Top
Image Alt

جمعهم السنة، والسعي إلى نشرها

  /  جمعهم السنة، والسعي إلى نشرها

جمعهم السنة، والسعي إلى نشرها

جُمعت السنة في عهده e عن طريق الحفظ لمن تمكن من الحفظ، وعن طريق الكتابة لمن تيسرت له الكتابة، وقد يجمع بينهما أحد الصحابة، لكن الرسول e لم يكلف أحدًا بكتابة ما يصدر عنه من السنة، ولم يسعَ إلى جمعها في ديوان واحد، وإنما قدّمها -كما قلنا- في أيسر طريق يسهّل حفظها وترتبط بالوقائع المتجددة في حياة الناس، وأذن في الكتابة لمن احتاج إلى الكتابة، وكل ذلك تيسيرًا على الناس واطمئنانًا إلى حفظ السنة في عهده e وفيما بعد عهده، بجهود المحدِّثين ومناهجهم المتميزة.

أما القرآن الكريم فمحكمٌ محدد الكلمات، وتداوله على ترتيبه الأصلي في الصلاة والتلاوة ونحو ذلك يمنع من التلاعب فيه ويسهّل حفظه وييسر عدم خروج الناس عن أي حرف منه، وقد بدأ أبو بكر وعمر { في جمع نسخةٍ من القرآن الكريم بالمراجعة على حفظ الحفّاظ، وكتابة من كتب شيئًا من القرآن لنفسه، وأساس هذه النسخة التي صدرت عنهم مراجعة محققة ما كُتب في عصره e بإشرافه ومتابعته, وأمره كُتّاب الوحي باستتباع كتابته بحسب نزوله، ووضع كل آية في مكانها وكل سورة في مكانها، فكان المصحف مجموعًا في عهده e ثم أُعيد جمعه في عهد أبي بكر > بإشرافه وبإشراف كبار الصحابة معه، ثم أعيدت مراجعته مراجعة ثانية في عهد عثمان > وأُرسلت المصاحف إلى الأقطار، وتعددت وتنوعت، وصار ما يخالفها من حِفظ من حَفظ أو كتابة من كتب مخالفًا للإجماع, ممنوعًا إضافته إلى القرآن الكريم.

وعزم أبو بكر > على جمع السنة؛ قالت عائشة <: “جمع أبي الحديث عن رسول الله e وكانت خمسمائة حديث، فباتَ ليلته يتقلّب كثيرًا، قالت: فغمّني، فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغَك؟ فلما أصبح قال: أَيْ بُنية، هلمي الأحاديث التي عندك. فجئته بها، فدعا بنار فحرّقها، فقلت: لمَ أحرقتها؟ قال: خشيتُ أن أموت وهي عندي, فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقته، ولم يكن كما حدثني؛ فأكون قد نقلتُ ذاك”، فلم يتحمل أبو بكر > مسئولية اعتماد عدد من الأحاديث للأمة وحده، وإنما ترك ذلك لجهود الأمة ممثلةً في علمائها، يتابعون كل رواية ويتعقبون كل راوٍ، ويعتمدون الحديث على أساس الجهد العام للأمة، بناء على مناهج القبول المعتمدة.

عن عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب > أراد أن يكتب السنن, فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله e فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له, فقال: “إني كنتُ أردتُ أن أكتب السنن، وإني ذكرتُ قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا أُلبس كتاب الله بشيء أبدًا”، وفي رواية: “كتبوا مع كتاب الله كتبًا فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله” فبيّن عمر > سببًا آخر لعدم تدوين السنة وجمعها، وهو وضعها مع كتاب الله فيما يُراجع ويُقرأ؛ فيشتغل الناس عن تلاوة القرآن بقراءة السنن، وبما أن الرخص في السنن كثيرة والوقائع فيها متعددة والبيان فيها متنوّع، فإن وضعها مع القرآن في نسقٍ واحد مجموع مرتّب يُرجع إليه -يصرف عن القرآن، ويعطيها ما ليس لها من الخصائص؛ من حيث الترتيب المعتمد والجمع المتناسق، وتحويلها من حقائق متنوعة مختلفة بحسب الوقائع إلى مجموع متناسق يحاكي القرآن في صورته من الجمع والتنسيق والترتيب، وإن كان ليس له أي خصيصة من خصائصه في ذلك كله، لكن الناس تجنح إلى ما يُوافق الهوى ويناسب الطبع، فيصرفها ذلك عما في القرآن من أسرار وأنوار.

