جزاء النصارى حين نقضوا الميثاق وبيان قول النصارى في المسيح عليه السلام
1. جزاء النصارى في الدنيا والآخرة:
قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 14] الآية.
وهنا ألفت النظر إلى أن الآية تبين ما آل إليه حال النصارى، كما بينت الآية السابقة ما آل إليه حال اليهود، وأن الأمر يستدعي أمة رائدة شاهدة مهتدية بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تتولى قيادة الإنسانية إلى طريق الرشاد والسداد، فقال ربنا: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى} وانظر إلى هذا التعبير: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى} ولم يقل: “ومن النصارى أخذنا ميثاقهم”، إنما أراد أن يقول: بأن هؤلاء قالوا هذا القول اعتزازًا بأنهم نصارى، يعني: أنصارًا لله ولرسوله، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14]، وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُون} [المائدة: 111].
فهم يفتخرون بأنهم أنصار عيسى عليه السلام يعني: هم أنصار لعيسى، ولرب عيسى، ولِما جاء به عيسى من المبادئ الطيبة الكريمة، هؤلاء أخذ الله عليهم المواثيق والعهود، ولكنهم نسوا هذه المواثيق، وهذه العهود وارتكبوا كثيرًا من المخالفات التي أبعدتهم عن الله سبحانه وتعالى فهذه إذن دعوة كان يجب أن يقوم عليها الدليل، ولكنهم لم يقدموا دليلًا على نصرتهم لعيسى عليه السلام.
وقوله: {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} تلمح معي أن التعبير بـ “نا” يدل على تعظيم الله سبحانه وتعالى والتعبير كما قلنا بالميثاق دليل على أن هذا عهد موثق مؤكد، هذا العهد -كما قلنا- هو في الإيمان بالله وبرسوله عيسى، وبما جاء به عيسى عليه السلام من تصديق ما في التوراة والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم فماذا كان من أمرهم؟
يقول ربنا: {فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} [المائدة: 14] أي: لم يعملوا بما قاله أنبياؤهم، والناصحون فيهم، وإنما تركوه غفلة ونسيانًا وجهلًا، فماذا كان من أمرهم؟
يقول ربنا: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14] أي: جعلنا العداوة والبغضاء بينهم مستمرة متواصلة من يوم انحرافهم، وإلى آخر هذه الدنيا، وهي لازمة لهم لزومًا كاملًا لا تنفك عنهم، وهذا معنى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} وهذا فعل يذكره القرآن هنا، ولم يذكره إلا هنا.
وفي قوله تعالى: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60] وهذا الإغراء معناه: ألقينا، وهيجنا، وألصقنا، يقال: أغريتُ فلانًا بكذا حتى غري به، أي: ألزمته به، وألصقته، وأصل ذلك من الغراء، وهو ما يلصق به الشيء، فبسبب تركهم لما عوهدوا عليه، أغرى الله عز وجل بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وهذه الكلمة تعني: أن كل طائفة منهم تظن أنها على الحق، وأنها على الدين الصحيح، وأن ما عند غيرها ليس بدين، وبالتالي يحدث النزاع، والشقاق، والعداوة، والبغضاء.
وهنا يتساءل المفسرون: علام يعود الضمير في قوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ} بين من؟ هل يعود الضمير على النصارى أي: أنهم فِرق متناحرة مختلفة، كل طائفة منها تكفر الأخرى، وهذا واقع بينهم، أو أن هذا يعود إلى اليهود والنصارى، فأغرينا بين اليهود وبين النصارى العداوة والبغضاء، فهم متعادون متناكرون، لا تهدأ عداوتهم إلى يوم القيامة؟
يرى ابن جرير الطبري: أن الأولى أن يعود الضمير إلى فرق النصارى، يقول: وأولى التأويلين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس وغيره، وهو: أن المعنيّ النصارى دون اليهود؛ لأن ذكر الإغراء في خبر الله عن النصارى، بعد تقضي خبره عن اليهود، وبعد ابتداء خبره عن النصارى، فلأن يكون ذلك معنيًّا به النصارى خاصة أولى من أن يكون معنيًّا به الحزبان جميعًا، لما ذكرنا.
وهذا أيضًا ما يؤيده العلامة ابن كثير، إذ يقول: قوله تعالى: {فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضًا، ولا يزالون كذلك إلى يوم قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم، لا يزالون متباغضين متعادين، يكفر بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، فكل فرقة تحرم الأخرى، ولا تدعها تلج معبدها؛ فالملكانية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية، والأريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
إذن فهذا إخبار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو إعجاز يُعرف بالإعجاز الغيبي، فإن الله سبحانه وتعالى حين أخبر محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم علم بما ستحمله الأيام، وقد حققت الأيام صدق ما أخبر به رب العزة والجلال رسولَه صلى الله عليه وسلم من أن هذه العداوة استمرت، وتواصلت من تلكم الأيام إلى يوم الناس، وسوف تستمر هكذا إلى يوم القيامة.
