تفسير (روح المعاني) كنموذج لكتب التفسير بالرأي
من كتب التفسير بالرأي (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني).
ترجمة المؤلف: هو أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الألوسي البغدادي، ولد في سنة 1217 من الهجرة النبوية، في جانب الكَرخ من بغداد، كان -رحمه الله- شيخَ العلماء في العراق، وآيةً من آيات الله العظام، ونادرةً من نوادر الأيام. جمع كثيرًا من العلوم حتى أصبح علّامة في المعقول والمنقول -يعني: في التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي- فَهامة في الفروع والأصول محدثًا لا يُجارَى، ومفسرًا لكتاب الله لا يبارَى، أخذ العلمَ عن فحول العلماء منهم والده، والشيخ خالد النقشبندي، والشيخ علي السويدي.
أعماله: اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنةً، ودرس في عدة مدارس، وقد تتلمذ له وأخذ عنه خلقٌ كثير من قاصي البلاد ودانيها، وقد أملى كثيرًا من الخطب والرسائل والفتاوَى والمسائل، ولكن أكثر ذلك لم تظفر الأيدي منه إلا بالقليل، قُلّد إفتاء الحنفية في السنة الثامنة والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة النبوية.
وفي شوال سنة 1263 هجرية انفصل من منصب الإفتاء، وبقي مشتغلًا بتفسير القرآن الكريم حتى أتمّه، ثم سافرَ إلى القسطنطينية في السنة السابعة والستين بعد المائتين والألف، فعرَض تفسيرَه على السلطان عبد المجيد خان، وكان -رحمه الله- عالمًا باختلاف المذاهب، مُطّلعًا على الملل والنحل، سلفي الاعتقاد، شافعي المذهب، إلا أنه في كثيرٍ من المسائل يقلّد الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان.
مؤلفاته: لقد خلف الألوسي -رحمه الله- للناس ثروة علمية كبيرةً ونافعةً، فَمِن ذلك تفسيره لكتاب الله -وهو الذي نحن بصدده الآن- وحاشيته على القطر، كتب منها في الشباب إلى موضع الحال، وبعد وفاته أتمها ابنه السيد نعمان الألوسي، وشرَح (السلم في المنطق) وقد فُقد، ومنها (الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية) و(الأجوبة العراقية على الأسئلة الإيرانية) و(درة الغواص في أوهام الخواص) و(النفحات القدسية في المباحث الإمامية) و(الفوائد السنية في علم آداب البحث).
وفاته: توفي -رحمه الله- في يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1270 هجرية، ودُفِنَ مع أهله الشيخ في مقبرة الشيخ معروف الكرخي في الكرخ رضي الله عنه.
التعريف بهذا التفسير، وطريقة مؤلفه فيه:
هذا التفسير يجمع مؤلفه فيه بين الرواية والدراية -يعني: بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي- مشتملًا على أقوال الخلف بكل أمانة وعنايةً، ثم جامع لخلاصة كل ما سبقه من التفاسير، فتراه ينقل لك عن (تفسير ابن عطية)، و(تفسير أبي حيان) و(تفسير الكشاف) و(تفسير أبي السعود) و(تفسير البيضاوي) و(تفسير الفخر الرازي) وغيرهما من كتب التفسير المعتبرة، وهو إذا نقل عن (تفسير أبي السعود) يقول غالبًا: قال شيخ الإسلام، وإذا نقل عن (تفسير البيضاوي) يقول غالبًا: قال القاضي، وإذا نقل عن (تفسير الفخر الرازي) يقول غالبًا: قال الإمام. وهو إذ ينقل عن هذه التفاسير ينصّب نفسه حكمًا عدلًا بينها، ويجعل من نفسه نقّادًا مدققًا، ثم يُبدي رأيه حرًّا فيما ينقل، فتراه كثيرًا يعترض على ما ينقله عن أبي السعود أو عن البيضاوي أو عن أبي حيان أو عن غيرهم، كما تراه يتعقب الفخر الرازي في كثير من المسائل، ويرد عليه على الخصوص في بعض المسائل الفقهية؛ انتصارًا منه لمذهب أبي حنيفة، ثم إنه إذا استصوب رأيًا لبعض من ينقل عنهم انتصر له ورجحه على ما عداه.
