تقسيم “الواجب” باعتبار إضافته إلى الوقت
ينقسم الواجب باعتبار إضافته إلى الوقت إلى:
أولًا: واجب مُطلق “غير مؤقّت”، وهو الواجب الذي لم يُحدِّد الشّارع وقتًا مُعيَّنًا لإيقاع ذلك الفِعْل. مثل: الكفّارات، والنّذور المُطْلَقة.
ثانيًا: واجب مُقيَّد “مُؤقَّت”، وهو الواجب الذي حَدَّد الشّارع وقتًا مُعيَّنًا لأدائه. مثل: الصلوات الخمْس، وصوم رمضان.
والواجب المُؤقَّت له أقسام:
الأول: الواجب المُوسَّع: وهو ما طلَب الشّارع مِن المكلَّف فِعْله طلبًا جازمًا، وحدَّد له وقتًا يَسَعُه ويَسَع معه غيرَه مِن جِنسه، مثل: وقت صلاة الظُّهر.
الثاني: الواجب المضيَّق: وهو ما طلب الشارع مِن المكلَّف فِعْله، طلبًا جازمًا، وحدّّد له وقتًا يَسَعُه فقط، ولا يَسَع معه غيرَه مِن جنسه، مثل: صوم رمضان.
الثالث: الواجب ذو الشبهيْن: ويمثّل له بعض العلماء بالحجّ.
أقوال العلماء في الواجب الموسَّع:
اختلف العلماء -رحمهم الله- في إثبات الواجب الموسّع واعتباره، إلى قوليْن رئيسَيْن:
القول الأول: إثبات الواجب الموسَّع واعتباره، فيتعلّق الوجوب بأوّل الوقت مِن أوّله إلى آخِره. وهو قول الجمهور.
القول الثاني: إنكار الواجب الموسَّع. وهؤلاء لهم أقوال متعدِّدة، منها:
- أنَّ الوجوب يتعلّق بأوَّل الوقت، ونُسب للشافعية؛ وفيه نظر. وهذا -فيما يظهر- ليس له حقيقة في الواقع؛ بل هو زعْم لمجرّد الاحتمال، لقيام الإجماع على جواز التّأخير عن أوّل الوقت.
- أنّ الوجوب يتعلّق بآخر الوقت. وهو قول جمهور العراقيّين مِن الحنفيّة.
- أنّ الوجوب يتعلّق بآخر الوقت، غيْر أنّه إذا فُعل في أوّل الوقت فهو موقوف على ما يظهر مِن حاله في آخر الوقت. وهو قول الكرخي.
أدلّة الجمهور:
الدليل الأول: قوله تعالى: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78].
وجْه الدّلالة: الأمْر هنا عامّ يشمل جميع أجزاء الوقت، وقد حدّد بداية الوقت مِن دلوك الشمس، ونهايته بِغسَق الليل، ولا يوجد في الآية إشعار بتخصيص الفعل ببعض أجزاء الوقت؛ فيكون المكلَّف مُخيَّرًا في إيقاع الفعل في أيّ جزء مِن الوقت.
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن مواقيت الصلاة، فبقي مع النبي يوميْن، ((فصلّى النبي صلى الله عليه وسلم كلّ صلاة في وقتيْن، إلاّ المغرب، ثم قال له: الوقت ما بيْن هذيْن))، وفي رواية: ((وقت صلاتكم بيْن ما رأيتم)). وكذلك صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم في أوّل الوقت وآخِره، وقال: “الوقت بينهما”.
وجه الدّلالة: دلَّت هذه الأحاديث على أنّ الشّارع حدّد وقتًا للصلاة مِن كذا إلى كذا، وهذا الوقت له أوّل ووسَط وآخِر؛ فيكون المُكلَّف مُخيَّرًا في إيقاع الصلاة في أوّل الوقت أو وسَطه أو آخِره.
الدليل الثالث: إجماع السلف على أنّ مَن فَعَل الصلاة في أوّل الوقت ثم مات قبْل نهايته- فإنّه مؤدٍّ لفرْض الله عليه؛ وهذا لا يتحقّق إلاّ بالقول بأنّ وقت الواجب موسَّع.
