تعريف “المندوب”، وهل هو مأمور به؟
المندوب لغة: اسم مفعول مِن: “النّدب”، وهو: الدّعاء.
المندوب اصطلاحًا: عرّفه ابن قدامة -رحمه الله- بتعريفيْن:
التعريف الأوّل: مأمور لا يَلْحق بترْكه ذَمّ، مِن حيث تَرْكه، مِن غيْر حاجة إلى بدَل.
شرح التعريف:
“مأمور”: جنْس يشمل الواجب والمندوب.
“لا يلحق بتَرْكه ذَمّ”: أعمّ مِن أن يكون تَرْكه مطلقًا، أو إلى بدل؛ فيتناول الواجب المُوسّع، والمُخيَّر، وفرْض الكفاية؛ لأن جميعها مأمورات يجوز تركها لكن إلى بدل.
“مِن غيْر حاجة إلى بدَل”: خرج الواجب الموسَّع، والمخيَّر، وفرْض الكفاية، وبقي المندوب.
التعريف الثاني: ما في فِعْله ثواب، ولا عقاب في تَرْكه.
شرح التعريف:
“ما في فِعْله ثواب”: جنسٌ يشمل الواجب والمندوب، وخرج به المباح، والمكروه، والمُحرَّم.
“ولا عقاب في تَرْكه”: أخرج الواجب، وأبقى المندوب.
- والأوْلى -كما ذكرنا سابقًا- أنْ يُعرَّف الشيء بماهيته، لا مِن حيث حُكمه والآثار المترتّبة عليه.
- فالأوْلى في تعريف المندوب أنْ يُقال: ما طَلَب الشّارع فِعْله، طلبًا غير جازم.
أسماء المندوب، وأساليبه:
للمندوب أسماءٌ كثيرة، وقع خلاف بين العلماء -رحمهم الله- في تلك الأسماء وفي ترتيبها، لكن الخلاف فيها لا يضرّ، ما دام أنّ الاتّفاق حاصل على أنّ الكلّ غير واجب.
ومن تلك الأسماء: المُستحَبّ، التّطوّع، السّنّة، النّافلة، المرغّب فيه، القُربة، الإحسان.
من الأساليب التي تفيد النّدب:
- صيغة الأمْر المصروفة بقرينة مِن الواجب إلى النّدْب.
- التصريح بلفْظ السّنّة.
- الصِّيَغ الدّالة على الترغيب.
هل المندوب مأمور به؟
صورة المسألة:
أنْ يَرِد لفْظ الأمْر، ثم يدلّ الدّليل على أنّ المراد به: النّدب لا الواجب، فهل يكون المندوب في هذه الحالة مأمورًا به حقيقة أم مجازًا؟
تحرير محلّ النّزاع:
اتّفق العلماء -رحمهم الله- على أنّ المندوب تتعلّق به صيغة الأمْر -حقيقة كانت أمْ مجازًا- إنّما النزاع في: هل يُطلق عليه اسم المأمور به؟ وقد اختلفوا على قوليْن:
الأول: إن المندوبَ مأمور به حقيقة. وهذا قول جمهور العلماء.
الثاني: إنّ المندوبَ غير مأمور به حقيقة، وإنما يكون الأمر به على سبيل المجاز. وبه قال جمهور الحنفيّة، وبعض الشافعيّة.
أدلّة الجمهور:
استدلّ الجمهور بأدلّة، منها:
الدليل الأول: أنّه قد جاء إطلاق الأمْر على المندوب في نصوص الشّارع، ممّا يدلّ على أنّه مأمور به حقيقة، ومن ذلك:
- قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } [الحج: 77]، ومِن الخيْر ما هو مندوب.
- وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } [النحل: 90]، ومن الإحسان وإيتاء ذي القُربى ما هو مندوب.
الدليل الثاني: أنّ المندوب طاعة بالاتّفاق، ولم يكن طاعة إلاّ لتعلّق الأمر به، وليس لشيء آخر؛ فيكون مأمورًا به حقيقة.
الدليل الثالث: أنّه قد شاع في لسان العلماء: أنّ الأمْر ينقسم إلى أمْر إيجاب وأمْر ندْب، ومورد القِسمة مشترك؛ فيكون الأمر مشترَكًا بين أمْر إيجاب وأمْر ندب.
