Top
Image Alt

تفسير الفقهاء, والتعريف ببعض كتبهم

  /  تفسير الفقهاء, والتعريف ببعض كتبهم

تفسير الفقهاء, والتعريف ببعض كتبهم

1. المراد بتفسير الفقهاء:

كان الصحابة  في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهمون القرآن بسليقتهم العربية، وإن التبس عليهم فهم آية رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبينها لهم، ولما توفي صلى الله عليه وسلم وتولى فقهاء الصحابة توجيه الأمة بقيادة الخلفاء الراشدين، وجدت قضايا لم تسبق لهم، كان القرآن ملاذًا لهم لاستنباط الأحكام الشرعية للقضايا الجديدة؛ فيجمعون على رأي فيها وقلما يختلفون عند التعارض، كاختلافهم مثلًا في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، أهي وضع الحمل؟ أم مضي أربعة أشهر وعشرًا؟ أم أبعد الأجلين منهما؟ حيث قال الله تعالى: {وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] وقال: {وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4].

فكانت هذه الأحوال على قلتها بداية الخلاف الفقهي في فهم آيات الأحكام، فلما كان عهد الأئمة الفقهاء الأربعة، واتخذ كل إمام أصولًا لاستنباط الأحكام في مذهبه، وكثرت الأحداث وتشعبت المسائل ازدادت وجوه الاختلاف في فهم بعض الآيات لتفاوت وجوه الدلالة فيها، دون التعصب لمذهب بل استمساكًا بما يرى الفقيه أنه الحق، ولا يجد غضاضة إذا عرف الحق لدى غيره أن يرجع إليه، ظل الأمر هكذا حتى جاء عصر التقليد والتعصب المذهبي؛ فقصر أتباع الأئمة جهودهم على توضيح مذهبهم والانتصار له، ولو كان ذلك بحمل الآيات القرآنية على المعاني المرجوحة البعيدة.

ونشأ من هذا تفسير فقهي خاص لآيات الأحكام في القرآن يشتد التعصب المذهبي فيه أحيانًا ويخف أخرى، وتتابع هذا المنهج إلى العصر الحديث، وهذا هو ما نسميه بالتفسير الفقهي، ومن أشهر كتبه: (أحكام القرآن) للجصاص، وهو مطبوع، و(أحكام القرآن) للكيا الهراس وهو أيضًا مطبوع، و(أحكام القرآن) لابن العربي و(الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي وكلاهما أيضًا مطبوع، و(الإكليل في استنباط التنزيل) للحافظ السيوطي وهو مخطوط، و(التفسيرات الأحمدية في بيان الآيات الشرعية) لملا جيون، وهو مطبوع بالهند، وتفسير آيات الأحكام للشيخ محمد السايس، و(تفسير آيات الأحكام) للشيخ مناع القطان، و(أضواء البيان) للشيخ محمد الشنقيطي وكل هذه الثلاثة مطبوعة -بحمد الله، تبارك وتعالى.

2. التعريف ببعض كتبهم:

أود أن أعرف ببعض كتب تفسير الفقهاء:

(أحكام القرآن) للجصاص:

والجصاص هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي، المشهور بالجصاص نسبة إلى العمل بالجص، من أئمة الفقه الحنفي، في القرن الرابع الهجري، ويعتبر كتابه (أحكام القرآن) من أهم كتب التفسير الفقهي؛ ولا سيما عند الأحناف، وقد اقتصر المؤلف في هذا الكتاب على تفسير الآيات التي تتعلق بالأحكام الفرعية؛ فيورد الآية أو الآيات، ثم يتولى شرحها بشيء من المأثور في معناها، ويستطرد في ذكر المسائل الفقهية التي تتصل بها من قريب أو بعيد، ويسوق الخلافات المذهبية؛ حيث يشعر القارئ أنه يقرأ في كتاب من كتب الفقه، لا في كتاب من كتب التفسير.

والجصاص -رحمه الله- يتعصب لمذهب الحنفية تعصبًا بالغًا، ويحمله هذا التعسف في تفسير الآيات وتأويلها انتصارًا لمذهبه، يعني: هذا التعصب كان يحمله على أن يلوي أعناق الآيات؛ لتوافق مذهب الأحناف، وكان -رحمه الله- يشتد في الرد على المخالفين متعنتًا في التأويل، بصورة تنفر القارئ أحيانًا من متابعة القراءة لعباراته اللاذعة في مناقشة المذاهب الأخرى.