الدليل الرابع: العقل يدل على إثبات الواجب الموسَّع.
أدلّة المُخالِفين للجمهور:
المذهب الأوّل: القائل بأنّ الوجوب يتعلّق بأوّل الوقت، لا يحتاج للاستدلال عليه؛ لأنه لا قائل به، مع مخالفته للإجماع.
المذهب الثاني: القائلون بأنّ الوجوب يتعلّق بآخر الوقت لهم أدلّة، منها:
الدليل الأوّل: حقيقة الواجب: ما يُعاقَب على تَرْكه، والصلاة لا يُعاقَب على ترْكها إلاّ إذا أضيفت إلى آخر الوقت؛ فيدلّ ذلك على أنّه هو الوقت الذي يتعلّق به الوجوب. فلو أضيفت لأوّل الوقت أو وسَطه، فإنّ المُكلَّف مُخيَّر بيْن الفِعل والتّرك؛ وهذا هو: “النّدب”.
وأجاب الجمهور عن دليلهم هذا بعدّة أجوبة.
الدليل الثاني: قالوا: انعقد الإجماع على أنّه لا يجوز تأخير الصلاة عن آخر الوقت مِن غيْر عُذر؛ وذلك يدلّ على وجوبها في آخر الوقت، لا في أوّله.
وقالوا: إنَّ مَن فعَلها في أوّل الوقت، فإنّه يكون فعْله نَدْبًا لكنّه يُسقط الفَرْض. وكذلك أثيب الفاعل في أوّل الوقت ثواب الفرْض، ولزمه أنْ ينوي بصلاة الفرض؛ قالوا: لأن مآلَ الفعل للفرضيّة، فيحتمل أن يكون فِعْلها كالزّكاة المعجّلة.
وأجاب الجمهور عن ذلك بعدّة أجوبة.
واستدل الفريق الثالث بالقياس على تعجيل الزّكاة.
الراجح، وثمرة الخلاف:
الراجح: هو قول الجمهور.
والخلاف معنويّ له ثمرة، من ذلك:
- الصّبيّ إذا صلّى في أوّل الوقت ثم بلَغ في آخِره، فهل تلزمه الإعادة؟
- إذا سافر المسافر في أوّل الوقت، فهل يَلْزمه الإتمام؟ وكذلك إذا حاضت المرأة في أوّل الوقت، هل يجب عليها القضاء؟
اشتراط العزم:
الأقوال:
القائلون بالواجب الموسَّع اختلفوا في مسألة أخرى: إذا ترك المُكلَّف الفِعْل في أوّل الوقت، فهل يحتاج إلى بدل، وهو العزم على الفِعل في الوقت الثّاني أوْ لا؟ خلاف على قوليْن:
القول الأول: أنّ مَن تَرَك الفِعْل في أوّل الوقت، فيُشترط أنْ يَعْزِم على الفِعل في ثاني الوقت. وهذا قول جمهور المُثبِتِين للواجب الموسَّع.
القول الثاني: مَن ترَك الفِعْل في أوّل الوقت، فلا يحتاج إلى بدَل وهو العزْم. وقال بهذا جماعة مِن علماء أصول الفقه، كإمام الحرميْن، وأبو الخطّاب الحنبلي، وغيرهم…
أدلّة الجمهور:
الدليل الأول: المُكلَّف مُخيَّر بيْن الفِعل في أوّل الوقت أو البَدل، وهذا البدل إمّا أن يكون العزْم على الفِعل في ثاني الوقت، أو يكون العزْم على التّرك، والثّاني مُحرَّم، ولا خلاص مِن اجتناب المُحرَّم إلا بالعزم على الفِعل في ثاني الوقت؛ وما لا خلاص عن الحرام إلا به يكون واجبًا.
الدليل الثاني: القياس على الواجب المُخيّر.
الدليل الثالث: لو لم نشترط العزْم للَزم مِن ذلك تَرْك الواجب بلا بدل؛ وهذا باطل لأنه يجعل الواجب غير واجب.