أدلّة أصحاب القول الثّاني:
الدليل الأول: قد ورَد في الشّرع نفْيُ تسمِية ما طُلب على سبيل النَّدب أمْرًا، ومن ذلك:
- قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. فقد حذّر الله سبحانه مِن مخالفة أمْره، ورتّب عليها الفتنة والعذاب الأليم، والمندوب لا يتحقّق فيه شيء مِن ذلك؛ فيكون غير مأمور به حقيقة.
- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفّق عليه: ((لولا أنْ أشقّ على أمّتي لأَمَرْتُهم بالسِّواك عند كلّ صلاة)). فقد نفَى النبي صلى الله عليه وسلم الأمْر، مع أنّ فِعْل السِّواك مندوب إليه، ممّا يدلّ على أنّ المندوب مأمور به حقيقة.
وأُجيب عن وجْه الاستدلال بهذه النصوص وما شابهها: بأنّ الأمر الوارد عن تلك النّصوص، المراد به: الأمْر الواجب؛ فلا ينافي أن يُطلَق أيضًا الأمْر على غير الواجب؛ فالأمر يتناول النوعيْن، وكلاهما حقيقة.
الدليل الثاني: لو كان المندوب مأمورًا به حقيقة لسُمّي تارِكُه عاصيًا، كما في الأمر الواجب؛ فلمّا لم يتحقّق ذلك، دلّ على أنّ المندوب غيرُ مأمور به حقيقة.
وأجيب عن هذا: بأنّ تارك المندوب لم يُسَمَّ عاصيًا؛ لأنّ العصيان اسم ذَمٍّ مختصّ بمخالفة الأمر الواجب، لا مطلق الأمر.
ومع ذلك فيُسمَّى تارك المندوب مخالفًا لأمر الله المندوب، كما يُسمَّى فاعلُه مُطيعًا ومُوافقًا لأمْر الله المندوب.
الدليل الثالث: الأمْر: استدعاء وطلَبٌ، وحقيقته لا توجد في النّدْب؛ لأنّ فيه تخييرًا، بدليل أنّه يجوز تَرْكه، والتّخيير والطّلب متنافيان.
وأُجيب: بأنّ النّدب ليس تخييرًا مُطلقًا، بدليل أنّ الفِعل أرجح مِن التّرْك.
والرّاجح -والله أعلم-: هو قول الجمهور، لِقُوّة ما استدلّوا به؛ إذ قد وَرَد إطلاقُ الأمْر على المندوب في نصوص الشّارع، والأصْل في الإطلاق: الحقيقة.
نوع الخلاف:
اختلف العلماء -رحمهم الله- في نوع الخلاف في هذه المسألة على قوليْن:
الأول: أنّ الخلاف لفْظيّ. ومن هؤلاء: إمام الحرَميْن، وهؤلاء نظروا إلى الجانب اللّغويّ.
الثاني: أنّ الخلاف معنويّ. واختاره المازري والزركشي.
مِن فوائد الخلاف:
- إذا قال الراوي: “أُمِرْنا”، أو “أَمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا”.
فعند مَن قال: إنّ لفظ “الأمْر” يختصّ بالوجوب، يكون اللّفظ ظاهرًا في ذلك، حتى يقوم دليل على خلافِه.
ومَن قال: إنّه متردِّد بين الإيجاب والنّدب، يلزم أن يكون عنده مُجمَلًا.
- إذا ورد لفظ “الأمر” دلَّ الدّليل على أنّه لم يُرَدْ به الوجوب.
- فمَن قال: إنّه حقيقة في النّدب، حَمَله عليه ولمْ يَحتجْ إلى دليل.
- ومَن قال: إنه مجاز، لم يحْمِلْه عليه إلاّ بدليل؛ لأنّ اللّفظ لا يُحمَل على المجاز إلاّ بدليل.
ويظهر -والله أعلم- أنّ الخلافَ لفْظيٌّ بالاتّفاق على تعلّق صيغة الأمْر بالمندوب، وإنّما يرجع الخلاف إلى أنّ الأمْر في اللغة: هل هو للطّلَب المطلق، أو للطّلب الجازم؟