تكليف الكفار بفروع الشريعة
قبْل ذِكْر أقوال العلماء في المسألة، لا بدّ مِن توضيح النّقاط التّالية:
- أجمع العلماء على: أنّ الكفّار مُخاطَبون بأصول الشّرائع، مِن: الإيمان، والإقرار بالنّبوّات، ونحو ذلك…
- اتّفق العلماء على: أنّ الكافر كالمسلم في الإتلاف، والجنايات، من حيث كونها أسبابًا للضّمان والعقوبات.
- ومحلّ الخلاف كان بينهم في: هل هُم مخاطبون بفُروع الشّرائع من: الصلاة، والزكاة، ونحو ذلك ممّا يكون الإيمان شرطًا في صحّتها أمْ لا؟
أقوال العلماء في المسألة:
اختلف العلماء في هذه المسألة إلى أقوال كثيرة، منها:
- أنّ الكفّار مخاطَبون بفروع الشّريعة مطلقًا -أي: بالأوامر والنّواهي-؛ وهو قول جمهور العلماء.
- أنّ الكفّار غيْر مُخاطَبِين بفروع الشّريعة مطلقًا. وهو قول جمهور الحنفيّة، وبعض المالكيّة، وبعض الشافعيّة، ورواية عن الإمام أحمد.
- أنّ الكفّار مُخاطَبون بالنّواهي دون الأوامر؛ وهو وجْه عند الشّافعية، ورواية عن الإمام أحمد.
- أنّهم مخاطَبون بالأوامر فقط.
- أنّ المُرتدّ مُخاطَب، دون الكافر الأصليّ.
- أنهم مُخاطَبون بما عدا الجهاد، لامتناع قِتالهم أنفسهم.
أدلّة القائلين بتكليف الكفّار بفروع الشّريعة مُطلقًا وهم الجمهور:
استدلّ الجمهور لمذهبهم بأدلّة كثيرة، منها:
الدليل الأول: أوامر الشّرع المُطلَقة؛ فهي عامّة تشمل جميع الخلْق. ومِن ذلك:
- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].
- قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
الدليل الثاني: النصوص الشّرعيّة التي ورد فيها الأمْر للكفّار بفروع الشريعة، ومِن ذلك:
- قوله تعالى عن المُشركين وهم في نار جهنم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدَّثر: 42-46].
وجْه الدّلالة: أنّ هذه الآيات بيّنَت سبب دخول هؤلاء الكفّار في النّار، بإخبارهم عن أنفسهم أنّ سبب دخولهم هو: ترك الصلاة، وترْك الإطعام، وهذه مِن فروع الشريعة، وقد عُوقبوا على تَرْكها، ممّا يدلّ على أنهم مُخاطَبون بها.
- قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6، 7].
وجْه الدّلالة: أنّ الوعيد وقَع على الكفّار بسبب الكُفْر بالآخرة، وعدم إيتاء الزكاة التي هي مِن فروع الشّريعة، ممّا يدلّ على أنّهم مخاطبون بتلك الفروع.
- قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31، 32].
وجْه الدّلالة: أن الله تعالى قد ذمّ الكفّار على تَرْكهم التصديق، والصلاة، كما ذمّهم على التكذيب والتّولّي، والتصديق والصلاة فرعان؛ فدلّ ذلك على أنّ الكفّار مُخاطَبون بفروع الشريعة.
- قوله تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68، 69].
وجْه الدّلالة: أنّ هذه الآيات دلّت على مضاعفة العذاب على مَن جمَع بيْن الكفر، والقتل بغير حق، والزنا؛ فثبت بذلك كونهم مُخاطبِين بالفروع، إذ عُوقبوا على فِعْل القتل بغير حق والزنا، وأنّ مَن جمع ذلك مع الكفر، ضوعف له العذاب؛ فيكون ذلك محظورًا عليه.
- قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة: 1-5].
وجْه الدّلالة: أن الله أمَر في هذه الآيات كُلًّا مِن المشركين وأهل الكتاب، بالتوحيد، وبعض الفروع، مثل: الصلاة والزكاة، مما يدلّ على أنهم مخاطبون بها.
الدليل الثالث: إجماع الأمّة على تفاوت الكفّار في عذاب جهنم. فمَن كفر فقط، ليس كمن كفر وقتل وسرق وزنى، بل عذابه أشدّ.
من أدلّة القائلين بِعَدم تكليف الكفّار بفروع الشريعة:
أولًا: قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، لمّا بَعَثه إلى اليمن: ((اُدْعُهُم إلى شهادة ألاّ إله إلا الله وأنّي رسول الله. فإنْ هُم أطاعوا لذلك، فأعْلِمْهم أنّ الله افترض عليهم خمْس صلوات في كلّ يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لذلك، فأعْلِمْهم أنّ الله افترض عليهم صدَقة في أموالهم، تُؤخَذ مِن أغنيائهم وتُرَدّ على فقرائهم)).