أدلّة النّافين للعزْم:
الدليل الأول: عموم الأدلّة النّقليّة المثبِتة للواجب الموسَّع، فهي لم تتعرّض لِذِكر العزْم؛ فإيجابه يكون زيادة لم يتعرّض لها النّصّ، فتكون تحكّمًا.
وأجيب عن هذا الاستدلال: بأنّ القول أنّ النّصّ لم يتعرّض لإثبات العزْم، هذا صحيح، لكنه أيضًا لم يتعرّض لنَفْيه؛ فنحن لم نثبت شيئًا نفاه النص، بل مفهوم النّصّ موافق لإثبات العزْم.
الدليل الثاني: مَن أخّر الواجب الموسَّع عن أوّل وقته إلى آخِر الوقت، لو غفل أو ذهل عن العزم ومات، لم يكن عاصيًا؛ ولو كان العزم واجبًا لعصى بتَرْكه.
وأجيب عن هذا: بأنّه لمْ يعْص؛ لأنّ الغافل غيْر مُكلَّف، إذ إنّه لا يفهم الخطاب حال غفْلته، فيكون معذورًا بذلك.
الرّاجح، ونوع الخلاف:
الرّاجح هو قول الجمهور، لقوّة ما استدلّوا به.
ونوع الخلاف لفظيّ، لاتفاق الفريقيْن على أنّ مَن لمْ يفعل في أوّل الوقت، يجب عليه أنْ يفعل في ثاني الوقت؛ لأنّ ذلك هو شأن المُكلَّف العاقل.
إذا أخَّر المُكلَّف الواجب الموسَّع عن أوّل الوقت مع ظنّ السلامة، فمات قبل أن يفعله، فهل يكون عاصيًا بذلك؟
مثال ذلك: لو مات بعد زوال الشمس ولم يُصلِّ الظهر، وقد بقي مدة وقت الظهر ما يتّسع لِفِعْلها أو أكثر.
اختلف العلماء في ذلك على قوليْن:
القول الأول: أنه لا يكون عاصيًا بذلك. وهذا مذهب الجمهور. ودليلهم: أنه فعَل ما أبيح له فِعْله، وهو: جواز التّأخير.
القول الثاني: أنه يموت عاصيًا. وقال بهذا جماعة مِن العلماء. ودليلهم: أنّه إنما جاز له التأخير عن أوّل الوقت بشرط سلامة العاقبة.
وأجيب عن استدلالهم هذا بعدّة أجوبة، منها:
- أنّ هذا خلاف إجماع السّلَف.
- أنّ شرط جواز التأخير بسلامة العاقبة مُحال؛ لأنّ العاقبة مستورة عن المُكلَّف ولا يعْلَمها إلاّ الله.
- من أخَّر الواجب الموسَّع عنْ أوّل وقته حتّى تضيّق عليه الوقت، ثم مات، فإنه يموت عاصيًا. مثاله: أن يُؤخّر صلاة الظهر حتى لمْ يبقَ مِن وقتها إلا أقلّ مِن أربع ركعات.
- إذا أخَّر الواجب الموسَّع عنْ أول الوقت، مع أنه غلب على ظنّه أنّه لا يعيش إلى آخر الوقت، فإنّه يكون عاصيًا. مثاله: شخص حُكم عليه بالقتل، وقيل له: سيتمّ القصاص بعد الزوال بنصف ساعة، فلم يصلِّ. وكذلك مثل امرأة مِن عادتها أن تحيض في أثناء الوقت.
- إذا أخَّر الواجب الموسَّع مع ظنّ وجود مانع، ثم تخلّف المانع، وفعل ذلك الواجب بعد ذلك في وقته المحدَّد له شرعًا، فهل يوصف الفِعل بأنه قضاء أو أداء.
خلاف على قوليْن: فعند الجمهور: هو أداء، وعند القاضي الباقلاني: قضاء.
والراجح: قول الجمهور، والنّزاع بيْن الفريقيْن لفظيّ.