ولا يقولنّ أحدٌ: إن السنة جُمعت عند الأمة إلى جانب القرآن, فجمع الخليفة أو رأس الأمة له منزلة ليست لمصنّف أو مجموع قام به عالم أو علماء، والكتاب الذي يمثل مجهود الأمة المجمع عليه لا يسمح بوجود كتاب آخر يقابله أو يضاهيه, أو يخالفه في المنهج أو فيما تقرر فيه وانتهى إليه.

من هنا كان الكتاب الممثّل للإسلام, المعتمد عند الأمة كديوان مجموع له قداسته وله وضعه الخاص؛ بحيث لا يتغير لفظٌ منه أو حرف منه -هو القرآن الكريم، أما غيره كالسنة فالاعتماد على ما يستخلصه العلماء وما دوّنوه في كتبهم المتعددة المختلفة في مناهج التصنيف، وما أقرت الأمة صوابه من ذلك فهو صواب، وما رأت أنه ليس بصواب فهي تصحّحه على أساس مناهج البحث المعتمدة، والقرآن الكريم فوق ذلك كله، ونبه عمر > إلى خصيصة الأمة الإسلامية؛ حيث لم تخلط القرآن بغيره في كتابٍ واحد، ولم تضع كتبًا للأمة تعطيها منزلة القرآن الكريم، وتتجه إليها بالتلاوة والعناية مثل اتجاهها إلى القرآن، فخلص القرآن الكريم من أي كلام بشري فيه، وحماه الله من أي كتاب آخر يضاهيه، وصارت السنة في مجال كتابتها وجمعها في مسار منفصل عن جمع القرآن؛ سواء أقام بذلك عالم أو علماء, لهم صلة بالخلافة أو ليس لهم صلة، وإنما قاموا بذلك كجهد شخصي من العلماء، فالقرآن الكريم مكتوب محفوظ لا يقبل زيادة أو نقصًا، ولا مجال للاجتهاد في تأليفه أو في كتابته أو في حرف من حروفه.

أما السنة فكل مجهود فيها مرتبطٌ بجهد كل من يشتغل بالسنة، وما اعتمده العالم المعتمد أو العلماء مخصوصٌ بما إذا لم يُعارض أو يخالفه ما هو أولى منه بالاعتبار، فاختُصت السنة فوق الثبوت عن الرسول e بوسائل التثبيت والتحقيق بتلاؤمها مع القرآن الكريم، وما اعتبرته الأمة من السنة، وتوقف اعتماد ما يخالف ذلك من حيث التطبيق أو انحصر في إطار ما يحيط به من ظروف، كما في الرُّخَص بشروطها المعتبرة في الترخيص.

ومن هنا سارت السنة في طريق خاصّ بها من حيث التدوين والجمع والمقارنة والترجيح، وانفرد القرآن بخواصّه المميزة له؛ من التعبد بتلاوته وعدم التدخّل في ثبوته بأي وجهٍ من الوجوه، وأمِنت الأمة برعاية الله وعنايته من الاختلاف في شيء من حروفه أو كلماته, أو ما صَرّح به تصريحًا لا يقبل التأويل، وبقي مجال البحث في ألفاظ الحديث ومعانيه وتناسبه مع القرآن الكريم وما اعتُمد من السنة، بقي ذلك كله مجال اجتهاد علماء الأمة في كل عصر من العصور.

وتعددت مناهج الجمع للسنة وتنوّعت التصانيف، فلم يشغل القرآن عن السنة كما لم تشغل السنة عن القرآن، وسارت الأمة على منهج أبي بكر وعمر إلى الآن، ولا يستقيم منهج تدوين السنة إلا على هذا الأساس؛ أي: اعتبار أي تدوين قابل للتحسين وقابل لتغيير الحكم إذا اقتضى البحث العلمي المعتمد هذا التغيير، وفي حديث عمر حول الرجم وحذره من أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله ما يؤكد هذا الاتجاه، وما كان الناس ليسمحوا أو يقبلوا أي زيادةٍ على كتاب الله، ولو في هامش المصحف، ولو على سبيل التفسير أو البيان أو إضافة أمر ثابت في السنة من الأقوال والأحكام، ولم يقل أحدٌ بنقص شيء من كتاب الله؛ لأن ذلك يخالف قول الله سبحانه: {ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ} [الحجر: 9].

error: النص محمي !!