Top
Image Alt

تفرع اللغة وانقسامها إلى لهجات

  /  تفرع اللغة وانقسامها إلى لهجات

تفرع اللغة وانقسامها إلى لهجات

هناك قانون لُغوي يقول بأنه متى انتشرت اللغة في مناطق واسعة من الأرض، وتكلم بها جماعات كثيرة، يعيشون في بيئة جغرافية واسعة، وفصل بين أجزاء أراضيها عوامل جغرافية أو اجتماعية؛ استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها أمدًا طويلًا.

عوامل تفتيت اللغة وعوامل انقسامها إلى لهجات هي:

البيئة الجغرافية المتسعة، والحواجز بين المتكلمين باللغة الواحدة، والفواصل الجغرافية، والفواصل الاجتماعية فواصل الطبقات، هذه الفواصل وهذه العوامل تؤدي إلى عدم الاحتفاظ بوحدة اللغة أمدًا طويلًا؛ بل تنقسم اللغة إلى لهجات… وهذا ما حدث للغة العربية.

نجد أن اللغة العربية انقسمت إلى لهجات متعددة؛ هذه اللهجات نتيجة لانقسام القبائل العربية ووجود الفواصل الجغرافية بين أجزاء المنطقة العربية؛ فظهر عندنا مثلًا: القبيلة الحجازية، وقبيلة تميم، وقبيلة هذيل، وقبيلة أزد شنوءة، وقبيلة بكر بن وائل، والأنصار… وهذه القبائل متعددة؛ وجدنا أن كل قبيلة استعملت لهجة خاصة بها.

فمثلًا: الحجازيون يظهرون، يقولون مثلًا: “لم تمنن وامنن”، والتميميون يدغمون: “وَمَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِه” [البقرة: 217] الحجازيون يظهرون: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: 120] مثلًا الشاعر يقول:

وغُضَّ الطَّرْفَ إنكَ من نُمَيْرٍ

* فلا كَعبًا بلغتَ ولا كِلابًا

اغضض: لهجة حجازية، غض: لهجة تميمية، الحجازيون مالوا إلى الإظهار قصدًا لبيان الأصل، والتميميون مالوا إلى الإدغام؛ قصدًا للسهولة والاقتصاد في الجهد العضلي.

نجد أن هناك لهجات أخرى تبعًا للقبائل: مثلًا اللخلخانية عند أعراب الشحر وعمان: وهي نقص بعض حروف الكلمة في الإدراج والوصل، يقولون في “ما شاء الله”: ما شا الله. العجرفية: وهي تفخيم الحروف وتغليظها؛ حتى يملأ صداها الفم، وتنسب إلى قبيلة ضبة. الغمغمة: وهي سرعة نطق أصوات الكلمة واختلاط حروفها، وخفاؤها حتى لا يفهم السامع المراد، وتنسب إلى قبيلة قضاعة. الاستنطاء: وهي إبدال العين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء، يقولون في أعطى: “أنطى” ومنه الحديث: ((اليد العليا المنطية…))، وتنسب هذه الظاهرة إلى سعد بن بكر، وهذيل، والأزد، وقيس، والأنصار. الطمطمانية: وهي إبدال لام التعريف ميمًا؛ فيقولون في الرجل: “امرجل”، وفي السفر: “امسفر”، ويقولون في طاب الهواء: “طاب امهواء”، وتنسب إلى حمير.

أيضًا “الوكم”: جمهور العرب ينطقون الكاف من ضمير الجمع “كُم” مضمومة مطلقًا؛ ولكن بكر بن وائل تكسر هذه الكاف بعد الياء أو الكسرة، فيقولون: بدلًا من عليكُم وبكُم يقولون “عليكِم وبكِم”؛ قال الشاعر:

وإن قال مولاهم على جل حادث

*من الدهر رُدُّوا فضل أحلامِكِم رَدُّوا

فكسروا الكاف فقالوا: “أحلامِكِم” بدلًا “أحلامِكُم”.

أيضًا “الوهم”: وجمهرة العرب تنطق هاء “هُم” مضمومة ما لم يسبقها ياء ولا كسرة، ولكن قومًا من ربيعة أو كلب؛ فإنهم يكسرونها وإن لم يسبقها ياء ولا كسرة؛ فيقولون: “منهِم وعنهِم” بدلًا من منهُم وعنهُم.

أيضًا لهجات مثلًا: قبيلة هذيل تبدل حاء “حتى” عينًا وهي الفحفحة، ومن ذلك ما روي عن عمر: أنه سمع رجلًا يقرأ “عتى حين”، فقال: من أقرأك؟ قال: ابن مسعود. فكتب إليه: “إن الله عز وجل أنزل هذا القرآن فجعله عربيًّا وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلهجة هذيل، والسلام”. إذن لهجة هذيل لهجة انحرفت عن العربية الفصحى.

