تكملة الكلام عن (مسند الطيالسي)
أما كتاب (مسند الطيالسي): فكتاب طيب ونافع ومفيد، ولا يستغني عنه باحث أو محدِّث، في مقدمة الكتاب بعد طبعته هذه الطبعة الشيقة التي عني بها الشيخ الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي؛ كتب مقدمة في “التمهيد عن المسانيد”، وكتب في إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف، ثم تحدث عن قيمة الكتاب العلمية، فقال:
أولًا: تمهيد عن المسانيد:
قال: تعريف المسند لغةً: قال ابن فارس: سند “السين والنون والدال” أصل واحد يدل على انضمام الشيء إلى الشيء، يقال: أسندت إلى الشيء أسند سنودًا، واستند استنادًا، وأسندتُ غيري إسنادًا، والسند والمسند: تطلق على معانٍ ترجع في جملتها إلى ما قاله ابن فارس: انضمام الشيء إلى الشيء، ومن معانيها: المعتمد، يقال: فلان سند، أي: معتمد، والرقي والارتفاع، يقال: سند في الخمسين، أي: رقي، ويقال: أسند الحديث، أي: رفعه إلى قائله.
وهذه المعاني منظورة في تسمية المسند الاصطلاحية: فهو انضمام رجل إلى رجل ليكون سلسلة توصل إلى المتن، وهو معتمد المتن الذي لا يقوم إلا به، وهو الذي يرفع من خلاله الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما تعريف المسند في الاصطلاح: فيطلق على معانٍ منها: ما اتصل سنده مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي جمعت فيه أحاديث كل صحابي على حدة، والمراد هنا: التعريف الثاني: أي: الكتاب الذي جمعت فيه أحاديث كل صحابي بأسانيدها على حدة، من غير نظر إلى موضوعات الأحاديث وأبوابها.
وهذه المسانيد لا تلتزم طريقةً واحدةً في ترتيب مسانيد الصحابة داخلها، ولا في ترتيب الأحاديث في داخل مسند الصحابي؛ بل لكل إمام طريقته، إلا أنهم غالبًا ما يراعون الأفضلية؛ لا سيما الخلفاء الأربعة وبقية العشرة؛ فيبدءون بهم، وقد يرتبون أحاديث المكثرين منهم على حسب من روى عنهم، كما فعل المصنف، أو على أبواب الفقه؛ كما صنع بقي بن مخلد في كتابه (مسند ومصنف).
وقد ذكر ابن الصلاح وغيره أن كتب المسانيد أقل رتبةً من كتب السنن؛ لأن أصحاب السنن ينتقون أصح ما في الباب في نظرهم، بخلاف صاحب المسند الذي يخرج في مسند الصحابي كل ما رواه من حديثه، وتعقب ذلك البقاعي، وأنه لا يُسلِّم به طردًا ولا عكسًا؛ فإنه قد ينتقي صاحب المسند فلا يذكر إلا مقبولًا -كما صنع الإمام أحمد- وهي مسألة قليلة الجدوى؛ إذ لا يترتب عليها من الناحية العملية شيء؛ ولا يتأتى لباحث أن يحكم على حديث في السنن ولا في المسانيد ما لم يدرس إسناده ويتبين حاله.
والكتب المؤلفة في المسانيد كثيرة جدًّا؛ فقد أورد الكتاني في رسالته -أي: في (الرسالة المستطرفة)- أكثر من ثمانين مسندًا، ثم قال: والمسانيد كثيرة سوى ما ذكرناه.
وكانت المصنفات قبل المسانيد مرتبة على الأبواب؛ لكنها تشمل المرفوع والموقوف والمقطوع؛ فرأى بعض الأئمة أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين؛ فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندًا، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسندًا، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم؛ فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد.
واختلف أهل العلم في أول مَن صنف المسند، وهي دائرة بين ستة من الحفاظ: أحدهم: الطيالسي، وهو أقدمهم وفاة؛ ولكونه ليس من تصنيفه؛ وإنما هو من جمع بعض الخرسانيين لِمَا رواه يونس بن حبيب عنه؛ فقد استبعده بعض أهل العلم من هذه المسألة.
نسبة (المسند) إلى الطيالسي:
هذا الكتاب كل الشواهد تدل على أنه للطيالسي لأمور:
1. وجود سند رواية الكتاب في بداية النسخ إلى الطيالسي، وهذا السند متصل برواية الثقات الأثبات بالسماع الصحيح.
2. السماعات الكثيرة الموثقة الموجودة على نهاية كل جزء.
3. رواية الأئمة لأحاديث الطيالسي من طريق يونس بن حبيب، وقد تقدمت الإشارة إلى أن (مسند الطيالسي) ليس من تصنيفه؛ بل هو عدة مجالس سمعه يونس بن حبيب منه صنفها يونس أبو مسعود الرازي -كما قال أبو نعيم- وقال الذهبي: سمع يونس بن حبيب عدة مجالس متفرقة؛ فهي (المسند) الذي وقع لنا؛ فـ(المسند) جزء يسير من أحاديث أبي داود الطيالسي؛ إذ أن أحاديثه في هذه الطبعة بلغت 2890 حديثًا؛ بينما أبو داود قد حَدَّث في خراسان -كما سبق- بمائة ألف حديث، ومما ينبه عليه هنا أن (المسند) حَوَى روايات من رواية يونس بن حبيب عن غير الطيالسي، وهي قليلة.
قيمة الكتاب العلمية:
تبرز قيمة كتاب مسند أبي داود الطيالسي، وأهميته كمصدر من مصادر السنة النبوية، وأصل من أصولها بمعرفة مكانة مؤلفه، واعتماد الأئمة على الكتاب، وخدمتهم له.
وقد امتاز كتاب الطيالسي بتخريج مسانيد كثيرة، تفرد لصحابةٍ ليسوا عند الإمام أحمد مثل مسند أذينة، وبشر بن حزم، وثعلبة بن الحكم الليثي، وثعلبة بن زهدم، وثعلبة بن الضحاك، وغيرهم، ثم إن المكرر في أحاديثه قليل جدًّا؛ أما المكرر في (مسند الإمام أحمد) فكثير؛ إذ (مسند الإمام أحمد) -كما سنتحدث عنه- ثلاثون ألف حديث تقريبًا؛ بالمكرر يصل إلى أربعين ألف حديث تقريبًا.
أما اعتماد الأئمة على (مسند الطيالسي):
فيظهر من خلال روايتهم لأحاديثه في كتبهم، كما فعل البيهقي وابن عدي وأبو نعيم والطحاوي والطبراني وغيرهم، وأظن أن البيهقي قد استوعب (المسند) أو أكثره في كتبه.
واستفادة أهل العلم من الكتاب ظاهرة، سواء في كتب الحديث أو التفسير أو الشروح أو التراجم؛ ولأجل هذه المكانة الجليلة لهذا الكتاب فقد تنوعت خدمة أهل العلم له، ومن ذلك أنهم استخرجوا زوائدَه ورتبوه على الأبواب الفقهية، واستخرجوا ثلاثياته:
استخرجوا زوائده، أي: ما زاده من الأحاديث على الكتب الستة؛ ولذلك فوائد معروفة، ومن الكتب التي ألفت في هذا: (إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة) للحافظ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن سليم البوصيري، المتوفى سنة 840 هجرية، استخرج مؤلفه فيه زوائد مسانيد أبي داود الطيالسي، ومسدد، والحميدي، وابن أبي عمر المدني، وإسحاق بن راهويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، وعبد بن حميد، والحارث بن محمد بن أبي أسامة و(المسند الكبير) لأبي يعلى مع زيادات من (مسند أحمد) والبزار و(صحيح بن حبان) و(معلقات البخاري) و(مراسيل أبي داود) و(شمائل الترمذي) و(السنن الكبرى) للنسائي، بما في ذلك (عمل اليوم والليلة) وبيَّن درجات الأحاديث غالبًا، ورتبه على أبواب الجوامع مبتدئًا بالإيمان ومنتهيًا بصفة الجنة، وألفه مصنفه مشتملًا على الأسانيد، ثم جرده بكتاب آخر سماه: (مختصر إتحاف السادة المهرة).
– كتاب (المطالب العالية لزوائد المسانيد الثمانية) للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852 هجرية، استخرج في مؤلفه الزوائد على الكتب الستة، و(مسند أحمد) في مسانيد أبي داود الطيالسي، والحميدي، وابن أبي عمر، ومسدد، وأحمد بن منيع، وأبي بكر بن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والحارث بن أبي أسامة، وأضاف إليه زوائد النسخة الكبرى من (مسند أبي يعلى)؛ واستخراج الهيثمي زوائد الرواية الصغرى، وما وقف عليه (مسند إسحاق بن راهويه)، وأضاف كذلك زوائد من مسانيد أخرى، ورتبه على الأبواب مبتدئًا بالطهارة ومنتهيًا بكتاب الحشر، وبيَّن شرطه فيه؛ فقال: أذكر فيه كل حديث ورد عن صحابي لم يخرِّجه أصحاب الأصول السبعة من حديثه، ولو خرجوه أو بعضهم من حديث غيره مع التنبيه عليه، ولم يحكم على الأحاديث إلا نادرًا.
والكتاب له نسختان: إحداهما مذكورة من أحاديث وبأسانيد أصحاب المسانيد، وتعرف بالنسخة المسندة، والأخرى مختصرة بدون ذكر الأسانيد إلى الصحابي، والكتاب مطبوع ومتداول.
ومن الاهتمام بمسند الطيالسي:
هناك من العلماء من رتبه على طريقة (تحفة الأشراف) للمزي، وهي طريقة معروفة، ولها فوائد مشهورة، ومن الكتب التي خدمت (مسند الطيالسي) بهذه الطريقة: (أطراف المسانيد العشرة) للحافظ البوصيري، جمع فيها أطراف مسانيد: أبي داود الطيالسي، والحميدي، ومسدد، والمدني، وإسحاق، وأبي بكر بن أبي شيبة، وابن منيع، وعبد بن حميد، والحارث بن أبي أسامة، وأبو يعلى الموصلي.
وهناك من رتب (مسند أبي داود الطيالسي) على الأبواب الفقهية؛ فعل ذلك الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، الشهير بالساعاتي، رتب (مسند أبي داود الطيالسي) في كتاب سماه (منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود)، ذكر في مقدمته أنه رتبه كما فعل في ترتيب (مسند الإمام أحمد) -رحمه الله تعالى- المسمى بـ(الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني)، وجعله سبعةَ أقسام، مبتدئًا بقسم التوحيد وأصول الدين، ثم الترغيب، ثم الترهيب، ثم التاريخ، ثم علامات الساعة، والفتن، والقيامة، وأحوال الآخرة، وكل قسم من هذه الأقسام يشتمل على جملة كتب، وكل كتاب يندرج تحته عدة أبواب، وفي تراجم الأبواب ما يدل على مغزى أحاديث الباب، وهو يذكر الأحاديث بأسانيدها، وعلق عليها تعليقات يسيرة جدًّا.
ويؤخذ على الشيخ البنا -رحمه الله- في عمله هذا: أنه اعتمد على مطبوعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد بالهند، وهي مليئة بالأغلاط والتصحيفات والسقط، ثم أنه أراد أن يسدد ما وقع في المطبوعة من سقوط ثمانية مسانيد؛ لأنها ليست في النسختين اللتين اعتمدوا عليهما بأخذها من (مسند أحمد) ووضعها فيه.
ومن خدمات الكتاب: استخراج ثلاثياته، أي: الأحاديث التي عدد الرواة فيها بين المصنف وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رواة فقط، وقد وجدت كتابًا استخرج فيه ثلاثيات (مسند أبي داود) لمؤلف مجهول -يقول ذلك محقق الكتاب- بسبب نقص النسخة من أولها؛ حيث إن الموجود منه يبدأ من منتصف مسند أنس بن مالك تقريبًا، وأول حديث فيه هو الحديث رقم 2184، وقد ذكر في السماعات المثبتة بآخر النسخة: أن الكتاب يقع في أربعة أجزاء، وسماع المذكورين في الطبقة كان سنة 919 هجرية، وهذا الكتاب ضمن مجموع في الخزانة العامة بالرباط، ومنه صورة فيلمية في قسم المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود برقم 6438.
المطبوع من (المسند):
طبع (مسند الطيالسي) منذ ما يقرب من مائة عام في مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد بالهند؛ إلا أنها طبعة سيئة، مليئة بالأخطاء والسقط والتصحيف، وقد اعتمد طابعوها على النسخة الآصافية يرمز إليها بـ”ص”، وهي نسخة سيئة، وفي أثناء عملهم عثروا على نسخة هدابخاش؛ فاعتمدوها، وأثبتوا جدولًا في أخر الكتاب بفروق القدر المنتهى منه قبل العثور عليها، ورمز للمطبوعة بـ”م”.
ما جاء عن أبي داود الطيالسي وعن مؤلفاته في كتاب (تاريخ التراث العربي) تأليف الدكتور فؤاد سيزكين:
أبو داود الطيالسي:
هو أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي، ولد في البصرة سنة 133 هجرية الموافق 750 ميلادية، سمع سفيان الثوري وشعبة وغيرهما، وروى عنه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وغيرهما، وكان يفاخر بقوة حافظته، وبقدرته على الإملاء دون استخدام أصول مدونة، الأمر الذي أدى إلى حدوث بعض الأخطاء. وتوفي سنة 203 هجرية أو 204 هجرية، و204 هو أرجح الأقوال، وهذا يوافق 818 ميلادية.
ومصادر ترجمته كثيرة: ترجم له ابن سعد في (الطبقات)، وترجم له البخاري في (التاريخ الكبير)، وترجم له ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل)، وترجم له الخطيب البغدادي في كتاب (تاريخ بغداد) وغير ذلك كثير.
آثاره كثيرة أهمها (المسند)، رواه أبو بشر يونس بن حبيب، وهو مخطوط في مكاتب كثيرة؛ ولكن أذن الحق سبحانه وتعالى له بهذه الطبعة التي بين أيدينا، وهي طبعة جيدة، وسبقها طبعة بالهند منذ أكثر من مائة عام في حيدر آباد؛ لكنها سيئة؛ أما الطبعة الأخيرة فهي جيدة جدًّا.