تكامل الروايات
واختلاف التصوير لواقعة من صحابيين مع اتحاد المضمون ليس من قبيل الرواية بالمعنى؛ فكل منهما أصل في رواية الحديث، وبمجموع روايات الصحابة تتضح جوانب الموضوع، هذا إذا لم يظهر اختلافهما في اللفظ وأن أحدهما روى لفظًا بالمعنى.
والمقارنة بين روايات الصحابة للحديث الواحد تزيل كثيرًا من اللبس والتلبيس حول الرواية بالمعنى؛ ففي حديث “التيسير على المعسر” و”الرجل الذي أحرق نفسه؛ خوفًا من عقاب الله في الآخرة” يحدث أحد الرجلين حذيفة بن اليمان وأبو مسعود الأنصاري فيصدقه الآخر؛ مما يدل على التطابق أو عدم وجود اختلاف يعبأ به بين الروايتين، وظهر من المقارنة أن المحدِّث كان أبا مسعود الأنصاري، والمقر أو المصدق كان حذيفة بن اليمان، ثم قال عقبة بن عامر في رواية أخرى لحذيفة: ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وعقبة بن عمرو هو أبو مسعود الأنصاري، فتحدث حذيفة بالحديث مع زيادة تتصل بخروج الدجال، ومع اختلاف في بعض الألفاظ عن رواية أبي مسعود الأنصاري، مع اتحاد المضمون، وظهر أن رواية كل منهما تختلف عن الأخرى في السياق وتتحد في المضمون.
وفي حديث الشفاعة يروي الإمام مسلم عن محمد بن طريف أنه قال: حدثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا أبو مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة، وأبو مالك عن ربعي عن حذيفة؛ فذكر أبو مالك الأشجعي روايتين للحديث, إحداهما: عن أبي حازم عن أبي هريرة، والثانية: عن ربعي عن حذيفة، ثم ساق المتن؛ مما يدل على اتفاقهما، وفي آخره يقول الراوي: “والذي نفس أبي هريرة بيده؛ إن قعرَ جهنم لسبعون خريفًا”؛ فبين انفراد أبي هريرة بهذه الزيادة التي لم يذكرها حذيفة.
وبمتابعة أحاديث أبي هريرة وُجد أن أبا هريرة روى حديثًا عن هذه الزيادة؛ فاستحضر أبو هريرة هذه الزيادة ولم يستحضرها حذيفة فيما رواه أبو مالك الأشجعي عنهما في هذا الحديث، والزيادة -كما قلنا- ليست رواية بالمعنى؛ وإنما زيادة وعي بجانب من الحديث لا يتأثر به الحديث, لم تحصل لصحابي آخر.
ثم روى مسلم حديث الشفاعة في مكان آخر، فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، واتفقَا في سياق الحديث إلا ما يزيد أحدهما من الحرف بعد الحرف، قالا: حدثنا محمد بن بشر قال: حدثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة… فروى الحديثَ مطولًا؛ فلا يرِد في هذه الرواية ما ورد في حديث أبي هريرة وحذيفة من الإذن للرسول -صلى الله عليه وسلم- والمرور على الصراط؛ بل تذكر شفاعته -صلى الله عليه وسلم- في أمته؛ فيقال: ((يا محمد، أدخل الجنةَ من أمتك مَن لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاءُ الناس فيما سوى ذلك من الأبواب))؛ فالرواية الأولى عن أبي هريرة فيها زيادة الاتجاه، والرواية الثانية ليس فيها هذه الزيادة؛ وإنما زيادة أخرى واتجاه آخر في الرواية.
وروى مسلم حديث الشفاعة عن أنس -رضي الله عنه-, فذكر شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمته قال: ((فيقال: انطلق؛ فمن كان في قلبه مثقال حبة من بُرَّة أو شعيرة من إيمان، فأخرجه منها))؛ فاجتمعت روايات الصحابة في هذه الأحاديث على الاستشفاع بالأنبياء في الانصراف من المَحشر، وانفرد حديث حذيفة وأبي هريرة بالشفاعة في الانصراف من الموقف والمرور على الصراط، وانفرد حديث أبي هريرة الثاني بالشفاعة في دخول الجنة، وانفرد الباقي بالشفاعة في خروج العصاة من أمة محمد-صلى الله عليه وسلم- من النار.
وكل هذه الروايات في حديث الشفاعة مع الاختلاف في الإيجاز والإطناب، والانفراد ببعض الجوانب في بعض الروايات، وعدم ذكر تفاصيل تتصل بالأنبياء عند الاستشفاع بهم -تتفق في المضمون، وتجتمع في تناول كل تفاصيل الموضوع، وأيضًا في المرور على الصراط… كل ذلك ليس رواية بالمعنى؛ وإنما يروي كل واحد من الحادثة ما ثبت لديه وتحصل عنده من التحمل، وبمجموع الروايات يمكن استيفاء ما صدر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث، ويتحصل ذلك من مجموع الروايات؛ فليست الروايات متكررة, وإنما رواية واحدة وعى فيها كل الصحابة جوانبَ الموضوع؛ لكن بعضهم ذكر شيئًا، وذكر الآخر الشيء الآخرَ، ولا يوجد تناقض أو تعارض؛ وإنما تكامل وتعاون.
وشبيه بذلك: ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اختصاص أمته بيوم الجمعة, دون غيرهم من أتباع الأنبياء ممن عُرضت عليهم الجمعة فأبوها، وتبدلت لديهم بيوم تالٍ؛ فتختلف الروايات في الترتيب أو في بعض الألفاظ مع أن المضمون واحد.