ختام الآية بقوله: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون} [المائدة: 14] فيها من التهديد ما فيها، فأنت ترى في هذه العبارة كلمة “سوف” وهي هنا لتأكيد الخبر وتقويته، وبيان أنه وإن تأخر فإنه آتٍ لا محالة، {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ} والإنباء إنما يكون في الأمور المهمة الخطيرة، ولا ريب أن الذي صنعوه من أخطر ما يمكن أن يبتلى به فرد أو جماعة في أن الإنسان ينسى حظًّا عظيمًا وجانبًا عظيمًا من دين الله وهدي الله، وشرع الله، يرتكس بعد ذلك في الذنوب والمعاصي، والآثام، والكفر بالله سبحانه وتعالى فهذا من الأحداث الجسام، والأمور العظام، يخبر سبحانه وتعالى عن ذلك بالإنباء؛ {يُنَبِّئُهُمُ}، و{يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ} اختيار الاسم الجليل في هذا المقام لتربية المهابة في القلوب بما كانوا يصنعون.
وانظر إلى قوله: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون} وكأن الذي يفعلونه هو صنيع سيئ للغاية، والتعبير بالمضارع يدلنا على أن هذا الصنيع قد واكب مسيرة حياتهم عبر الأيام والعصور، كل جيل يُلقي إلى الجيل الذي بعده بهذه الآثام، وهذه الأفكار، وهذا الانحراف، والكل سوف يأتي أمام الله عز وجل ليُخبر هؤلاء ويُنبئهم عما كان من أمرهم، وليس المراد مجرد الإنباء، وإنما المقصود هو: ما يترتب على ذلك من عقوبة، ومن خلود في النار، وبئس القرار: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون} لقد صنعوا أشياء كثيرة: كتموا الحق، وخالفوا رسل الله، وانغمسوا في الشرور والآثام، وتنكّروا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهناك في يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد، يفضحهم الله عز وجل فضيحة منكرة في يوم الموقف المشهود: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون}.
2. دعوة أهل الكتاب للإسلام:
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى كما قلنا حال الفريقين، كان لا بد للإله الرحيم أن يناديهم، وأن يأخذ بأيديهم؛ ليدلهم وليرشدهم حتى لا تكون لهم حجة على الله بعد أن أرسل إليهم نبيه ومصطفاه محمدًا صلى الله عليه وسلم فناداهم قائلًا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [المائدة: 15- 16].
وما أكرم إلهنا! وما أعظمه! إذ لم يترك الناس سدى، إنما دلهم وأرشدهم، وهذه رحمة الله الغامرة التي أحاطت بهؤلاء في جملة من أحاطت من بني الإنسان، وانظر إلى رحمة الله، وكرمه في إكرام خلقه، حيث نادى أهل الكتاب قائلًا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} بعد أن ذكر من أمرهم ما ذكر، التفت إليهم يخاطبهم، ويحدثهم، ويدعوهم.
انظر إلى ما دعاهم إليه في هذه الآية الكريمة، وما بعدها يقول لهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين} [المائدة: 15]. والآية التي تليها، نلمح أنه سبحانه وتعالى لم يأمرهم في هاتين الآيتين باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا مباشرًا، إنما ذكر لهم من صفاته، ومن محاسنه ومحاسن الوحي الذي نزل عليه ما يدعو العقلاء إلى أن يلتفتوا إلى انتهاز هذه الفرصة واغتنامها؛ ليكونوا من أهل الإيمان الحق؛ وليفوزوا بجنات النعيم، بل وبالأمان في الدنيا وفي الآخرة. فيقول لهم مرغِّبًا: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا}. “قد” حرف تحقيق يؤكد ما بعده من مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} المجيء يعني: الانتقال من مكان إلى مكان، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسله الله عز وجل جاءهم يسعى إليهم يعرض عليهم هذه الرسالة، ومجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيء حقيقي، انتقل صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة طاعة لله، وحبًّا في الله، ونصرة لدين الله، وإقامة لدولة الإسلام بأمر من الله عز وجل جاءهم فعرض عليهم ما نزل عليه من دين، ودعاهم المرة تلو المرة أن يرجعوا عن غيهم وبهتانهم وافترائهم، وأن يؤمنوا برسالته، ولكنهم عصوا الله والرسول، ورفضوا دعوة الإسلام إلا من عصم ربي وقليل ما هم، كلمة المجيء توحي بجهد مبذول، وأي جهد هذا الذي بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهو الذي جاهد في الله حق جهاده، وبذل من ذات نفسه ما لا يستطيعه أحد، إنما كان هو العلم الخفاق، والقائد المظفر الذي ضرب أعلى المثل في هذا الأمر.
{قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} أي: من أحكام الله التي ظنوا أنه لا يعرفها أحد، ومن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كتموها، وظنوا أنها لن يعرفها أحد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لهم كثيرًا مما كانوا يخفونه في التوراة، وفي الإنجيل، وهذه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نبي أمي لا علم له بالقراءة أو الكتابة، ولم يطلع على تاريخ سابق، ولا لاحق، ولم يجلس لمعلم، فمن أين له بهذه الأخبار التي يخبر بها؟ لا شك أن ذلك بوحي من الله عز وجل.
3. أثر الكتاب في حياة من آمن به:
{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين} انظر إلى قوله: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ} “قد” المحققة دخلت أيضًا على الفعل الماضي “جاءكم” لإفادة تحقيق المجيء، وهذا المجيء مبدؤه من الله عز وجل والذي جاءهم نور وكتاب مبين، هذا النور هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أنار لهم الطريق، وبين لهم السبل، وأرشدهم على الحق، ودلهم على مصادر السعادة، فأي نور هذا الذي يشع من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أو أن النور هنا هو القرآن، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174] فسمى الله كتابه نورًا مبينًا واضحًا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا هو النور: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45- 46].
ما زالت الكلمات تدعو أهل الكتاب إلى تفيؤ ظلال الرحمة، والانضواء تحت راية الإيمان والإسلام والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيقول ربنا مخاطبًا لهم مباشرة: {قَدْ جَاءكُم} يا أهل الكتاب {مِّنَ اللّهِ} المتصف بكل صفات الجلال والكمال {نُورٌ} هو نور محمد صلى الله عليه وسلم أو أن النور هنا كما قلنا هو كتاب الله سبحانه وتعالى فقد وصف الله كتابه بأنه نور، ويكون معنى: {وَكِتَابٌ مُّبِين} هذا العطف من باب التأكيد لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات، كما يقول العلامة الألوسي.
{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين} يصف كتابه بأنه كتاب مبين أي: واضح على ما جاء فيه وما يدعو إليه كل الوضوح لا التباس فيه، ولا خفاء.
ويبقى أن تعلم أن التنكير في قوله: {نُورٌ وَكِتَابٌ} يفيد التعظيم، أي: نور عظيم، وكتاب عظيم، حاز الفضل من أطرافه، وهذه العبارة تبين أن المقصد من إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لمجرد إظهار ما في التوارة والإنجيل مما كانوا يخفونه، وإنما إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغايات عظيمة هي: أنه نور يضيء الطريق، ومعه كتاب أوحى اللهُ به إليه فيه سعادة الإنسان في دنياه وفي أخراه.
{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} “يهدي” الهداية هنا هي هداية الإرشاد، وهي هداية مستمرة متواصلة، كما يفيده التعبير بقوله: “يهدي” {يَهْدِي بِهِ اللّهُ} أي: يهدي به رب العزة والجلال بهذا القرآن من اتبع رضوانه سبل السلام.
والذي اتبع رضوان الله، ماذا يعني أنه اتبع رضوان الله فاستحق هذا الإكرام، وأن يرشده الله سبحانه وتعالى إلى سبل السلام؟ اتباع رضوان الله، معناه: أن هذا الإنسان طلب من الله الهداية، وبحث عنها ونقب وفتش، وحاول أن يلتزم بما يُرضي الله عز وجل.
{سُبُلَ السَّلاَمِ} السبل: جمع سبيل، والسبيل هو الطريق، والسلام: هل هو الإسلام، أو هو السلامة؟ فالله سبحانه وتعالى يرشده إلى طرق السلامة التي يسلم بها الإنسان من الشرور والآثام والشياطين وما إلى ذلك، حتى ينجو بنفسه في الدنيا، وحتى يكون من الفائزين في الآخرة، والمعنى متقارب، فالله عز وجل يهدي بهذا القرآن من سار على منهج القرآن وحاول الالتزام بما جاء فيه، وأن يكون صورة لهذا القرآن العظيم، كما كان من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان قرآنًا يمشي على الأرض، فهذا الذي اتبع رضوان الله.
وهدى الله هذا الإنسان إلى هذا القرآن، وبهذا القرآن سبل الإسلام، والطرق الموصلة للالتزام بما جاء به هذا الدين، أو أنه كما قلنا: دله على طرق السلامة.
ومَن مِن العقلاء لا يرضى؟ مَن مِن العقلاء يرفض أن يكون في هذه الدنيا سالكًا الطرق التي تؤدي إلى سلامته وأمنه وعزته ونجاته في هذه الدنيا، وهناك في الآخرة؟
{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} انظر إلى تغاير الأسلوب في مطلع الآية، وفيما جاء في قوله: {وَيُخْرِجُهُم} {وَيَهْدِيهِمْ} ففي بداية الآية يأتي التعبير مفردًا، وكأن الله سبحانه وتعالى يقول: بأن هذا الأمر إنما هو حالة خاصة بكل فرد، فعلى كل فرد، وعلى كل إنسان أن يبحث لنفسه عن طريق النجاة، والأمر هنا ليس أمرًا جماعيًّا، إنما هو أمر شخصي فردي.
{وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ} هذه الظلمات هي الكفر، وما يتبعه من ألوان الفساد، وألوان الشقاء مما يشعر به كل كافر من التمزق والضياع، فهذه ظلمات كثيفة أحاطت بالإنسان في حياته الدنيا، فعاش محرومًا من السعادة، ومحرومًا من الأماني، ومحرومًا من رحمة الله سبحانه وتعالى فهي ظلمات كل واحدة منها ظلمة، تجمعت منها في هذا الإنسان ظلمات وبجواره ظلمات، فهي ظلمات بعضها فوق بعض.
فالله عز وجل أراد أن يُخرج هؤلاء من تلكم الظلمات إلى النور، وأنت ترى أن كلمة “النور” جاءت هكذا غير مجموعة، إنما جاءت هكذا مفردة؛ لأنه نور واحد، لا يتعدد، هو نور الحق، وما أحسن ما يلقى هؤلاء من سعادة غامرة حين يرون أنفسهم، وقد أخرجوا من ظلمات الكفر والضلال والفساد إلى نور الإيمان، ونور الحق، ونور الصدق، وما جاء به الإسلام من سعادة للإنسان في دينه وفي دنياه، وكل ذلك بإذن الله سبحانه وتعالى أي: بإرادة الله، أو بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا يعلم العبد أنه مربوب لإله فعال لما يريد لا يُجبر على شيء، ولكنه وضع سننًا لهذه الحياة، ولما فيها من الإيمان والكفر والهداية، والغواية، فمن سار على طريق الرشاد، ومن طلب الهدى، ومن بذل قصار الجهد، ومن استعمل عقله، وفكره، ووجدانه فيما خُلق من أجله، من قدرته على الاختيار بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، من فعل هذا فاختار اختيارًا صحيحًا، يهديه الله سبحانه وتعالى ويخرجه مع إخوانه المؤمنين من الظلمات إلى النور، وهذا قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2- 3].
ثم تأتي الهدية الغالية في ختام الآية: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} هذه هي الثمرة الثالثة من ثمرات اتباع رضوان الله: أنه يهديهم إلى صراط مستقيم، أي: يرشدهم ويدلهم ويوفقهم إلى سلوك صراط مستقيم، هذا الصراط المستقيم صراط عظيم، كما يوحي به التعبير بقوله: {صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} فجاء الصراط هنا كما ترى نكرة ووصفت هذه النكرة بقوله: “مستقيم” والنكرة موصوفة أيضًا بصفة نكرة مما يفيدك تعظيمًا لهذا الصراط، وأي تعظيمٍ!
وهذا الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، هو الذي يوصل الإنسان إلى غايته من أقرب طريق، وهذا هو ما جاء به هدى الله سبحانه وتعالى وما يشعر به المهتدون في أن الطرق الموصلة إلى السعادة في الدنيا والآخرة قد اختصرت في طريق واحد، هو طريق الإيمان بالله، وأهل الإيمان بالله الله عز وجل هو الذي هداهم، وأرشدهم، ودلهم ووفقهم، وفقهم إلى سلوك هذا الصراط المستقيم.
4. قول النصارى في المسيح ابن مريم عليه السلام:
يقول تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير * وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير} [المائدة: 17- 18].
المعنى العام للآية:
نعود إلى ما بين أيدينا لنتساءل: ما الهدف الذي تسعى هذه الآيات لتحقيقه؟ أو قل: الآية الأولى ما الهدف الذي تسعى لتحقيقه؟
إنها تريد أن تقول: بأن هؤلاء قد ضلوا ضلالًا بعيدًا، وأنهم لو تأملوا لعلموا أنهم قد جانبوا الحق، والحق واضح لا شبهة فيه، فتقول: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} هذه العبارة في مطلع الآية حددت لنا القضية التي يريد القرآن العظيم أن يناقشها مع هؤلاء تصحيحًا لفهمهم، فيقسم رب العزة والجلال -كما نرى في اللام الموطئة- يقسم قسمًا مؤكدًا فيأتي بقوله: “قد” حاكمًا بكفر من قال هذا القول، والكفر هو تغطية الحق وإظهار الباطل، وإخفاء الحقيقة وإظهار ضدها، إما عمدًا، وإما جهلًا وانقيادً لمن كانوا قد تعمدوا ذلك.
ولا شك أن هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الحقيقة الواضحة، وأن الحق الصراح هو أن الله هو الإله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأن هذا الإله قد اختار من خلقه رسلًا، وأنزل عليهم كتبًا، وأن ختام هؤلاء المرسلين، هو محمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم عاندوا وكذبوا.
