تعريف الغصب وحكمه
الغصب لغة: أخذ الشيء ظلمًا وقهرًا جهرة؛ أي: علانية.
واصطلاحًا: هناك اتجاهان للفقهاء نتج عنهما اصطلاحهم في تعريف الغصب.
نذكر أولًا تعريف الغصب عند الفقهاء، ثم ما ينبني على هذه التعاريف من وجود اتجاهين للكلام في حقيقة الغصب.
التعريف الأول: عند الحنفية -وخاصة ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف- فقالوا: إن الغصب هو إزالة يد المالك عن ماله المتقوم على سبيل المجاهرة والمغالبة بفعل في المال. أو هو -وهذا تعريف آخر للحنفية- أخذ مال متقوم علنًا بلا إذن مالكه، يزيل يده.
فخرج بكلمة الأخذ في هذا التعريف ما سار مع المغصوب بغير صنع الغاصب، بمعنى: لو أن إنسانًا غصب حيوانًا، فتبعه حيوان آخر، فإن الغاصب لا يضمن الحيوان الآخر؛ لأنه سار مع المغصوب الأول وهو الحيوان الأول, بدون صنع من الغاصب.
وخرج بكلمة المال في هذا التعريف نحو الميتة والحر، أي: الإنسان الحر غير العبد؛ لأنهما لا يغصبان.
وخرج بالمتقوم الخمر؛ لأنه ليس بمال له قيمة في نظر الإسلام.
وخرج بقوله: محترم مال الحربي؛ لأنه ليس مالًا محترمًا.
وخرج بقوله: علنًا السرقة؛ لأن السرقة تؤخذ في خفية.
وخرج بقولهم: بعدم إذن المالك الوديعة، والعارية، والشيء المستأجر، والشيء الموهوب، ونحوها؛ لأنها تكون بإذن من مالكها، وهو المودِع، ومالك العارية, والمؤجر, والواهب.
وقولهم في هذا التعريف: “يزيل يده”؛ للاحتراز به عن أخذ العقار؛ لعدم تحقق إزالة اليد فيه؛ لأنها إنما تكون بالنقل والتحويل, ولأن الغصب عند الحنفية: إزالة اليد المحقة عن العين -اليد المحقة صاحبة المال، ومالكة العين المغصوبة- بإثبات اليد المبطلة؛ أي: ترفع اليد المالكة صاحبة الحق، وفي نفس الوقت تثبت اليد المبطلة، وهي يد الغاصب.
ولكن عند الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة- الغصب: إثبات اليد المبطلة, من غير شرط إزالة اليد المحقة.
وبناء عليه نرجع إلى باقي التعاريف للغصب, حيث ذكرنا تعريفه عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
أما تعريفه عند المالكية, فقد قالوا: إنه أخذ مال قهرًا تعديًا, بلا حرابة.
وعرفه الشافعية بأنه: الاستيلاء على حق الغير عدوانًا, أي: بغير حق.
وعرفه الحنابلة بأنه: الاستيلاء على مال الغير قهرًا, بغير حق.
هذه التعاريف الثلاثة عند المالكية والشافعية والحنابلة إخراج محترزاتها واضح من خلال تعريف أبي حنيفة وأبي يوسف، فما نخرجه بالقيود المذكورة في التعاريف الثلاثة من قولنا: قهرًا أو تعديًا أو بلا حرابة, أخذناه أو عرفناه من خلال شرح مفردات تعريف الحنفية.
ومن خلال هذه التعاريف نجد أن هناك اتجاهين للفقهاء -أي فقهاء المذاهب الأربعة:
الاتجاه الأول: ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف حيث قالا: إن الغصب لا يتحقق إلا بإزالة يد المالك عن ماله المتقوم, على سبيل المجاهرة والمغالبة بفعل في المال.
كأنهما يريدان أن يقولا: إن الغصب لا يتحقق في نظرهما إلا بأمرين، هذان الأمران هما: إثبات اليد العادية -أي يد الغاصب- لأنها يد عادية وتأخذ المال, وإزالة اليد المحقة -أي: صاحبة الحق، وهي يد المالك- وذلك يكون بالنقل والتحويل.