ويبدو -والله أعلم- من تفسير الجصاص كذلك أنه ينحو منحى المعتزلة في العقائد؛ فيقول مثلًا في قوله تعالى: {لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] معناه: لا تراه الأبصار؛ وهذا تمدح بنفي رؤية الأبصار؛ كقوله تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ} [البقرة: 255] وما تمدح الله بنفيه عن نفسه، فإن إثبات ضده ذم ونقص، فغير جائز إثبات نقيضه بحال؛ فلما تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال؛ إذ كان فيه إثبات صفة نقص؛ ولا يجوز أن يكون مخصوصًا بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ (22) إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] لأن النظر محتمل لمعانٍ منها انتظار الثواب، كما روي عن جماعة من السلف؛ فلما كان ذلك محتملًا للتأويل لم يجُز الاعتراض به على ما لا مساغ للتأويل فيه… إلى آخر ما ذكر في ذلك.

(أحكام القرآن) لابن العربي:

وابن العربي هو: أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله المعافري، الأندلسي الإشبيلي. من أئمة علماء الأندلس المتبحرين، وهو مالكي المذهب، وكتابه (أحكام القرآن) أهم مرجع للتفسير الفقهي عند المالكية، وابن العربي في تفسيره رجل معتدل منصف لا يتعصب لمذهبه كثيرًا، ولا يتعسف في تفنيد آراء المخالفين كما فعل الجصاص، وإن كان يتغاضى عن كل زلة علمية تصدر عن مجتهد مالكي، وهو يذكر آراء العلماء في تفسير الآية، مقتصرًا على آيات الأحكام، ويبين احتمالاتها المختلفة لدى المذاهب المتعددة، ويفرد كل نقطة في تفسير الآية بعنوان فيقول: المسألة الأولى، المسألة الثانية… وهكذا.

وقلما يقسو في الرد على مخالفيه كقوله مثلًا في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} [المائدة: 6] قال: المسألة الحادية عشرة: قوله عز وجل: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} وظن الشافعي وهو عند أصحابه معد بن عدنان في الفصاحة بله أبي حنيفة وسواه أن الغسل صب الماء على المغسول من غير عرك. وقد بينا فساد ذلك في مسائل الخلاف.

(الجامع لأحكام القرآن) لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي:

هذا العالم الفذ من علماء المالكية، له تفسير (الجامع لأحكام القرآن) والقرطبي في تفسيره -رحمه الله- لم يقتصر على آيات الأحكام، وإنما يفسر القرآن الكريم تباعًا؛ فيذكر سبب النزول ويعرض للقراءات والإعراب، ويشرح الغريب من الألفاظ، ويضيف الأقوال إلى قائليها، ويضرب صفحًا عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، وينقل عن العلماء السابقين الموثوقين، ولا سيما من ألف منهم في كتب الأحكام؛ فينقل عن ابن جرير الطبري، وابن عطية، وابن العربي، والكيا الهراس، وأبي بكر الجصاص.

ويفيض القرطبي في بحث آيات الأحكام؛ فيذكر مسائل الخلاف، ويسوق أدلة كل رأي، ويعلق عليها، ولا يتعصب لمذهبه المالكي؛ ففي تفسير قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] يقول في المسألة الثانية عشرة من مسائل هذه الآية، بعد أن ذكر خلاف العلماء في حكم من أكل في نهار رمضان ناسيًا، وما نقل عن مالك من أنه يفطر وعليه القضاء يقول: “وعند غير مالك ليس بمفطر، كل من أكل ناسيًا لصومه، قلت: وهو الصحيح وبه قال الجمهور: إن من أكل أو شرب ناسيًا؛ فلا قضاء عليه، وأن صومه تام؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا؛ فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه، ولا قضاء عليه)).

ويرد القرطبي على الفرق؛ فيرد على المعتزلة والقدرية والروافض والفلاسفة، وغلاة الصوفية ولكن بأسلوب مهذب كذلك، ويدفعه الإنصاف إلى الدفاع عمن يهاجمهم ابن العربي من المخالفين أحيانًا، ويلومه على ما يصدر منه من عبارات قاسية على علماء المسلمين، وحين ينقد يكون نقده نزيهًا، في أدب وعفة، رحمه الله، تبارك وتعالى.

وقد كان كتاب (الجامع لأحكام القرآن) مفقودًا من المكتبات حتى قامت دار الكتب المصرية بطبعه أخيرًا؛ فيسرت الحصول عليه للقارئين، ثم طبع بعد ذلك طبعات مختلفة متعددة. هذه بعض نماذج من كتب تفسير الفقهاء.

error: النص محمي !!