تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات
إن لهذا التفرع أسبابًا مباشرة وأخرى غير مباشرة، ويرجع السبب الرئيس في هذا التفرع، إلى انتشار اللغة في مناطق مختلفة واسعة، واستخدامها لدى جماعات كثيرة العدد، وطوائف مختلفة من الناس، وهذا السبب الرئيس لا يؤدي عن طريق مباشر إلى تفرع اللغة؛ بل يتيح الفرص لظهور عوامل أخرى، تؤدي إلى هذه النتيجة.
وقبل أن نذكر العوامل المباشرة، نبدأ بهذا العنصر الرئيس، الذي يعد السبب الرئيس في هذا التفرع؛ وهو الانتشار اللغوي.
إن لانتشار اللغة أثرًا رئيسًا في التفرع اللغوي، فاللغات الإنسانية تختلف في مبلغ انتشارها اختلافًا كبيرًا، فمنها ما تتاح له فرص مواتية، فينتشر في مناطق واسعة من الأرض، ويتكلم به عدد كبير من الأمم الإنسانية، كما حدث للاتينية والعربية في العصور القديمة والوسطى، وللإنجليزية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية والألمانية في العصور الحديثة، ، ومنها ما لا تتاح له هذه الفرص، فيكون انتشارها ضعيفًا، ومن اللغات ما يكون حالها وسطًا بين هذا وذاك.
ولانتشار اللغة أسباب كثيرة، نذكر منها ثلاثة أسباب:
الأول: الصراع؛ حيث تشتبك اللغة في صراع مع لغة أو لغات أخرى، ويترتب على ذلك أن تتغلب اللغة أن تتغلب اللغة، على النحو الذي أوضحناه في العنصر الأول، وتصبح لغة الحديث والكتابة، كما حدث للغة العربية، حين تغلبت على كثير من اللغات السامية الأخرى، وعلى اللغات القبطية والبربرية والكوشتية، حتى بلغ الآن عدد الناطق بها، أكثر من مائتي مليون، ينتمون إلى نحو عشرين دولة، بعد أن كانوا قديمًا لا يتجاوزون بضعة آلاف، يقطنون منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من بلاد العرب.
السبب الثاني: أن ينتشر أفراد شعب ما، على إثر هجرة أو استعمار، في مناطق جديدة بعيدة عن أوطانهم الأولى، ويتكون من سلالاتهم بهذه المناطق، أمة أو أمم متميزة كثيرة السكان، فيتسع بذلك مدى انتشار لغتهم، ومن أمثلة ذلك، استعمار الإنجليز السكسون لأمريكا الشمالية وإستراليا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا؛ حيث انتشرت اللغة الإنجليزية في هذه المناطق، حتى بلغ عدد الناطقين بها نحو أربعمائة مليون، موزعين على مختلف قارات الأرض، بعد أن كانت قديمًا محصورة، في منطقة ضيقة من الجزر البريطانية.
والأمر نفسه بالنسبة للغة الإسبانية؛ حيث انتشرت في بلاد المكسيك وجزر الفلبين، وجميع دول أمريكا الوسطى، وأمريكا الجنوبية ما عدا البرازيل، وهكذا.
السبب الثالث: النمو الطبيعي، فقد يتاح لجماعة ما أسباب مواتية، للنمو الطبيعي في أوطانها الأصلية نفسها، فيأخذ عدد أفرادها وطوائفها في الزيادة، وتنشط حركة العمران في بلادها، فتكثر فيها المدن والقرى، ويتسع تبعًا لذلك نطاق لغتها، كما حدث لليابانية والفرنسية والإيطالية.
فمتى انتشرت اللغة في مناطق واسعة من الأرض، تحت تأثير عامل من هذه العوامل، وتكلم بها جماعات كثيرة العدد، استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمدًا طويلًا، فتنشعب إلى لهجات، وتسلك كل لهجة من هذه اللهجات في سبيل تطورها، منهجًا يختلف عن منهج غيرها، وتتسع مسافة الخلف بينها، وبين أخواتها رويدًا رويدًا، حتى تصبح لغة متميزة مستقلة، غير مفهومة إلا لأهلها.
ولذلك يتولد عن اللغة الأولى، فصيلة أو شعبة من اللغات، يختلف أفرادها بعضهم عن بعض في كثير من الوجوه، فاللغة الهندية الأوربية الأولى، قد انشعبت إلى مجموعات، وكل مجموعة تفرعت إلى عدة طوائف، وكل طائفة انقسمت إلى شعب، وكل شعبة إلى لغات، وهكذا.
