تعريف المفقود، وبيان المدة المقررة شرعًا لانتظار المفقود
المفقود في اللغة: من فقد الشيء فقدًا وفقدانًا: ضاع منه، يقال: فقد الكتاب والمال ونحوه: خسره وعدمه، ويقال: فقدت المرأة زوجها، فهو فقيد ومفقود، وافتقد الشيء: فقده وطلبه عند غيبته، وتفاقد القوم: فقد بعضهم بعضًا، وتفقّد الشيء: تطلبه عند غيبته، وفي التنزيل العزيز: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20].
والمفقود في الاصطلاح: هو من انقطع خبره، وجُهل حاله، فلا يدرى أحي هو أم ميت، سواء كان سبب ذلك سفره أو حضوره قتالًا أو انكسار سفينة أو أسره في أيدي أهل الحرب.
وعرفه ابن عرفة: بأنه من انقطع خبره، ويمكن الكشف عنه.
المدة المقررة شرعًا لانتظار المفقود حتى توزع تركته:
اتفق جمهور الفقهاء على أن المفقود يضرب له أجل ننتظره فيه، ثم يحكم القاضي بموته، ومن ثم يُوزع ماله بين ورثته الأحياء يوم حكم القاضي بموته، هذا بالنسبة لتوزيع ماله بين ورثته، أما بالنسبة لزوجته من حيث اعتدادها: فإنها تنتظره أربع سنوات من يوم فقده ثم يحكم بموته وتحل للأزواج بعد أن تعتد عدة وفاة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، لكن الفقهاء اختلفوا في تحديد هذا الأجل ومقداره.
والمسألة فيها مذهبان:
المذهب الأول للجمهور: اتفق جمهور الفقهاء من حنفية ومالكية وشافعية: على أن الأجل الذي يُضرب للمفقود حتى يحكم القاضي بموته، ويوزع ماله بين ورثته هو أن يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش إلى مثله غالبًا وهو سن التعمير أي بوفاة أقرانه المولدين معه؛ بحيث لا يبقى أحد من جيله لغلبة الظن بوفاته حينئذ.
وعند كل من الحنفية والشافعية وأحمد في رواية عنه قولٌ: بأن هذا يُترك إلى تقدير الحاكم واجتهاده لأن الأصل بقاء الحياة، فلا يخرج عن هذا الأصل إلا بيقين أو ما في حكمه وهو حكم القاضي بموته، كذلك فإنه عند بعض الفقهاء -المذاهب الثلاثة- اختلافٌ في تحديد هذا السن من تاريخ يوم مولده؛ فعند الأحناف قدّره بعضهم بـ120 سنة، وقيل: 100 سنة وقيل: 90 سنة، وعليه الفتوى في المذهب الحنفي، وعند المالكية والشافعية يقدر هذا بـ70 سنة، وقيل: 80، وقيل: 90، وقيل: 100، وقيل: 120، لكن الصحيح عند المالكية هو سبعون سنة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، فأقلهم من يجاوز ذلك)) والحديث أخرجه ابن ماجه في الزهد باب الأمل والأجل، والترمذي في الزهد باب ما جاء في في فناء أعمار هذه الأمة، وقال: حديث حسن غريب، والبيهقي في سننه، يقول المالكية وهذا إخبار عما يتعلق به الحكم من الأعمار وما زاد على ذلك فليس فيه دليل يتحرر لكل قول، وإنما هو على حسب ما يتغلب في الظن من طول المدة وقصرها، والصحيح عند الشافعية أن المدة لا تقدر بشيء؛ لأن الأصل بقاء الحياة، فلا يُخرج عن هذا الأصل إلا بيقين أو ما نُزّل منزلته وهو حكم القاضي.
المذهب الثاني للحنابلة: ذهب الحنابلة إلى التفصيل في هذه المسألة، فهم يفرقون بين من انقطع خبره لغيبة ظاهرها السلامة، ومن انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك، فالأولى غيبةٌ ظاهرها السلامة، كمن خرج للتجارة أو السياحة أو طلب العلم ونحو ذلك، فهذا يُنتظر تمام 90 سنة من يوم مولده؛ لأن الأصل الحياة والغالب لا يعيش أكثر منها، والثانية: غيبة ظاهرها الهلاك كالذي ذهب إلى الحرب ولم يعد أو غرقت به سفينة فنجا بعض الناس دون بعض أو فُقد بين أهله، كمن خرج للصلاة ونحو ذلك، فهذا يُنتظر أربع سنوات؛ لأنها مدة يعود فيها التجار والمسافرون غالبًا، ولأنها هي مدة عدة زوج المفقود والتي تحل بعدها للأزواج، وهذا بعد عدة الوفاة أيضا أربعة أشهر وعشر، كما اتفق عليه جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة، يقول عمر رضي الله عنه: “أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدرِ أين هو فإنها تنتظر أربع سنوات ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا” والأثر رواه مالك في (الموطأ) والدارقطني في سننه والبيهقي في (السنن الكبرى)، فإذا لم يعد فيها -أي في السنوات الأربع- حكم بموته ووزع ماله بين ورثته.
الرأي الراجح: والذي أرى ترجيحه من بين هذه الآراء والرأي القائل بترك هذا الأمر للحاكم، القاضي يقدره حسبما يؤديه إليه اجتهاده بعد السؤال والتحري عنه في كل مكان وتصور وجوده فيه، وهذا أمر ميسور في هذا الزمان خاصة بعد التقدم العلمي في جميع أنواع الاتصالات السلكية واللاسلكية، على تعدد أنواعها وسرعة إفادتها بالمطلوب في وقت قياسي فاق كل تصور وحد، أما القول بأن مدة الانتظار تكون إلى سن الـسبعين كما قال المالكية استدلوا عليه بقولهم صلى الله عليه وسلم: ((أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين)) فنقول: إن تمام الحديث: ((فأقلهم من يجاوز ذلك)) إذن هناك من يجاوز الـسبعين فنعتبر المفقود من هذا الأقل الذي يجاوز الـسبعين مراعاةً لحقه في حفظ ماله، وإلا فإذا فُقد وهو ابن سبعين أو ما فوقها فإن تركته توزع يوم فقده، وكذلك من باب أولى من فُقد وهو ابن ثمانين أو تسعين أو مائة، لقد فاتت مدة الانتظار، وأما القول بانتظاره أربع سنوات كما قال الحنابلة، إذا كانت غيبته ظاهرها الهلاك فلماذا ننتظره أربع سنوات إذا فُقد وهو ابن مائة وعشرين سنة؟
إذن الذي تطمئن إليه النفس هو القول بترك هذا الاجتهاد للقاضي وتقديره.