ قال: ((بل عارية مضمونة)) أخرجه أبو داود.
وفي الصحيحين “أنه صلى الله عليه وسلم استعار فرسًا من أبي طلحة, فركبه”. فهذا يدل من السنة على مشروعية العارية.
وأما الإجماع, فإن الأمة قد أجمعت على جوازها، وإنما اختلفوا بعد الإجماع على الجواز في كونها مستحبّة -وهو قول الأكثر من أهل العلم- أو واجبة -وهو قول البعض.
وأما مشروعيتها من المعقول, فإن العارية مقيسة على هبة الأعيان؛ أي: يجوز للإنسان أن يهب الأعيان أو عين الشيء، ولما جازت هبة الأعيان -أي ذات الشيء- جازت هبة منفعتها؛ ولذلك يقول أهل العلم: تصح الوصية بالأعيان وبالمنافع جميعًا.
وعن حكم العارية فقد اختلف الفقهاء فيه بعد أن أجمعوا على جوازها واستحبابها؛ فأكثر أهل العلم يرون أنها مستحبة وليست واجبة، وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة؛ لقول الله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77], وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل معروف صدقة)), وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أديت زكاة مالك؛ فقد قضيت ما عليك)), وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس في المال حق سوى الزكاة)), وفي حديث الأعرابي الذي سأل الرسولصلى الله عليه وسلم: ماذا فرض الله عليّ من الصدقة؟ قال له صلى الله عليه وسلم: ((الزكاة)), قال: هل علي غيرها؟ قال: ((لا, إلا أن تطوع)) أو تفعل أمرًا تطوعيًّا، أو كما قالصلى الله عليه وسلم. هذا عند جمهور الفقهاء.
وقيل: هي واجبة، واستدل القائلون بالوجوب بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون} [الماعون: 4-7], فهنا ذم على منع الماعون، والذم لا يكون إلا على أمر واجب.
وأيضًا قالوا: الدليل على الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها…)) الحديث, قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: ((إعارة دلوها، وإطراق فحلها، ومنحة لبنها)) فهذه الأمور من الأمور التي تعار والنبي صلى الله عليه وسلم اعتبرها حقًّا، والحق يقابله الواجب، فكأنه واجب على صاحب تلك الإبل أن يعير دلوها التي تشرب فيه، وأن يعير فحلها لتلقيح الإناث، وأن يمنح من لبنها.
لكن الجمهور ذهبوا إلى أنها قد يعرض لها الوجوب في بعض الأحيان، وذلك ما مثلوا به في قولهم: كإعارة سكين لذبح وأكل ما يخشى موته, فكأنّ هناك حيوانًا خشي موته، وإذا أدركناه لنذبحه فهذا يحتاج إلى سكين للذبح، فيجب هنا أن يعير صاحب السكين للشخص الذي يعير هذه الشاة أو هذا الحيوان.
وقد تكون العارية حرامًا، وذلك في المعنى المقابل لهذا المثال؛ كإعطائها لمن تعينه -أي العارية- على معصية. وقد تكون مكروهة إذا كان إعطاؤها لشخص تعينه -أي العارية- على فعل أمر مكروه.