ومثل هذا حدث للغة السامية الحامية الأولى، ولجميع الفصائل اللغوية الأخرى.
واللغة اللاتينية هي إحدى لغات الفرع الإيطالي، المنشأة من الهندية الأوربية، انشعبت إلى عدد كبير من اللهجات، حتى انفصلت عنها انفصالًا تامًّا.
وقد بقيت اللاتينية مدة ما، لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منها، وهي الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية ولغة رومانيا، ولكنها لم تلبث أن تنحت عن ذلك، بعد أن اكتمل نمو هذه اللغات.
ونحن نخشى أن تتسع مسافة الخلف، بين اللهجات المنشعبة عن العربية، حيث ظهرت أمارات الغربة بين هذه اللهجات؛ حيث نجد خلفًا واضحًا، بين لهجة كل من العراقيين والمغربيين والمصريين في عصرنا الحاضر، غير أنه مما يثلج صدورنا، أن بقاء العربية لغة للإسلام.
ومصدريه العظيمين القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، يقوي الأمل في نفوسنا، ويخفف من أثر هذا الانقسام اللغوي، الذي نأمل ألا يحدث أبدًا.
أما بالنسبة للعوامل المباشرة في تفرع اللغة، فنجملها فيما يلي:
أولًا: عوامل اجتماعية سياسية، تتعلق باستقلال المناطق التي انتشرت فيها اللغة، وضعف السلطان المركزي الذي كان يجمعها.
ثانيًا: عامل اجتماعي نفسي، يتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة، من فروق في النظم الاجتماعي، والعرف والتقاليد والعادات والثقافة والتفكير والوجدان، فالاختلاف في هذه الأمور، يتردد صداه أيضًا في اللغة.
ثالثًا: العوامل الجغرافية، التي تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة، من فروق في الجو، وطبيعة البلاد وبيئتها وموقعها، وسوف نفصِّل هذا أثناء حديثنا، عن علم اللغة الجغرافي.
رابعًا: ما يسمى بالعوامل الشعبية، التي تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة، من فروق في الأجناس، والفصائل الإنسانية التي ينتمون إليها، والأصول التي انحدروا منها، فلهذه الفروق أثار بليغة، في تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات.
ويضم العلماء إلى هذه العوامل عوامل أخرى، تسمى بالعوامل الجسمية الفسيولوجية، وهي المتمثلة فيما بين سكان المناطق المختلفة، من فروق في التكوين الطبيعي لأعضاء النطق.
إن انقسام المتكلمين باللغة الواحدة، تحت تأثير هذه العوامل إلى جماعات متميزة، واختلاف هذه الجماعات بعضها عن بعض، في شئونها السياسية والاجتماعية، وفي خواصها الشعبية والجسمية والنفسية، وفيما يحيط بها من ظروف طبيعية وجغرافية، كل ذلك وما إليه، يوجه اللغة عند كل جماعة منها وجهة، تختلف عن وجهتها عند غيرها، ويرسم لتطورها في النواحي الصوتية والدلالية وغيرها، منهجًا يختلف عن منهج أخواتها، فتتعدد مناهج التطور اللغوي، حسب تعدد الجماعات، ومن ثم تتسع مسافة الخلف بين هذه اللهجات الناشئة عن هذا التعدد، حتى تصبح كل لهجة منها لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها.
ويبدأ الخلاف بين هذه اللهجات، من ناحيتين:
الأولى: الناحية المتعلقة بالصوت، فتختلف الحروف أو الأصوات، التي تتألف منها الكلمة الواحدة، كما تختلف طريقة النطق، تبعًا لاختلاف اللهجات.
الثانية: الناحية المتعلقة بدلالة المفردات، فتختلف معاني بعض الكلمات، باختلاف الجماعات الناطقة بها.
أما بالنسبة للقواعد فالتغير يكون محدودًا، وانظر في اللهجات العامية، التي انشعبت عن العربية، في العراق والشام والحجاز واليمن ومصر وبلاد المغرب، فإنك لا تجد بينها إلا فروقًا ضئيلة، في نظام تكوين الجملة، وتغيير البنية وقواعد الاشتقاق، والجمع والتأنيث والوصف والنسب والتصغير، في حين أن مسافة الخلف بينها في الناحيتين الصوتية والدلالية، قد بلغت حدًّا جعل بعضها غريبًا عن بعض، كما سبق وأن ذكرنا.
هذا بالنسبة لتفرع اللغة الواحدة، إلى لهجات ولغات؛ حيث ذكرنا أسباب هذا التفرع، وذكرنا مظاهره.