وجْه الدّلالة: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أمَر معاذًا أنْ يبدأ بالدّعوة إلى الإيمان، ثم إنْ هم أجابوه لذلك فيأْمرهم بالفروع؛ فالأمر بالفروع مُختصّ بتقدير الإجابة، وعند عدمها فلا.
وأجيب عن وجْه الاستدلال: بأنه ليس في الحديث دلالة على عدَم تكليفهم بالفروع؛ بل الترتيب في الحديث إنّما هو مِن باب تقديم الأهمّ فالأهمّ.
ثانيًا: أنه لا معنى لوجوب الصلاة والزكاة مع استحالة فعْلها في حال الكفْر، وانتفاء وجوب قضائها لو أسلم؛ فكيف يجِب ما لا يمكن امتثاله أداءً ولا قضاءً.
وأجيب عن هذا الدّليل: بأنها وجبَت عليه حتى لو مات عوقب على تَرْكها، لكن إذا أسلم عُفِي له عمّا سلف؛ لأنّ الإسلام يجبُّ ما قبْله.
ولا يَبْعد نسْخ الأمْر قبل التمكّن مِن الامتثال، فكيف يَبعد سقوط الوجوب بالإسلام؟
فائدة الخِلاف في هذه المسألة:
ذهب بعض العلماء إلى: أنّ الخلاف في هذه المسألة لا يظهر له ثمرة في الدنيا، وإنما تظهر ثمرته في الآخرة بمضاعفة العذاب.
وذهب آخرون -وهو الصحيح- إلى أنّ للخلاف أثرًا في الدنيا والآخرة: أمّا في الآخرة فممّا تقدم مِن مضاعفة العذاب.
وأمّا في الدنيا فمِن وجهَيْن:
الأول: أنّ الكافر إذا عَلِم خطابه بالفروع، وأنّه يُثاب على ما فَعَله في حال كُفْره مِن حسنات إذا أسلم، وأنّ الإسلام يجُبُّ ما قبْله، فإنّ ذلك يكون سببًا في ترغيبه في الإسلام والإقدام عليه.
الثاني: يظهر أثَر ذلك في الفروع الفقهيّة التي بُنيَت على هذه المسألة، ومِن ذلك:
- نَذْر الكافر إذا نَذَره في حال كُفْره، ثم أسلم، فإنّه يلزمه الوفاء به إذا كان مِن نوْع القُرَب التي يَفْعَلها المسلمون؛ وهذا على القول بتكليفهم بالفروع، وقيل: لا يلزمه، بناءً على عدم تكليفه بالفروع.
- إذا قدِم المسلم المسافر في نهار رمضان، وقد أفطر، فهل يحلّ لامرأته الكتابيّة تمكينه مِن وطئها؟ إنْ قلنا: إنّهم مخاطبون، فلا يحلّ لها ذلك، وإنْ قيل بعدم الخطاب، فنعم.
- إذا تُوفّيَ المسلم عن كتابيّة، فهل تعتدّ كالمسلمة أربعة أشهر وعشرًا، أو تُستبْرَأ بثلاثة أقراء؟
على القول بخطاب الكفّار بالفروع، تعتدّ كالمسلمة أربعة أشهر وعشرًا.
وعلى القول بعدم الخطاب، تُستبرَأ بثلاثة أقراء.
- ظهار الذّمّي صحيح كطلاقه، على القَول بتكليف الكفّار بالفروع. وقيل: لا يصحّ، بناءً على أنه غيْر مُخاطَب بالفروع.
الأصْل الذي بُنيَتْ عليه مسألة تكليف الكفّار بالفروع:
يرى كثير مِن علماء أصول الفقه: أنّ الأصل الذي بُنيَتْ عليه مسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة هو: مسألة أصولية أخرى هي: حصول الشّرط الشّرعيّ: هل هو شرط في صحّة التكليف؟
فالشّرط الشّرعيّ -وهو الإيمان هنا- ليس شرطًا في صحّة التّكليف عند القائلين بتكليف الكفّار بالفروع؛ فلا يتوقّف التّكليف عليه، بل يجوز أن يُكلَّفوا بالفروع، بشرط تقدّم الإيمان، وإنْ لم يكن الإيمان موجودًا حال تكليفهم.
وقد أنكر بعض العلماء، كابن همّام الحنفي -رحمه الله- أن يكون النّزاع مبنيًّا على الأصل الذي تَقدّم ذِكْره، بل هو واقع ابتداءً في جواز التكليف بما شرط في صحته الإيمان حال عدم وجود الإيمان.