وأيضًا من هذه اللهجات التي انقسمت في شبه الجزيرة العربية وتفرعت: “العجعجة”: والعجعجة هي إبدال الياء المشددة جيمًا، وتنسب إلى قبيلة قضاعة، يقولون في تميمي: تميمِج، وأيضًا تنسب إلى فقيم -دار من تميم- قال أبو عمرو بن العلاء: قلت لرجل من بني حنظلة: ممن أنت؟ قال: فقيمج؟ قلت: من أيهم؟ قال: مرِّج. أي: مري: أراد فقيمي ومري، وعليها جاء قول الشاعر:

عمي عويف وأبو علِجِّ

*المطعمان اللحم بالعشِجِّ

هذه العجعجة أيضًا لهجة من لهجات شبه الجزيرة العربية التي انقسمت عندما اتسعت بيئة اللغة العربية، وتعدد الناطقون بها، وفصلت بينهم الفواصل الجغرافية.

أيضًا هناك لهجة أخرى وهي عكس العجعجة، وهي: إبدال الجيم ياءً، وتنسب هذه الظاهرة إلى تميم، قالوا في الصهاريج: الصهاري، وصهري لغة تميم، كما قالوا في شجرة: شيرة؛ بقلب الجيم ياءً -عكس العجعجة- قال أبو حاتم: قال: سمعت أم الهيثم تقول:

إذا لم يكن فيكن ظلٌّ ولا جنًى

*فأبعدَكن اللهُ من شَيَرات

أيضًا هناك لهجة أخرى هي لهجة أهل اليمن، وتسمى: الوتم، والوتم هو إبدال السين تاءً. يقولون في الناس وأكياس: النات، وأكيات، قال الشاعر:

يا قبح الله بني السعلاتِ

*عمرو بن يربوع شرار الناتِ

غير أعفاء ولا أكيات  

شرار النات، أي: شرار الناس.

ولا أكيات: أي ولا عقلاء؛ فأكيات هنا: يعني أكياس، جمع كيس: وهو العاقل. والسعلات: الساحرة من الجن.

ويقولون في علة قلب السين تاء في الوتم: وإنما أبدلت التاء من السين؛ لأن في السين صفيرًا فاستثقلوه فأبدلوه من السين التاء، وينسب الوتم لأهل اليمن.

عندما تأتي إلينا لهجة، أو تأتي إلينا مسألة؛ لا بد أن نعلل لهذه المسألة؛ لأن هذه من أخطر مصطلحات الدرس اللغوي ولا بد أن تُستوفى النص؛ لا بد أن يكون النص كاملًا.

والقياس: لا بد أن نقيس ما لم نسمع على ما نسمع، والعلة: لا بد أن نعلل للظواهر اللغوية التي توجد عندنا.

لأن هذا هو من أعمال المنهج المعياري، والمنهج المعياري هذا كما قلنا عنه: إنه عن طريقه قعدت قواعد اللغة العربية، أو قعد علماء العربية لنا قواعد هذه اللغة.

أيضًا العنعنة من لهجات شبه الجزيرة العربية التي وصلت إلينا بعد انقسام اللغة العربية إلى لهجات في شبه الجزيرة العربية؛ نتيجة لاتساع بيئة اللغة العربية. والعنعنة: هي إبدال العين من الهمزة المفتوحة، في أنْ أو أنَّ يقولون في أنْ: عنْ. وفي أنَّ: عنَّ؛ قال ذو الرمة:

أعَنْ ترسمت من خرقاء منزلةً

*ماءُ الصبابةِ من عينيك مسجومُ

هنا أبدل العين من الهمزة المفتوحة عينًا: “عَنْ ترسمت” أصلها: “أن ترسمت”. وهذه اللهجة تسمى بالعنعنة وتنسب إلى تميم؛ يقولون: عنعنة تميم.

قال الشاعر:

فما أُبْنَ حتى قُلْنَ: يا ليت عَنَّنَا

*ترابٌ وعَنَّ الأرض بالناس تُخْسَفُ

فما أبن: يعني فما رجعن. يا ليت عَنَّنَا: يعني يا ليت أننا. وعنَّ الأرض: يعني: وأن الأرض. إذن البيت الشعري أصله:

فما أُبْنَ حتى قُلْنَ: يا ليت أننا

*ترابٌ وأنَّ الأرض بالناس تخسفُ

قال الفراء: لغة قريش ومن جاورهم أَنَّ، وتميم وقيس وأسد ومن جاورهم يجعلون ألف أَنَّ إذا كانت مفتوحةً: عينًا، يقولون: أشهد عَنَّك رسول الله: أي أنك رسول الله. فإذا كسروا؛ رجعوا إلى الألف -يعني إلى الهمزة- وعليها قول الشاعر:

فلا تُلْهِكَ الدنيا عن الدينِ واعتمد

*لآخرة لا بد عَنْ ستصيرها

أصلها: لا بد أن، وقال الآخر:

أعن تغنت على ساقٍ مطوقة

*ورقاء تدعو هديلًا فوق أعواد

 أعن أصلها: أأنْ.

