تكذيبهم لما يرونه مخالفًا ما ثبت واعتمد من الحديث
انتقدوا في عصر الصحابة والتابعين المتن كما انتقدوا الإسناد؛ ليخلص الحديث الصافي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشددوا في المخالفة، فكانوا يكذبون ما يرونه مخالفًا لما ثبت واعتمد من الحديث، فإن كان الراوي ثقة عدلًا فالمراد بقولهم: “كذب”: أخطأ, وإن كان من أهل البدع أو متعمدًا للكذب فقولهم: “كذب” على أصله وحقيقته.
ودل استعمالهم لهذا اللفظ على شدته في الخطأ على تغليظهم في أمر الرواية, ونقل الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
روى ابن حبان بسنده عن عبد الله بن الصنابحي أنه قال: زعم أبو محمد أن الوتر واجب، فقال عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد، أشهد أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن -كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل جاء وليس له عند الله عهد؛ إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)).
وروى أبو داود بسنده عن جابر بن سمرة “أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب قائمًا، ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائمًا”، قال لسماك: فمن حدثك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة.
وروى أبو داود بسنده عن أبي مودود عمن سمع أبان بن عثمان يقول: سمعت عثمان -يعني: ابن عفان- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات -لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات -لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي)) قال: “فأصاب أبان بن عثمان الفالج، فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه فقال له: ما لك تنظر إلي! فوالله ما كذبت على عثمان، ولا كذب عثمان على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني غضبت، فنسيت أن أقولها”، فالرجل بمجرد ما ظهر على الراوي ما يخالف ما ورد في الحديث ظهر منه التكذيب أو الشك، فبين له الراوي السبب فيما حصل له، وأنه لم يستعمل ما في الحديث.
وروى الترمذي بسنده عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: إن نوفلًا البكالي يزعم أن موسى صاحب بني إسرائيل ليس بموسى صاحب الخضر! قال: كذب عدو الله، سمعت أُبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك)).
ومع أن نوفلًا نقل عن بني إسرائيل، فإن ما قاله معارض لما ثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فحكم ابن عباس بكذبه؛ لأن ظاهر رواية أُبي أن الوحي نزل على موسى عليه السلام, ولم يوجد ما يدل على نبوة هذا الرجل الذي تحدث عنه من بني إسرائيل.
وروى عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا عاصم، قال: “سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: قد كان القنوت. قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، فقال له عاصم: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت: بعد الركوع، فقال: كذب، إنما قنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الركوع شهرًا”، وذكر مناسبة ذلك في الدعاء على من غدر من الكفار.