موقف الألوسي من المخالفين لأهل السنة:
الألوسي سلفي المذهب سني العقيدة؛ ولهذا تراه كثيرًا ما يفنِّد آراء المعتزلة والشيعة وغيرهم من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهبه.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى: {اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [البقرة: 15].
يقول بعد كلام طويل ما نصه: وإضافته -أي: الطغيان إليه-؛ لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرتهم المؤثرة بإذن الله تعالى، فالاختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا الاعتبار، لا باعتبار المحلية والاتصاف، فإنه معلوم لا حاجةَ فيه إلى الإضافة، ولا باعتبار الإيجاد؛ استقلالًا من غير توقف على إذن الفعال لِمَا يريد، فإنه اعتبار عليه غبار، بل غبارٌ ليس له اعتبار، فلا تفزع من جعجعة الزمخشري وقعقعته.
وانظر إلى ما كتبه قبل ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيم} [البقرة: 7] تجده يطيل بما لا يتسع لذكره المقام هنا من بيان إسناد الختم إليه عز وجل على مذهب أهل السنة، ومن ذكر ما ذهب إليه المعتزلة في هذه الآية، وما رد به عليهم، وفنّد به تأويلهم الذي يتفق مع مذهبهم الاعتزالي.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِين} [الجمعة: 11].
يقول ما نصه: وطعن الشيعة لهذه الآية في الصحابة رضي الله عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم، حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة، ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل من كثير من العبادات، لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى أن ذلك قد وقع مرارًا منهم، وفيه أن كبار الصحابة -كأبي بكر وعمر، وسائر العشرة المبشرة بالجنة- لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم يتحلّون بآداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فخافوا أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يُقتات به لو لم ينفضوا؛ ولذا لم يتوعدهم الله على ذلك بالنار أو نحوها، بل قصارى ما فعله سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم.
ورواية أن ذلك وقع منهم مرارًا، إن أريد بها رواية البيهقي في (شعب الإيمان) عن مقاتل بن حبان أنه قال: بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يُلتفت إليه، ولا يعوّل عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبِينْ وليثبت صحتها، وأنَّى بذلك!! ومن جملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم، وقد عقبها منهم عبادات لا تُحصى، الطعن فيهم بسبب ذلك سفهٌ ظاهر، وجهل وافر.
الألوسي والمسائل الكونية:
مما نلاحظه على الألوسي في تفسيره: أنه يستطرد إلى الكلام في الأمور الكونية، ويذكر كلام أهل الهيئة وأهل الحكمة، ويقر منهم ما يرتضيه ويفنِّد ما لا يرتضيه، وإن أردت مثالًا جامعًا فارجع إليه عند تفسيره قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون} [يس: 38- 40].
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] فسترى منه توسعًا في هذه الناحية.
كثرة استطراده في المسائل النحوية:
كذلك يستطرد الألوسي إلى الكلام في الصناعة النحوية، ويتوسع في ذلك أحيانًا إلى حد يكاد يخرج به عن وصف كونه مفسّرًا.
يقول الذهبي في (التفسير والمفسرون): ولا أحيلك على نقطة بعينها، فإنه لا يكاد يخلو موضع من الكتاب من ذلك.
موقفه من المسائل الفقهية:
أيضًا تجده إذا تكلم عن آيات الأحكام فلا يمر عليها إلا إذا استوفَى مذاهب الفقهاء وأدلتهم، مع عدم تعصب منه لمذهب بعينه.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِين} [البقرة: 236].
يقول ما نصه: قال الإمام مالك: المحسنون المتطوعون، وبذلك استدل على استحباب المتعة، وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب، وعندنا -أي: الأحناف، هكذا يتكلم الألوسي؛ لأنه يميل إلى رأي الأحناف- هي واجبة للمطلقات في آية ومستحبة لسائر المطلقات، وعند الشافعي رضي الله عنه في أحد قوليه: هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمَّى لها وطلقت قبل الدخول.
ولما لم يساعده مفهوم الآية، ولم يعتبر العمومَ في قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]؛ لأنه يحمل المطلق على المقيد، قال بالقياس، وجعله مقدمًا على المفهوم؛ لأنه من الحجج القطعية دونه.
وأجيب عما قاله مالك بمنع قصر المحسن على المتطوع، بل هو أعم منه ومن القائم بالواجبات، فلا ينافي الوجوب، فلا يكون صارفًا للأمر عنه مع مَن انضم إليه من لفظ “حقًّا”.