علة العنعنة قلب همزة أنْ وأنَّ عينًا: يقولون: كما أبدلت الهاء من الهمزة؛ لقربها منها في المخرج؛ أبدلت منها العين؛ لأن العلة واحدة.

أبدلت العين من الهمزة؛ لأن العين والهمزة من حروف الحلق التي يصح حلول بعضها محل بعض، تقول: مدح، ومده، والحاء والهاء من حروف الحلق؛ حروف الحلق هي ستة: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء. فعندنا مثلًا أراق وهراق، الحرفان يصح حلول بعضهما محل بعض؛ حروف الحلق ثلاثة مدارج وستة حروف كل حرفين في مدرج:

المدرج الأول: من أقصى الحلق: الهمزة والهاء.

المدرج الثاني: العين والحاء.

المدرج الثالث: الغين والخاء؛ هذه هي حروف الحلق، يصح حلول بعضها محل بعض؛ فعلَّة العنعنة: كما أبدلت الهاء من الهمزة في أراق وهراق؛ لقربها منها في المخرج؛ أبدلت أيضًا العين؛ لأن العلة واحدة؛ لأن حروف الحلق يصح حلول بعضها محل بعض.

أيضًا من اللهجات في شبه الجزيرة العربية: الكشكشة: وهي إبدال كاف المؤنث في الوقف شينًا، وهذه اللهجة موجودة الآن في الكويت مثلًا؛ يقولون في أبوكِ: أبوشِ؛ علة ذلك: قالوا: حرصًا على البيان؛ لأن الكسرة في الوقف تخفى؛ فحرصًا على بيان الكسرة هذه يقلبون، أو يحولون الكاف إلى شين: يقولون في أبوكِ: أبوشي أو أبوتشي. هذه اللهجة لهجة ربيعة ومضر، يقولون: كشكشة ربيعة ومضر.

يقولون مثلًا في عليكِ: عليشِي. ومنكِ: منشِي. ومررت بشِي. بدل: بكِ. ومنهم من يجري الوصل مجرى الوقف، يعني أيضًا يبدل في الوصل الكاف شينًا.

إذن الأصل في هذه اللهجة -وهي إبدال الكاف ضمير المؤنثة -أو ضمير المؤنث- شينًا في الوقف حرصًا على البيان: هذه اللهجة في الأصل أنها في حالة الوقف، ومنهم من يبدل الكاف شينًا في الوصل أيضًا؛ إجراءً للوصل مجرى الوقف.

قال الشاعر:

فعيناشِي عيناها وجيدُشِي جيدها
 
*سوى أن عظم الساقِ منشِي دقيقُ

الأصل قبل القلب:

فعيناكِ عيناها وجيدُك جيدها

*سوى أن عظم الساق مِنكِ دقيقُ

أيضًا قالوا في أعطيتكِ: أعطيتُشِ.

هناك لهجة أيضًا وهي: الكسكسة، للفرق بين المذكر والمؤنث؛ إبدال الكاف ضمير المذكر سينًا، الصورة الثانية: إلحاق السين بالكاف.

 نقول في منكَ: مِنْسَ، ونقول في عليكَ: عَلَيْسَ، بالسين، وتنسب أيضًا إلى ربيعة ومضر، ونسبها ابن جني إلى هوازن؛ وهوازن أيضًا قبيلة مضرية، ونسبها الزمخشري وابن يعيش إلى بكر بن وائل؛ وبكر بن وائل من ربيعة.

علل المستشرقون تلك الظاهرة بأن الكاف كالجيم الخالية من التعطيش -يعني: الجيم القاهرية والكاف الفارسية، الجاف الفارسية والجيم المصرية- دفعتها الكسرة التي تليها إلى أن تكون من وسط الحنك؛ فصارت “c-h” :”ch” يعني: حرف مزدوج، نحن نرجح أن الكشكشة كانت أيضًا بإبدال كاف المؤنث حرفي: “ch”؛ يعني: حرف مزدوج بدليل النطق في بعض اللهجات الدارجة الآن في شبه الجزيرة العربية؛ حيث يقولون في أبوكِ: “أبتشِي” توجد هذه اللهجة في الكويت الآن.

إذن لماذا أصاب الانحراف في النطق بعض القبائل العربية؟

لأن هناك حواجز جغرافية، أو حواجز طبقية، أو انفصال بين القبائل، وكانت هذه الحواجز تشبه -إلى حد كبير- الحواجز السياسية الآن؛ عندما تفصل الحدود السياسية بين البلدان، كانت هناك في الجاهلية الحواجز القبلية؛ كانت كل قبيلة متمسكة بموطنها، عندما يأتي إليه بعض الأفراد من القبائل الأخرى، تظن أن هؤلاء الأفراد جواسيس وكانت تحافظ على أراضيها بأن تبعد الآخرين عنها؛ فهذه الفواصل سواء كانت فواصل جغرافية أو فواصل قبلية، قامت مقام الحدود السياسية الآن، وهذا كان السبب في نشأة اللهجات العربية، وانقسام لهجات اللغة العربية.

error: النص محمي !!