هذا هو اتجاه الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف. فإذا كان الشيء المغصوب أو الشيء الذي وقع عليه الاستيلاء على سبيل المجاهرة والمغالبة مما لا ينقل كالدور والأبنية والعقارات لم يصح غصبه، ولم يضمن عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقالا: إن هذا لا يعد غصبًا قياسًا على السرقة، فالمسروق لا يكون مسروقًا إلا بالنقل من الحرز أو الإخراج من الحرز وتحويله من هذا المكان إلى مكان آخر، هكذا المغصوب، فالمغصوب لا يصير مغصوبًا في نظرهما إلا بالنقل, أي: إن كل ما لم يصر به المال مسروقًا لم يصر به المال مغصوبًا, عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
الاتجاه الثاني: ذهب إليه الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة، ومعهم محمد وزفر من الحنفية- فقالوا: إن الغصب يتحقق بمجرد الاستيلاء؛ أي: بإثبات اليد على مال الغير بغير إذنه، ولا يشترط إزالة يد المالك.
فيتحقق الغصب عند الجمهور، ومعهم محمد وزفر من خلال أمر واحد فقط، وهو الحيلولة بين المال وصاحبه, فبمجرد منع صاحب المال عن سيطرته أو استيلائه على ماله، هذا يعد غصبًا ولو لم تزل يد المالك عن ماله.
إذًا: عند الجمهور، الغصب يتحقق بمجرد الاستيلاء، فيدخل في ذلك العقار والمنقول.
أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فالغصب يختلف في مضمونه؛ لأنه إذا كان هناك إثبات لليد العادية ففي نفس الوقت هو إزالة ليد المالك، ولا تزال يد المالك إلا بالنقل والتحويل عندهما.
هذا بالنسبة لتعريف الغصب ومضمونه أو معناه في اللغة، واصطلاح الفقهاء على التعريفات التي ذكرناها عندهم.
حكم الغصب:
الغصب حرام, فيترتب على ذلك أن على الغاصب إثمًا إذا علم أن ذلك الفعل غصب, أي: لا بد أن يكون عالمًا بأن ما يفعله إنما هو محرم, أو أنه يعرف على الأقل أنه يأخذ مال غيره، فمن هنا جاء حكم الغصب بأنه حرام؛ فهو بشرط أن يعلم الغاصب أن ما يفعله إنما هو غصب.
والأدلة على تحريمه ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب الكريم فقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90], والغصب من جملة البغي؛ لأنه تعدٍّ على مالك مال، وأخذ ماله بغيًا وعدوانًا.
وأيضًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29] والغصب من الباطل؛ لأن الإنسان يأخذ مال غيره أو يأكل مال غيره، والله ينهاه عن ذلك {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}إلا بطريق الحق، وهو إذا كان ذلك عن تجارة منكم.
وقال أيضًا سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] والغصب من جملة الظلم؛ فالغاصب لا يستحق ما يأخذه من غيره غصبًا وعدوانًا, ولأن حقيقة الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والغصب كذلك وضع للشيء في غير موضعه؛ لأن وضع الشيء في موضعه بأن كل إنسان يتمتع بماله أو يأخذ ماله على وجه الملكية, لا ينازعه أحد فيه, ولا يأخذه منه قهرًا ما دام مالكًا له بحق.
وأما السنة, فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا)), وواضح أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل مال الإنسان على أخيه الإنسان محرمًا عليه, إلا بوجه حق ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)) أي: لا يملكها الإنسان إلا بالحل أو من وجه حلال.
وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لعبًا ولا جدًّا، ومن أخذ عصا أخيه فليردّها)) أخرجه الترمذي، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق؛ فلا بارك الله له فيه)) أخرجه أحمد في مسنده. وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من ظلم قيد شبر من الأرض؛ طوقه من سبع أرضين)) البخاري ومسلم.
وأما الإجماع, فقد أجمع المسلمون على تحريم الغصب وأنه معصية كبيرة، وإن لم يبلغ المغصوب نصاب السرقة, وهو المال الذي يؤخذ قهرًا على الوجه الذي حددناه, فإنما يعتبر غصبًا حتى ولو كان أقل من نصاب السرقة، لكن السرقة لا تعد سرقة إلا إذا بلغت النصاب، وفيها الحد.