نقول: بأن الله سبحانه وتعالى أقسم قسمًا مؤكدًا على كفر هؤلاء الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وتبين لنا أن هؤلاء القوم قد أنكروا الشمس الساطعة في وضح النهار، وأنهم لو تأملوا لعلموا أن هذا الكفر انحراف عن طريق الحق، وطريق الحق لا يحتاج إلا إلى حسن النظر للوصول إليه، واعتناقه واعتقاده، وأن تقوم عليه حياة المرء ضمانًا لنجاته في الدنيا وفي الآخرة.
ادعاء النصارى أن الله هو المسيح ابن مريم:
يقول تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} تأمل معي في هذا القول وأنه لم يقل: “لقد كفر النصارى” وإنما قال: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} فكأنه بهذه العبارة يبرهن على سبب كفر هؤلاء، فهؤلاء قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وقوله: {قَآلُواْ} يعني: أن هذا كان قولًا منهم باللسان، والقول باللسان يعبر عما في القلب.
فهذا إذن يبرهن على اعتقاد راسخ في قلوبهم، قالوه وأظهروه، وتفاخروا به، وقالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم.
قوله: {إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} هؤلاء قصروا الألوهية على المسيح عليه السلام وهذا القول من الذي قاله؟ الذي قاله كما يقول المؤرخون فرقة من فرق النصارى تسمى باليعقوبية، فهؤلاء يدعون أن الله سبحانه قد حلّ في بدن عيسى عليه السلام فتجسد اللاهوت بالناسوت، فعيسى إذن هو الإله.
وقيل: ولم يصرح بهذا القول أحد من النصارى، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتًا مع تصريحهم بالوحدة، وقولهم: لا إله إلا واحد، لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح، فنُسب إليهم لازم قولهم، توضيحًا لجهلهم، وتفضيحًا لمعتقدهم. هكذا يقول الإمام الألوسي في (روح المعاني).
ويذكر عن الراغب قوله: فإن قيل: إن أحدًا لم يقل: الله تعالى هو المسيح. وإن قالوا: المسيح هو الله تعالى، وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت، فيصح أن يقال: المسيح هو اللاهوت، وهو ناسوت، كما صح أن يقال: الإنسان هو حيوان مع تركبه من العناصر، ولا يصح أن يقال: اللاهوت هو المسيح، كما لا يصح أن يقال: الحيوان هو الإنسان.
قيل: إنهم قالوا: هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي عن محمد بن كعب القرظي: أنه لما رفع عيسى عليه السلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا: ما تقولون في عيسى صلى الله عليه وسلم؟
فقال أحدهم: أَوَ تعلمون أحدًا يحيي الموتى إلا الله تعالى؟
قالوا: لا.
فقال: أو تعلمون أن أحدًا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟
قالوا: لا.
قالوا: فما الله تعالى إلا مَن هذا وصفه، أي: حقيقة الإلهية فيه، وهذا كقولك: الكريم زيدٌ، أي: حقيقة الكرم في زيدٍ، وعلى هذا قولهم: إن الله تعالى هو المسيح ابن مريم.
فإذن هذا ادعاء منهم بأن الله هو المسيح ابن مريم، اعتقادًا منهم بأنه ما دام كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، وما إلى ذلك، وأن الذي يصنع هذا هو الله، فهذا إذن هو الله، تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا.
5. رد القرآن علي ادعاء النصارى بأن الله هو المسيح ابن مريم:
أمر الله سبحانه وتعالى رسوله أن يرد عليهم هذا القول فقال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [المائدة: 17].
فبعد أن حدد أساس القضية، وما يعتقده هؤلاء، وما يقولونه في نبي الله عيسى عليه السلام رد عليهم في هذه الكلمات ردًّا مفحمًا، لو تأملوا في هذا الرد ومفرداته لوجدوا أن كل واحدة مما ذكر في هذا الحديث كافية في نفي ألوهية عيسى، وفي إثبات أنه عبد الله ورسوله.
فالله سبحانه وتعالى يبدأ هذا الرد بتوجيه الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا} إلى آخره، وهذا الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: أنه عبد مأمور ينفذ ما يأمره الله به، وأنه لا يخترع هذا الرد من عنده، إنما الذي أوحى به هو الله رب العزة والجلال، فهذا القول: {قُلْ} في هذا المقام على جانب عظيم من الأهمية؛ لأن فيه بيانًا وتوضيحًا لرفعة مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه نبي يوحى إليه، وفيه إثبات لبشريته، وأنه عبد مأمور يأمر بقول الله له: {قُلْ} وعليه أن يقول وأن يبين، وفي هذا القول الذي قال قداسة وعظمة ورفعة شأن؛ لأن هذا رد صادر ممن يملك الحقيقة كلها من خالق الخلق، خالق السماوات والأرض وما فيهن، وفي ذلك ما يضفي على كل قضية ذكرت، أو كل دليل ذكر في هذه الآية الكريمة ما يضفي عليه وجاهة وقوة؛ لأنها قدرة القوي القادر القاهر.