وإذا أردت أن تتأكد من أن الألوسي غير متعصب لمذهب بعينه، فارجِع إلى البحث الذي أفاض فيه عند تفسيره لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] تجده بعد أن يذكر مذهب الشافعية ومذهبَ الحنفية، وأدلةَ كل منهم، ومناقشاتهم، يقول: وبالجملة كلام الشافعية في هذا المقام قوي، كما لا يخفى على مَن أحاط بأطراف كلامهم، واستقرأ ما قالوه، تأمل ما دفعوا به من أدلة مخالفيهم.
موقفه من الإسرائيليات:
ومما نلاحظ على الألوسي أنه شديد النقد للإسرائيليات والأخبار المكذوبة، التي حشا بها كثيرٌ من المفسرين تفاسيرَهم، وظنوها صحيحةً مع سخرية منه أحيانًا.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] نجده يقص علينا قصةً عجيبةً عن “عَوَج بن علَق”، يرويها عن البغوي ولكنه بعد الفراغ منها يقول ما نصه:
وأقول: قد شاع أمر “عوج” عند العامة ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفي (فتاوى العلامة ابن حجر) قال الحافظ العماد ابن كثير: قصة “عوج” وجميع ما يحكون عنه هَذَيان لا أصلَ له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام ولم يُسلم من الكفار أحد. وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعًا: أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث “عوج بن علق” وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديثَ، وكذب على الله تعالى، إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره ولا يبين أمرَه. ثم قال: ولا ريبَ أن هذا وأمثاله من صنع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخريةَ بالرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام- وأتباعهم.
ثم مضى الألوسي في تفنيد هذه القصة بما حكاه عن غيره من تقدم من العلماء الذين استنكروا هذه القصة الخرافيةَ.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} [هود: 38] نجده يروي أخبارًا كثيرة في نَوْع الخشب الذي صُنعت منه السفينةُ، وفي مقدار طولها وعرضها وارتفاعها، وفي المكان الذي صنعت فيه، ثم يعقب على كل ذلك بقوله: وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها، إذ هي غير سالمة عن عيب، فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول، إنه يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه، ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها، ومن أي خشب كان صنعها؟ وبكم مدة أتم عملها؟ إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب، ولم تبينه السنة الصحيحة.
تعرضه للقراءات، والمناسبات، وأسباب النزول:
إن الألوسي يعرض لذكر القراءات لكنه لا يتقيد بالمتواتر منها، كما أنه يُعنَى بإظهار وجه المناسبات بين الصور، كما يعنَى بذكر المناسبات بين الآيات، ويذكر أسبابَ النزول للآيات التي أُنزلت على سبب، وهو كثير الاستشهاد بأشعار العرب على ما يذهب إليه من المعاني اللغوية.
الألوسي والتفسير الإشاري:
الألوسي يتكلم عن التفسير الإشاري بعد أن يفرغ من الكلام عن كل ما يتعلق بظاهر الآيات، ومن هنا عدّ بعض العلماء تفسيرَه هذا في ضمن كتب التفسير الإشاري كما عد (تفسير النيسابوري) في ضمنها كذلك.
يقول صاحب (التفسير والمفسرون): ولكني رأيت أن أجعلهما في كتب التفسير بالرأي المحمود؛ نظرًا إلى أنه لم يكن مقصودها الأهم هو المقصود الإشاري، بل كان ذلك تابعًا.
ثم يواصل الذهبي كلامه في هذا الكتاب يقول: كما يبدو لغيره من التفسير الظاهر، وهذه كما قلت من قبل مسألة اعتبارية لا أكثر ولا أقل، وإنما أردت أن أبين جهة الاعتبار.
ثم يواصل الذهبي كلامه ويقول: وجملة القول فـ(روح المعاني) للألوسي، ليس إلا موسوعة تفسيرية قيمة، جمعت جلَّ ما قاله علماء التفسير الذين تقدموا عليه مع النقد الحرّ.
والترجيح الذي يعتمد على قوة فيه، وصفاء القريحة، وهو إن كان يستطرد إلى نواحٍ علمية مختلفة مع توسع يكاد يخرجه عن مهمته كمفسّر، إلا أنه متزنٌ في كل ما يتكلم فيه، أيضًا يُشهد له بغزارة العلم على اختلاف نواحيه، وشمول الإحاطة بكل ما يتكلم فيه، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء.