Top
Image Alt

تولية أبي بكر الخلافة، إنفاذ جيش أسامة، وإخضاع المرتدين

  /  تولية أبي بكر الخلافة، إنفاذ جيش أسامة، وإخضاع المرتدين

تولية أبي بكر الخلافة، إنفاذ جيش أسامة، وإخضاع المرتدين

أ. تولي أبي بكر الخلافة:

كنا قد تحدثنا عن سقيفة بني ساعدة وما تمَّ فيها، والبيعة الصغرى لأبي بكر الصديق في السقيفة، وفي اليوم التالي لهذه البيعة، تمت البيعة الكبرى أو العامة في المسجد، حيث اجتمعت جماعة المسلمين، وأهل الحَل والعقد فيهم، وقاموا كلهم بمبايعة أبي بكر الصديق على الخلافة، وبهذه الصورة تمت البيعة العامة لأبي بكر الصديق.

قام أبو بكر الصديق بإلقاء خطبة نستطيع أن نعتبرها “خطبة الحكم”، ومن الواضح أن هذه السنة قد صنعها الصديق، وصارت بعد ذلك سنةً لكل من يتولي أمور الحكم في حياة الناس.

يعنينا في هذه الخطبة أن نعرض لها، وأن نقف أمام بعض النقاط فيها، التي تعتبر علامات بارزة في طريق الإسلام، والحضارة الإسلامية، ونُظُم الحكم في الإسلام.

نص الخطبة يقول: “يا أيها الناس، إني وُليت عليكم ولست بخيركم، فإنْ أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، إن شاء الله، لا يدع أحد منكم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عَمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعةَ لي عليكم”.

أهم المحاور في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله  عنه:

المحور الأول: قوله: “إني وليت عليكم ولست بخيركم”:

ما أعظمَ هذه البداية في بداية حكم أي شخص، حين يبدأ الحاكم عهده مع الناس بانتزاع أي وهم من صدورهم، يمكن أن يجعلهم يضعون الحاكمَ فوق قدره، أو في مستوًى أعلى من مستواهم، فها هو الصديق يوضح لهم أن الحكم لن يرفعه عليهم، إنَّما الحكم في رأي الصديق خدمة عامة، إنَّه وظيفة لا استعلاء، إنَّه ولاية للشعب بأمر الشعب، لا غطرسة ولا استبداد، إنه ليس بخيرهم وهو واليهم؛ لأنَّه حاكم يريد شعبًا حرًّا عزيزًا كريمًا، يريد أن يعرف الناس أن حاكمهم ليس متميزًا عنهم، تولى أمرهم ليدير حركة حياتهم بما ينفعهم في دُنياهم وأخراهم.

المحور الثاني: قوله: “إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني”:

هذه مبادئ عظيمة، وهذا هو الصديق يضع أول دستور للرعية، عندما يقوم حاكم من غير الأنبياء والرسل بحكم البشر، يطلب منهم أن يعينوه على حكمهم إن أحسن، وأن يقوموه إذا أساء، إن الصديق رضي الله  عنه يجعل محاسبة الشعب للحاكم مبدأً أساسيًّا من مبادئ الحكم الإسلامي، وحكم الشعب لهذا الحاكم له أو عليه دستور واجب النفاذ.

قد يعتقد الكثيرون أن مراقبة الشعب لحاكمه مبدأ أقرته الديمقراطيات الحديثة، وليس موجودًا مثله في الإسلام، والواقع يخالف ذلك، فها هو الصديق في خُطبته يقر هذا المبدأ ويجعله أساسًا من أسس الحكم، ودستورًا من دساتير الإسلام، التي يجب على كل حاكم أن يلتزم بها وهو يحكم شعبه، لا يعرف العالم اليوم -وخاصةً الشباب المسلم- أن مثل هذا المبدأ الذي تحاول الديمقراطيات الحديثة أن تذكره وأن تتباهى به، أن أول مَن وضعه هو الصديق رضي الله  عنه وأن الصديقَ أبا بكر بهذه الصورة يعد صاحب أعظم برنامج سياسي، إنه فرد في الأمة وليست الأمة في فرد.

فهو يعرفهم بأنه ليس بأفضلهم، أو له من المنزلة ما يجعله فوق المساءلة، مبادئ عظيمة، وأفكار خطيرة، ليتنا اليوم نستدركها، وليتنا نتمعنها، وليت حكامنا يقومون عليها وبها.

المحور الثالث: قوله: “الصدق أمانة، والكذب خيانة”: ولا يخفَى مَن أولى بالصديق من الصدق، فهو أبو بكر الصديق، وهذا يجب أن يكون مع كل مؤمن؛ الصدق مع الله ومع رسوله، والصدق مع النفس، والصدق مع الأمة، عندما يحكم الأمة يكون صادقًا معها، وصادقًا فيها ولها.

ومثل هذه الأفكار هي أفكار عظيمة، ولكن الأعظم منها أن الصديق رضي الله  عنه نفَّذها بالفعل في حياته، وأقرها، وجعلها دستورًا يسير عليه، لم تكن كلماتٍ جوفاءَ يرددها وفقط. وعندما نعود إلى أرض الواقع، نفاجأ بأنه لا علاقة بين الكلمات وبين التنفيذ على أرض الواقع، إن عظمة الصديق في أنه أحال هذه الكلمات وهذه الأفكارَ من مجرد كلماتٍ وأفكار، إلى واقع ملموس تطبقه الأمة، وينفذه هو على نفسه وعلى جماعة المسلمين وعلى أهل بيته أول ما ينفذ.

فمثل هذه الأعمال لتدل أكبر دَلالة، وهي أعظم برهان على ما قاله الصديق.

المحور الرابع: قوله: “الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له”:

هذه هي سيادة القانون، هذا هو المبدأ الذي ينادي به المصلحون وغيرُهم، إنه مبدأ إعلاء الحق، ولن يكون الضعيفُ ضعيفًا في دولة الصديق إطلاقًا، سوف ينتصر له الصديق وسوف يرفع من ضعفه ليجعله قويًّا؛ حتى يأخذ الحق، كذلك فإن مَن يعتبر في نفسه القوة ويريد أن يتعالَى على جماعة المسلمين، فإنه سوف يجد من الصديق كل الزجر والنهي؛ لأنه لن يكون قويًّا في ظل حكم الصديق، ليس إذلالًا ولا إرهابًا؛ ولكن منعًا له مِن أن يذل الآخرين أو يرهبهم.

كذلك عرض الصديق لمبدأ آخر هو مبدأ أهمية الجهاد؛ ومن المعروف أن الجهاد له أهمية قصوى في الإسلام.

وكما قال الصديق: إنَّ الأمة التي تترك الجهاد وتستعيض عنه، تُضرب بالذل والهوان والمذلة، وتصير في أيدي الأمم لعبةً تتلاعب بها الأمم؛ لأنها تركت الجهاد، ولو أن الأمم عرفت أنها مقاتلة ومحاربة ليست مهاجمة، ولكنها على استعداد لأن تضحي بكل غالٍ ورخيص في سبيل دينها وعزتها كرامتها ، فإنَّ الأمم لن تفكر في الاعتداء عليها إطلاقًا.

ومن ثم تكون أهمية الجهاد ويكون مبدأ الجهاد، وإقرار هذا المبدأ في خطبة الصديق في مستهل حكمه لأمة محمد صلى الله عليه  وسلم.

المحور الخامس: قوله: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله”:

ربط الصديق طاعة الأمة له بطاعته لله، والعكس؛ هذا مبدأ عظيم وخطير، حيث ربط طاعة الأمة بحاكمها بطاعته لله ورسوله، وهذه هي الأمة الإسلامية الحقة، فإن عصى الله ورسوله فلا طاعةَ له في أعناق جماعة المسلمين وأمة المسلمين.

إنفاذ جيش أسامة:

لا يخفى أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم قد أعد العدة لجيش عظيم كان فيه كِبار الصحابة رضي الله  عنهم، واستعمل عليه أسامة بن زيد رضي الله  عنه وكان هذا قبل موت رسول الله صلى الله عليه  وسلم وكانت وجهة هذا الجيش هو بلاد الشام، ولكن الذي حدث أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم تُوفي، وهذا الجيش لم يكن قد تحرك بعدُ إلى هدفه الذي قرره له رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

في هذه الأثناء حدثت ردة العرب فترتب على ذلك أنَّ الآراء اختلفت وتباينت حول موضوع تحريك هذا الجيش، هل نحرك هذا الجيش لهذا الغرض، أم نتوقف ونأخذ فكرنا، ونعد خطة أخرى بناءً على المستجدات، التي استجدت في أرض الجزيرة العربية في تلك المرحلة؟

أي: إنه حدث كلام كثير، وجدال طويل بين جماعة المسلمين.

كان المسلمون في مدينة رسول الله صلى الله عليه  وسلم قلةً في تلك المرحلة، وفي تلك الفترة، وكانت حركات الردة قد كثُرت، وكثر المتنبئون من العرب، كما كثر مانعو الزكاة، وتخوف أهل المدينة من أن يكونوا عرضةً لهجوم هؤلاء وهؤلاء عليهم، ومن ثم نادوا بذلك الرأي وهو عدم إنفاذ جيش أسامة، وفي هذه الأثناء خطب الصديق خطبته وأعلن رأيه، والذي قال فيه: “لو تخطفتني السباع ما تأخرت عن إنفاذ هذا الجيش”، لا بد من أن أنفذه.

وأصدر الصديق أمره بهذا الجيش بأن يتجهز بهذه الوجهة، التي كان رسول الله صلى الله عليه  وسلم قد قررها قبل موته.

في هذه الأثناء بعث أسامة بن زيد عمرَ بن الخطاب لأبي بكر الصديق؛ ليخبره بتخوفه من أنه لو تحرك بالجيش فقد يكون هناك طامع يرغب في الاعتداء على مدينة رسول الله صلى الله عليه  وسلم، وظهرت آراء أخرى مثل أن بعض الأنصار طلبوا من عمر أن يقيل أسامةَ بنَ زيد، وأن يعين على قيادة الجيش مَن هو أسن منه، وحدث فعلًا أن عمر بن الخطاب رضي الله  عنه ذهب للصديق وطلب منه هذا الطلب، وحقيقةً فقد كان رد ورأي أبي بكر الصديق حاسمًا وجازمًا وقاطعًا، قال له: “ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، يستعمله رسول الله صلى الله عليه  وسلم وأعزله أنا، كيف يكون هذا!!”، وثق فيه رسول الله صلى الله عليه  وسلم ووضعه على رأس الجيش، وتطلب من أبي بكر الصديق أن يكسر رأيًا وأمرًا كان قد أمر به المصطفى في حياته وقبل موته، كيف يكون هذا؟! ولذلك استعجب الصديق من هذا الطلب من الفاروق عمر رضي الله  عنهم.

وفي هذه الأثناء طلب أبو بكر الصديق من أسامة -استأذنه- في أن يترك له عمر بن الخطاب.

وهنا حقيقةً يجب أن تكون لنا وقفة؛ لأن من المعروف أن عمر بن الخطاب كان بمثابة الوزير لأبي بكر الصديق، وإذا كان التاريخ قد ذكر لنا أن الصديق كان بمثابة الوزير لسيدنا رسول الله صلى الله عليه  وسلم، فقد مثَّل الفاروق حقيقة نفس هذه الوظيفة في حياة الصديق، حيث كان الفاروق يمثل وزيرًا لأبي بكر الصديق.

فالصديق طلب من أسامة أن يدع له الفاروق عمر بن الخطاب؛ حتى يكون معه في تلك الظروف الحرجة التي تمر بها مدينة رسول الله صلى الله عليه  وسلم، وحقيقة فإن أسامة لبَّى هذا الطلب لأبي بكر الصديق على الرحب والسعة، ومن ثم بدأ جيش أسامة في التحرك حتى يذهب إلى تلك الوجهة -وهي الشام- كما كان مقررًا رسولُ الله صلى الله عليه  وسلم.

خرج أبو بكر مع الجيش يودعه، وصار بجوار أسامة بن زيد، وكان أسامة يركب فرسه، وأبو بكر الصديق يسير على قدميه، فتحرج أسامة من هذا الموقف وهذا الوضع، وطلب من أبي بكر الصديق إما أن يركب وإما أن ينزل أسامة مِن على فرسه، واعتبر أن هذا ليس من سلوك الأدب أن يسير أسامة وهو يركب على فرسه، وأن يسير الصديق على قدميه، وهنا رد أبو بكر الصديق على أسامة، وقال له: “وما عليَّ أن أغبر قدمي ساعةً في سبيل الله”.

وهناك الكثير من الأحاديث العظيمة، التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه  وسلم في أمر المجاهدين ومَن يخرجوا للجهاد، وأن خطوات بسيطة منهم ترفعهم بمنزلة عظيمة في السماء وعند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الغدو أو الروح في سبيل الله يكون ثوابها عظيمًا، ويكون قدرها كبيرًا عند الله وعند رسوله، وخاصة يوم العرض ويوم الحساب.

وهنا عرض أبو بكر الصديق لوصاياه التي رأى أنه من الواجب أن يسلح بها الجيش قبل أن يتحرك هذا الجيش إلى غزواته، كانت كلمات عظيمة التي ذكرها الصديق لجيش أسامة قبل التحرك، نستطيع أن نعتبرها نِبراسًا وهدًى لكل جيش مسلم يريد أن يلتزم بهذه المبادئ العظيمة، وهذه الأخلاق الرفيعة العالية. طلب أبو بكر الصديق من هذا الجيش: أن ينتهي عن الخيانة، كما طلب منه أن ينتهي عن الغدر، لا يكون الجيش غادرًا ولا خائنًا، كذلك نهاهم عن الغلول، وهو الأخذ من الغنائم قبل القسمة، أو أن تمتد يد المحاربين إلى أملاك الآخرين في أثناء القتال، وفي أثناء الجيش.

وقبل أن تنتهي المعارك وقبل أن تتضح الصورة، وقبل أن تجمع الغنائم؛ لتقسم بما يرضي الله وبالصورة التي أقرها الشارع الحكيم، كذلك نهاهم عن قتل الأطفال والنساء، وكذلك الشيوخ، وهذه سِمة عظيمة من سمات ديننا العظيم، وهذا جيش الإسلام لا يقتل طفلًا ولا امرأةً ولا شيخًا.

وكلنا يستطيع أن يراجع مثل هذه الأفكار عندما خرج الجيش الإسلامي لتحرير مكة، ولبسط سيطرته على البلد الحرام، هكذا كانت وصايا النبي صلى الله عليه  وسلم لهذا الجيش.

وتقول الروايات: أنَّ رسول الله صلى الله عليه  وسلم عندما سمع بأن هناك قتالًا حدث وقُتِلَ البعض تأثر جدًّا، وعندما سمع أن امرأة قتلت تأثر وغضب جدًّا، كيف تُقتل امرأة؟! فمثل هذه الأفكار هي من الأسس الثابتة لديننا العظيم ولجيوشنا الإسلامية.

كذلك نهاهم الصديق في كلماته هذه عن قطع الشجر والنخل، وكذلك نهاهم عن ذبح وقتل الشاة والبقر والغنم والبعير، إلا إذا كانت هناك حاجة إليها، الجيش يريد أن يأكل أن يطعم ووجدوا مثل هذه الأشياء، والجيش في حالة جوع، فلا مانعَ من أن يأكل منها.

كذلك لفت الصديق أنظارَ جيش المسلمين إلى أبناء أهل الكتاب الذين قطعوا أنفسهم في الصوامع وأقاموا فيها، فقد طلب أبو بكر من الجيش عدم التعرض لهؤلاء إطلاقًا.

فقال لهم: “ستجدون أقوامًا قد قطعوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم واتركوهم لِمَا حبسوا أنفسهم عليه”، كذلك طلب الصديق من جيش المسلمين أنه إذا تناول طعامًا لأهل الكتاب –ومعلوم في ديننا الحنيف أنه لا شيء من ذلك، والحق يقول سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} [المائدة:5]، فليس هناك أي حرج على جيش الإسلام أن يأكل من طعام أهل الكتاب، وللمسلمين جميعًا أن يأكلوا من طعام أهل الكتاب، ولكن بذكر البسملة أولًا قبل الأكل من طعامهم.

كذلك لفت الصديق أنظار ذلك الجيش -وهو جيش أسامة- لبعض الأقوام الذين سوف يقابلونهم في حروبهم.

قال: “هناك أقوام ستجدونهم فحصوا أوساط رءوسهم، وتركوا جوانبها، هؤلاء قاتلوهم، وقِفوا لهم كل مرصد”.

وحقيقةً قد كانت هذه الوصايا -كما قلنا- من أعظم الأفكار التي يتسلح بها جيش الإسلام وجيش المسلمين، ومن أعظم الوصايا التي يمكن أن يتسلح بها الجيش الإسلامي.

إخضاع المرتدين:

تمثلت صور الردة في أمرين اثنين:

الأمر الأول: وهو مانعو الزكاة، مع الإبقاء على الصلاة، يعني: هؤلاء يصلُّون، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولكنهم أنكروا الزكاة ومنعوها وتوقفوا فيها، وكانت دعواهم أن هذه الزكاة كانت من حق رسول الله صلى الله عليه  وسلم، وليس من حق أحد من المسلمين أن يطلب الزكاة سوى رسول الله صلى الله عليه  وسلم وبوفاة النبي صلى الله عليه  وسلم تَسقط عنهم الزكاة، فهو الذي كان يأخذها والقرآن الكريم يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة:103].

فاعتبروا أنَّ الأمر في هذه الآية يخص رسول الله صلى الله عليه  وسلم فقط، وأن الأمر بهذه الصورة قد توقف على اعتبار أنَّ رسول الله صلى الله عليه  وسلم قد تُوفي.

الأمر الثاني: هي اتباع المتنبئين من العرب، من المعروف أن الجزيرة العربية رأت بعض من ادعوا النبوة.

ومن الغريب أن بعض هؤلاء ظهروا في أواخر حياة النبي صلى الله عليه  وسلم، وهذه الظاهرة بدأت تبدو في أواخر حياة النبي صلى الله عليه  وسلم وبدأ رسول الله صلى الله عليه  وسلم في آخر حياته يرسل الجيوش لهؤلاء، وبدأ يتعامل معهم بصورة عسكرية.

ولكن نود أن نوضح أن تتابعات الأحداث أودت بأن تحدث عملية تعاون مشترك بين هذين النوعين -مانعي الزكاة والمتنبئين من العرب.

وفوجئنا بأن هذه القوات أصبحت -تقريبًا- قواتًا مشتركةً تجمع بين مانعي الزكاة وبين المتنبئين من العرب، والكل أصبح في عداوة الإسلام صفًّا واحدًا، وفي عداوة عقيدة التوحيد والصدق الذي تركه رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

الأسباب التي أدت لظهور أفكار الردة:

1. قرب العهد بالإسلام:

فهؤلاء دخلوا الإسلام حديثًا ولم يتعرفوا بعدُ على كل أفكاره ومجملها، كذلك قد تكون بعض القلوب دخلت الإسلام من منظور مختلف، يعني: تدخل الإسلام من منظور العقيدة الصادقة التي تربعت على عرش القلب، ولكن قد تكون هناك أسباب أخرى دعت بعض هؤلاء للدخول في الإسلام، ولما لَمْ يدخل الإسلام في قلوب هؤلاء بصدق وبإيمان، وهناك سبب آخر مثل عدم الفَهم الكامل للدين، فالإسلام حديث، ومن الممكن أن يكون هؤلاء قد أسلموا في عام الوفود، وبعد عام الوفود بفترة وجيزة تُوفي رسول الله صلى الله عليه  وسلم وهذا معناه أنَّ هؤلاء لم يستوعبوا حقيقةَ هذا الدين استيعابًا كاملًا.

2. العصبية:

كلنا يعلم أن فكرة العصبية ملأت نفوس كثير من القبائل العربية ضد قريش، وسوف نفاجأ -ونحن ندرس حركات الردة- بأن هذه القبائل آثرت أن تتبع المتنبئين من قبائلهم، وهم يعلمون أنهم على الكذب، ويقولون: إنَّ هؤلاء الكذابين خير عندنا أو أفضل من صادق مُضر، وهو رسول الله صلى الله عليه  وسلم وهنا نذكر العبارة المشهورة: “كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر!!”.

هكذا كان الفكر، وهكذا كان التوجه للعصبية، الطمع فيما وصلت إليه قريش.

ومن المعروف أن قريشًا علت برسول الله صلى الله عليه  وسلم، وكما قال الشاعر:

فكم من أب علا بابن ذرا شرف

*كما علت برسول الله عدنان

فلا يخفى أن قريشًا علت بوجود رسول الله صلى الله عليه  وسلم منها، فأرادت هذه القبائل أن تدَّعي النبوة؛ لتعلوا هي الأخرى ولتصل إلى مقامات عُليا بادعاء النبوة في أحد أبنائها.

3. كيد اليهود والنصارى للإسلام:

كذلك لا ينسى أثر اليهود والنصارى والفرس والروم، وصور هذا النفاق، كل هؤلاء كانت لهم أيادي خفية تعبث، يعز عليها أن تجد الإسلام قويًّا مهابًا منيعًا في الجزيرة العربية، كما أن هذه القوة بدأت تشعر أن قوة الإسلام قد يترتب عليها أن هذه القوة الجديدة قد تنطلق إلى بلادهم، فيكون هذا بمثابة نهاية لهم، فمن الممكن أن تكون هذه الأيدي لها دور في إشاعة فكر الردة وبمختلف صوره وأشكاله.

موقف الصديق من هذا الأمر:

حدث نقاش طويل وجدال كبير بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله  عنهما حيث رأى عمر أن مَن منعوا الزكاة لم يكفروا، هم يؤمنوا ويشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، بل يمكن أن يكونوا من المقيمين للصلاة، فرأى عمر أن هؤلاء على الإسلام، وذكَّر عمرُ الصديقَ بقول رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن قالوها عصَموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقها)).

وهنا تدخل الصديق وقال للفاروق عمر: “حق المال هو الزكاة “: أي: مَن ترك الزكاة سوف يصل حتمًا إلى ترك الصلاة، من هذا المنطلق فإني سوف أقاتلهم ولو على عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

وهنا تدخل الفاروق عمر بالحديث مرةً أخرى، وقال للصديق: “يا أبا بكر، تألَّفَ الناس وارفق بهم”، طلب عمر من الصديق ألا يشتد على الناس، وطلب منه الرفق والأناة مع الناس في هذه المرحلة. ولكن كان رد الصديق ورأي الصديق حاسمًا وجازمًا وقاطعًا -كما هي عادته- حيث أمسك بلحية عمر، وقال له: “ما لك يا عمر”: رجوت أن تأيدني بنصرتك بأن تقف معي فيما أذهب إليَّ في تفكيري، أن تؤيدني فيما أرى، رجوت نصرك، ولكنك للأسف الشديد أتيتني بخذلان: “أجبار في الجاهلية، خوار في الإسلام”: قد كنت يا عمر في الجاهلية جبارًا، كنت تبطش بالغريب والقريب، وكان الجميع يرهبونك ويخافونك، فما لك اليوم بعدما صرت عزيزًا بالإسلام، أراك خوارًا في هذا الدين، لست قويًّا فيه!

ثم أردف ذلك الكلام بقوله: “بماذا أتألفهم؟”: بشعر مفتعل أم بسحر مفترى، هل أقول لهم أبياتًا من الشعر كما هي عادة العرب في إلقاء الشعر.

وفي الأصوات الجوفاء التي تردد الشعر، أم أصنع لهم بعض السحر المفترى الذي قد يكون منتشرًا بينهم، ماذا أصنع لهم لأترفق بهم؟ هيهات هيهات يا عمر، مضَى النبي صلى الله عليه  وسلم وانقطع الوحي، مات رسول الله صلى الله عليه  وسلم وأصبحت أمور المسلمين في أيديهم، عليهم أن يأخذوا قراراتهم؛ انطلاقًا من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه  وسلم لن يجدوا سوى ذلك، فقد مات رسول الله وانقطع الوحي، انقطعت صلة الأرض بالسماء بموت رسول الله صلى الله عليه  وسلم وعلينا أن نأخذ نحن القرارات الصعبة التي يجب أن نأخذها، والتي تكون في صالح الإسلام، وفي صالح المسلمين وفي ضوء كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

قال له الصديق: “والله لأقاتلنهم، ولو على عقال بعير كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه  وسلم”، وهنا حسم الصديق أمره ورأيه وقطع مشورته، واطمأنت نفسه، وارتاحت إلى هذا التوجه، وما هي إلا لحظات حتى انشرحت صدر عمر رضي الله  عنه وانبرى مع الصديق في هذا الرأي، وأيدَا هذه الفكرة وهذا الرأي، وهو قتال مانعي الزكاة، كما قامت فكرتهم على قتال المرتدين والمتنبئين من العرب.

ملحوظة:

يجب أن نعرف ألا غضاضةَ في اختلاف الآراء، وأن يكون هناك أكثر من رأي، وأن تحدث عملية النقاش والجدال، والإسلام لا يمنع ذلك على الإطلاق، شريطة أن تدور الأمور في نطاق سليم وبحث عن الوجهة السليمة والصحيحة، فلا يحدث الخلاف عندما يحدث عن هوًى.

وعن توجه النفوس من منطلقات عبثية أو إغوائية أو شيطانية -والعياذ بالله- ولكن الخلاف عندما يحدث يحدث انطلاقًا من الحرص على هذا الدين، من الحرص على أبناء هذا الدين ومن الحرص على الإسلام، والتوجه الصادق والنية الصادقة في البحث عما يرضي الله ورسوله صلى الله عليه  وسلم.

إخضاع المرتدين:

قامت فكرة إخضاع المرتدين على أساسين اثنين، وهذا يعد من عبقرية الصديق؛ لأنَّ الصديق في حربه لحركات الردة، لم يعتمد على أساس واحد، وهو النقاش والجدال والمجادلة، وبعث مَن يجادل هؤلاء، والرسل والكتابات، وخلافه.

فهذا أسلوب سياسي أو أسلوب سلمي -إن صح التعبير- وأسلوب دعوي لا بأس به، ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد.

بل قامت سياسة الصديق عن استعمال أسلوبين اثنين:

  1. الأسلوب السلمي والدعوي السياسي.
  2. الأسلوب الحربي أو العسكري.

الأسلوب الأول: الأسلوب السلمي والدعوي السياسي:

جمع الصديق بين هذين الأسلوبين الاثنين، فقد كانت جيوش الصديق تحمل رسائله التي تقوم على الفكر السلمي والدعوي، وأرسل رسله ومَن ينوبون عنه في تبليغ هذا الفكر في هذه القبائل.

ومن هنا وضع الصديق ما يصح أن نطلق عليه بيانًا عامًّا لجماهير الناس، أي: رسالة أرسلها إلى تلك القبائل كانت تُقرأ بينهم.

وهذا الأمر يشبه دور الإعلام في عصورنا الحديثة، فكانت هذه الرسالة تقرأ بينهم، وهذه الرسالة فحواها أو خلاصتها تدور حول عرض مبادئ الإسلام، وأهم أفكار هذا الدين العظيم.

وتتعرض لحقيقة وفاة رسول الله صلى الله عليه  وسلم وهذا أمر لا غضاضةَ فيه، ولا يستطيع أحد أن ينكره، فعَرَض أبو بكر الصديق في رسالته لهذه الفكرة، وهي حقيقة وفاة رسول الله صلى الله عليه  وسلم وعلَّق عليها بقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين} [آل عمران: 144]، كذلك وجه الصديق إلى جماهيرَ الناس إلى أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم قد تُوفي، ومَن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

هذا هو خلاصة الرسالة، ومن ثم فإنَّ الله باقٍ، ورسالة الإسلام باقية، وأنَّ هذه الرسالة ستبقى ببقاء كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه  وسلم والمجاهدين عنهما من أبناء الإسلام والمسلمين.

وأخيرًا وجه هذه القبائل لحقيقة أنَّ جيوش المسلمين سوف تكون مكلفة بسماع داعية الإسلام، ألا وإن داعية الإسلام هي الأذان، يعني: إذا سمعت جيوش الصديق الأذان من هذه القبائل، فإنَّها سوف تكفُّ سلاحَها عن هذه القبائل، أما إذا لم تسمع الأذان في أوقات الصلوات الخمس المعروفة.

فمعنى ذلك أن هذه القبائل قد ارتدت، ويحق للجيش الإسلامي أن يجتاحها، فقد أصبحت قبائل مرتدة خرجت من عَباءة هذا الدين، وليس لها سوى القتال في هذه اللحظة.

هذا هو الأساس الأول الذي قامت عليه سياسة الصديق في إخضاع المرتدين؛ الأساس السلمي أو الدعوي.

الأسلوب الحربي أو العسكري:

قد عقد الصديق أحدَ عشر لواءً لحروب المرتدين، ووضع خطة عسكرية محكمة، تقوم على إمكانية تنقل الجيوش، وتنقل القادة، وانتقالاتهم، وعمل ما يشبه صور الإمداد العسكري بينهم بين بعضهم البعض.

كذلك تخير الصديق القادة الذين يتناسبون مع كل منطقة، حسب الميول والانتماءات والقبول القبلي. وسوف يأتي الحديث عن كل قائد في حينه عند الحديث عن المرتدين وقمعهم.

error: النص محمي !!