هذا الأمر إذن في قوله: {قُلْ} لنبينا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصح أن يكون هذا الأمر لكل من يتوجه له الخطاب، كأن الله سبحانه وتعالى بعد أن أقسم على أن هؤلاء أخطأوا خطأً شنيعًا حين قالوا بألسنتهم: بأن الله هو المسيح ابن مريم، أراد أن يعجب من في الدنيا كلها من حالهم، وأن يقول لكل من يصلح له الخطاب: قل أيها الإنسان، في أي مكان وأي زمان، قل أيها العاقل، أيها الفاهم، أيها الفاقه، من عنده أدني مسكة من عقل، قل لهؤلاء الذين قالوا هذا القول الشنيع: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}. وفي هذا تبكيت لهؤلاء، وإظهار لبطلان قولهم الفاسد، ومعتقدهم الكاسد.
فلننظر فيما قال ربنا ردًّا عليهم، قال: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}؟! هذا إذن استفهام تقريري إنكاري تعجبي، يثير العجب من حال أناس لا يلتفتون لهذه الحقيقة؛ لأنه مَن هذا الذي يملك من الله شيئًا؟
المِلك معناه: القدرة على التصرف فيما يكون بيد صاحبه بحرية تامة دون معقب، فهل ما يملكه الناس هو من باب الملك الحقيقي، أو هذا تمليك من الله سبحانه وتعالى؟ هل يمتلك الإنسان نفسه؟ بمعنى أنه هل يستطيع أن يهب لنفسه الحياة، أو أن يطيل في عمره، أو أن يدفع عن نفسه وبدنه ما ينزل به من بلاء؟ وهل ما بيده مما يراه من مال ومتاع؟ هل هذا الذي بين يديه هو ملك حقيقي يتصرف فيه بمحض إرادته ويحفظه ولا يستطيع أحد أن يسلبه منه؟ ألا ترى حال الناس وهم يتقلبون في هذه الدنيا بين غنى وفقر، وصحة ومرض، وكم من غني أفقره الله، وكم من فقير أغناه الله؛ ولذلك لما دعا الله للإنفاق في سبيله قال: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِير} [الحديد: 7].
إذن فهذا المِلك هو حفظ الشيء وضبطه، وبذل الجهد في سبيله، لكن من يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه، ومن في الأرض جميعًا؟ هل يستطيع أحد، أو في قدرة أحد من يدفع الهلاك عن المسيح ابن مريم، أو عن أمه ومن في الأرض جميعًا؟ أم أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد إنزال ضرر بأحد، لا يرد قضاءه رادّ، ولا يستطيع أحد أن يمتنع مما يريده الله فيه؟ ولذلك نرى في القرآن الكريم أنه سبحانه وتعالى حين يتحدث عن ألوهيته وعما يدعيه المشركون من الألوهية لأصنامهم يقول: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} [الفرقان: 1- 3].
فهذا هو الله رب العالمين الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع كله، وانظر إلى قوله: {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ} المراد بالإهلاك: الإماتة والإعدام مطلقًا لا عن سخط وغضب، وإظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية، حيث ذكرت معه الصفة في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه، وقيل: وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة؛ لأنه تولد من أم.
فهذا الإهلاك إنما يعني بأن الله سبحانه وتعالى له القدرة التامة على هذا الأمر، وفي اختيار كلمة: “الإهلاك” دون الإماتة أو الإعدام مثلًا ما يستثير أتباعه الذين يريدون أن يدفعوا عنه السوء، فهل لو أنزل الله به هذا يستطيع هؤلاء، أو يستطيع غيرهم، أو يستطيع أهل الأرض أن يردوا أمر الله وقضاء الله سبحانه وتعالى؟ وإنما ذكر الإهلاك بالنسبة للمسيح ابن مريم أولًا ثم من بعده جاء عطف أمه، ثم من في الأرض جميعًا؛ لأن القضية إنما تتعلق بالمسيح ابن مريم، كما أن أمه أيضًا نسب إليها شيء من الألوهية، فأيضًا هل تستطيع أن تدفع عن نفسها السوء؟ وقد رأينا ما كان من أمرها حين حملت بعيسى، وخرجت إلى حيث لا يراها أحد، وأجاءها المخاض إلى جذع النخلة فماذا كان من أمرها؟
قالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 23- 24]. إلى آخر ما جاء في القصة المشهورة المعلومة.
فهذه السيدة البتول الطاهرة المباركة أم عيسى -عليها السلام- لم تستطع أن تدفع عن نفسها شيئًا مما نزل بها، وكذلك القضية ليست خاصة بالمسيح وبأمه، وإنما هي قضية عامة لكل من في الأرض، جميع من في الأرض، لا يستطيع واحد منهم أن ينجو من قضاء الله، وقدر الله الذي لا بد أن ينزل به فهذا أمر الله نافذ.
إذن فهذا هو أمر الله الذي لا بد أن يتم، وأنه لا يستطيع أحد من المخلوقات أن ينجو مما أراد الله به؛ لأنه لا يملك أحد من الله شيئًا، أي شيء، وأية وسيلة، وأية حيلة، وأية قدرة، وأية طاقة، ليدفع عن نفسه ما أراد الله أن يكون فيه.
يقول الإمام الألوسي -عليه رحمة الله: وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على عيسى صلى الله عليه وسلم؛ لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى، لا يقدر على دفع ما أُريد به، فضلًا عما أريد بغيره، وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك، كما أنه أسوة لهم في العجز، وعدم استحقاق الألوهية.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}. هذا التأكيد بقوله: {جَمِيعًا} ليشمل جميع الخلق، حتى لا يشذ أحد عن ما أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون فيه، هذا الرد وحده يكفي، بل يكفي جزء منه، لو أن الله قال في الرد على هؤلاء: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ} لكفى؛ لأن من كان عرضة لأن يهلكه الله سبحانه وتعالى وأن يميته لا يمكن أن يكون إلهًا.
وأيضًا هذا المسيحُ ابنُ مريم، أي: متولد من أم؛ هي مريم -عليها السلام- والإله لا ولد له ولا والد كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد} [سورة الإخلاص].
وأيضًا في قوله: {وَأُمَّهُ} إن أراد أن يهلك أمه، قبل أن تأتي به، أو بعد أن أتت به، فلا يمنعه من ذلك مانع، وفي هذا أيضًا وحده ما يكفي في الرد.
وأيضًا قوله: {وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} إذا كانت إرادة الله قد وصلت إلى من في الأرض جميعًا فردًا فردًا، لا يستطيعون فرادى، ولا يستطيعون وهم مجموعون أن يردوا ما أراد الله لهم من إهلاك، والمسيح ابن مريم واحد ممن في الأرض يجري عليه ما يجري عليهم، فأنت ترى معي أن كل عبارة من هذه العبارات كافية في الرد عليهم، فكيف بها إذا اجتمعت؟
القضية الثانية أو البرهان الثاني الذي يرد به عليهم: هو ما جاء في قوله: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة: 17] تلمح معي تقديم {وَلِلّهِ} على قوله: {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وهذا مما يفيد قصر ملكية السماوات والأرض، وما بينهما على الله سبحانه وتعالى والسماوات بما فيها من عوالم، ومن ملائكة، ومما لا سبيل للاطلاع عليه، والأرض وما عليها من مخلوقات نعرف منها ما نعرف، ونجهل منها ما نجهل، وما في باطنها، وما بين السماء والأرض مما نعرفه ومما لا نعرفه كل ذلك مملوك لله سبحانه وتعالى {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} هذا الملك بيد الله سبحانه وتعالى يتصرف فيه كيف يشاء، ولا ريب أن هذا عنوان ألوهية الله -جل وعلا.
فالله سبحانه وتعالى كثيرًا ما يوجه السؤال إلى المشركين بهذه الخصوصية يخبرهم ويسألهم في تعجب: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُون * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُون * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون} [المؤمنون: 84- 91].
وهكذا في كتاب الله سوف نرى هذه الحقيقة الواضحة لملكية الله لما في السماوات والأرض وما بينهما، وأنه -جل وعلا- هو الإله المتصرف في شئون خلقه، ولا تصريف لأحد معه سبحانه وتعالى فهذا من أعظم الأدلة على تفرد الله بالألوهية، وأنه الإله الواحد الأحد.
وأيضًا في هذا دليل على أن عيسى ليس إلهًا، إنما هو عبد من عباد الله؛ لأنه من جملة المملوكين لله في هذه الأرض، وليس من المعقول أن يكون مملوكًا لله سبحانه وتعالى وأن يكون إلهًا؛ لأن الإله لا يُمْلَك، إنما هو المالك، فهذا دليل من أعظم الأدلة على أن عيسى هو عبد الله ورسوله، وبذلك تستطيع أن ترد على هؤلاء بهذه العبارة وهي قوله تعالى: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} على هؤلاء الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، في أنه سبحانه وتعالى الإله، المالك، المتصرف، القاهر، القادر على كل شيء؛ ما في السماوات والأرض وما بينهما، وأن عيسى لا يمتلك شيئًا من ذلك، فضلًا عن تصريفه، إنما هو مملوك لله رب العالمين، فهو إذن عبد الله ورسوله.
دليل آخر يسوقه رب العزة والجلال، وهو يلقن رسوله صلى الله عليه وسلم حجته فيقول: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}. فانظر معي إلى قوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} وإلى قوله في ختام الآية: {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} لتعرف أنه لو تأمل هؤلاء في خلق الله لعلموا أن عيسى مخلوق لله.
يقول الله عز وجل: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} نرى الفعل المضارع في قوله: {يَخْلُقُ} الذي يفيد التجدد والحدوث، وهذا يعني: أن عملية الخلق للمخلوقات مستمرة من يوم أراد الله أن يخلق خلقه، وسوف تستمر إلى آخر إنسان سبق في علم الله أن يخلق، وهو سبحانه وتعالى حين يخلق يخلق ما يشاء أن يخلقه، وبالطريقة التي يشاء الله عز وجل أن يكون عليها هذا المخلوق.
فيخلق سبحانه وتعالى واحدًا من غير أب ولا أم، إنما خلقه من طين لازب، ونفخ فيه من روحه، ذلكم هو آدم عليه السلام لا أب له ولا أم؛ ولذلك في نقاش هؤلاء الذين قالوا في المسيح ما قالوا، وكان الذي قادهم إلى هذا أنه خُلق بدون أب، قال لهم ربنا سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون} [آل عمران: 59]، ويخلق سبحانه وتعالى واحدة لا من أب ولا من أم، إنما يوجدها من ضلع آدم عليه السلام تلكم هي أُمنا حواء -عليها السلام.
وكان لا بد للصورة وللمنظومة أن تكتمل، فخلق الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام بكلمة منه، أرسل جبريل عليه السلام فبلغ مريم بأنها ستحمل بمولود اسمه عيسى بن مريم، وذكر لها صفات هذا الرسول: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِين * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِين} [آل عمران: 45- 46] ولما تعجبت فقالت: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون} [آل عمران: 47]. إلى آخر ما جاء في صفات هذا النبي المبارك عليه السلام فحملت مريم بعيسى في التو واللحظة حملًا استمر مدة الحمل، كما تحمل كل النساء إلى أن ولدته نبيًّا صالحًا مباركًا: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 30- 33]، قال هذا وهو ما زال صبيًّا في المهد، لم تمض عليه سوى أيام قلائل، أو ساعات قلائل عليه السلام.
فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء، وحين خلق عيسى إنما خلقه على هذا النحو، ولا غرابة في ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى كما ذكر في أكثر من آية إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، فهذه طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى وهذه العبارة تصلح للرد على من قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، ظنًّا منهم ووهمًا اعتراهم بأنه مادام عليه السلام قد وجد بهذه الطريقة من مريم دون أب، فأبوه إذن هو الله، وبالتالي فقد حل اللاهوت بالناسوت، وعلى هذا فهو إله أو هو ابن الإله، والقضية هنا إنما ترد على هؤلاء الذين اختاروا أنه إله، رأوه ونظروا إليه حين تجسد في شخص عيسى عليه السلام فهذا القول: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} عبارة لها في هذا السياق معناها ومغزاها.
أما ختام الآية بقوله: {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} فهي تلفت النظر في قوة إلى طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى “الله على كل شيء قدير” جملة اسمية تدل على الثبات والدوام، وقوله: “على كل شيء” تفيد هيمنته التامة الكاملة على كل ما في هذا الوجود، وقوله: “كل شيء” هذا التنكير يفيد العموم، أي: على كل شيء، أي شيء يمكن أن يخطر بالبال، فكل الموجودات ما نعرف منها وما لا نعرفه محكومة بقدرة الله، وهي تحت قهره وإرادته، ومشيئته، وتصريفه خلقًا ونماءً وحياةً وموتًا وإهلاكًا وما إلى ذلك من كل ما يتعلق بشئون هذا المخلوق، الله سبحانه وتعالى قادر قدرة فائقة تليق بذاته وجلاله وكماله على سائر مخلوقاته.
فهذا إذن رد على هؤلاء الذين قالوا هذا القول الشنيع في أن عيسى عليه السلام عبد من عباد الله، قدرته محدودة بما أذن الله سبحانه وتعالى له أن يتصرف فيه، ولا اقتدار له على ما لم يأذن له به الله أن يتصرف فيه، ولكن الله سبحانه وتعالى هو القادر على ذلك، القادر على أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا، والقادر على أن يدير وأن يدبر مملكته في السماوات والأرض وما بينهما، والقادر على أن يخلق ما يشاء كما يشاء ووفق ما يشاء، وما إلى ذلك، فقدرة الله سبحانه وتعالى قدرة عامة شاملة، ولو أن هؤلاء تدبروا في ذلك لعلموا أن عيسى الذي يدعون له الألوهية، إنما هو عبد مقدور عليه في جملة مقدورات الله.
فسبحان الإله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.