Top
Image Alt

جنس الموصى به، ومقداره

  /  جنس الموصى به، ومقداره

جنس الموصى به، ومقداره

يُشترط في الموصى به عدة شروط:

الشرط الأول: أن يكون الموصى به مما يجري فيه الإرث أو الميراث, أو مما يصح أن يكون الموصى به محلًّا للتعاقد عليه حال حياة الموصي؛ ومعنى ذلك: أنّ الوصية تصح بكل ما يسمى تركة ويجري فيه الإرث.

ومن جانب آخر: إذا لم يكن هذا الشيء صالحًا لأن يورث، ولكن يصحُّ أن يكون محلًّا يجري عليه التعاقد حال حياة الموصي؛ جاز أن يكون محلًّا للوصية.

وإذا كان لا بد من تَوافر هذين الأمرين في الموصى به؛ أن يكون مما يجري فيه الإرث، وأن يكون محلًّا للتعاقد عليه حال الحياة, فلا تَصِحُّ الوصية بالميتة أو الدم؛ لأنّ هذا لا يصح أن يكون محلًّا للتعاقد عليه حال حياة الموصي، ولا يصح أيضًا أن يجري فيه الإرث.

كذلك مما قاله الفقهاء عدم جواز الوصية بالحقوق الشخصية المحضة؛ كالحق في الاسم كأن يقول شخص: أوصيت بأن يكون اسم ولدي هذا الذي تحمله أمه محمدًا، أو يكون شخص صاحب وظيفة أو صاحب ولاية عامة, بأن يقول: أوصيت بأن يتولى فلان هذا وظيفتي, فهذه حقوق شخصية محضة.

وكذلك الحق في الحضانة, بأن تقول امرأة لها حق في الحضانة: تنازلت عن حضانة هذا المحضون لفلان؛ فتتنازل عن حق الحضانة, وهذا حق شخصي لها فلا يجوز لها أن تتنازل عنه؛ لأن هذا المحضون له ترتيبات فيمن يتولى الحضانة بعد هذه المرأة.

وهكذا كل الحقوق الشخصية المحضة، ومنها الحق في الاسم والحق في الحضانة والولاية العامة والوظائف ونحوها؛ لأنه لا يجري فيها الإرث ولا يقع عليها التعاقد.

وعلى ذلك نستطيع أن نقول: ما يصح به الوصية إذًا هو الآتي:

أولًا: الأعيان المالية كالعقارات -فالعقارات كالأرض الزراعية أو المباني أو كل ما يطلق عليه عقار- والحيوانات والأثاث المنزلي, والأِشجار والنقود, ونحو ذلك؛ سواء كانت هذه الأعيان تحت حيازة الموصي أو كانت تحت يد غيره، بمعنى أن الموصي هو المالك لهذه الأعيان تمامًا كالمال الذي تحت يده، ولكن إذا لم تكن تحت حيازته؛ بأن كانت تحت يد وكيل عنه، أو له عقارات مُسْتَأجرة فهي تحت يد المستأجر، أو رهن عقارًا فهي تحت يد المرتهن، أو أعار شيئًا فهي تحت يد المستعير، ونحو ذلك، فهذه الأعيان المالية سواء كانت تحت يد الموصي، أو كانت تحت يد آخر لكنه هو المالك لها، فهذا مما تصح به الوصية.

ولو كانت أيضًا تحت يد آخر ظلمًا، كما لو كان له مال سُرق أو غصب منه، وهو في حيازة الغاصب أو السارق؛ فكُلّ هذه الصور المال فيها يكون في حكم المال المحوز للموصي، ويجري فيه الإرث وتصح فيه الوصية. هذه هي الأعيان المالية كالعقارات والمباني وغيرها.

ثانيًا: مما تصح به الوصية الحقوق المالية أو المُتعلقة بالمال؛ كحق الشخص في الديون التي تكون له في ذمة الغير، أو يكون له حق في غلة وقف كعقار موقوف, وهذا الموصي له حق في غلة هذا الوقف، هذا الحَقُّ في غَلّة الوقف ظَهَر ولم يَبْدُ صلاحه، بمعنى أن له نصيبًا في وقف كزرع مثلًا. ولو أن شخصًا ما وقف على أشخاص ما تنتجه هذه الأرض من الزراعة، مثل القمح مثلًا, فهذا القمح ظهر ولكنه لم ينضج بعد نضوجًا كاملًا؛ أصبح للموصي حق أو غلة، أو له دين في ذمة الغير فهذه حقوق مالية أو متعلقة بالغير ومما تصح الوصية بها؛ فيصح أن يوصي بمال هو دين له في ذمة الغير, ويصح أن يوصي بالغلة التي له حق فيها والتي ظهرت ولم يبد صلاحها, كحقه في قمح موقوف عليه وعلى غيره، ونصيبه أوصى به وهكذا.

ثالثًا: مما تصح الوصية به الحقوق التي ليست في ذاتها مالًا ولكنها تقوّم بالمال؛ كحق الشُّرب أو حق المرور ونحوهما؛ بمعنى: أنّ الشخص له حق في أن يروي أرضه الزراعية من مجرى ماء وهذا حق الشرب أو الزرع، فله الحق في أن يمر الماء عبر هذه القناة إلى أن يصل إلى أرضه، أو أن له الحق في أن يمر في أرض الجار إلى أن يصل إلى أرضه، وهذا الحق ثابت له, فهذه حقوق ليست في ذاتها مالًا ولكنها تُقَوّم بالمال؛ بمعنى: أنّه عند بيعها تقدر بمال أو عند التنازل عنها للغير تقدر بمال؛ فيجوز له أن يوصي بهذا النوع من الحقوق التي ليست في ذاتها مالًا، ولكنها تقدر بالمال كحق الشرب والمرور وغير ذلك.

رابعًا: كذلك مما تصح الوصية به المنافع التي يصح أن تكون محلًّا للتعاقد عليها, كمنفعة استعمال المنزل للسُّكنى، ومنفعة استعمال الأرض الزراعية في الزراعة، ونحو ذلك. فهذه المنفعة التي يصح أن تكون محلًّا للتعاقد عليها مثل السكنى والزراعة عند الحنفية وغيرهم, أو هذا الحق الأخير عند الحنفية وهو حق المنافع يقولون فيه: لا يورث عندنا، أي: حق المنفعة لا يورث عند الحنفية؛ لكن يصح التعاقد عليه عندهم؛ فهناك فَرقٌ بين عدم قولهم بجواز أن يُورث, وقولهم بصحة التعاقد عليه.

إذًا: المنافع يصح أن تكون محلًا للتعاقد عليها؛ فيجوز سُكْنى المنزل بالأجرة، وزراعة الأرض بالأجرة، والانتفاع بها في السكنى والزراعة عند الحنفية وغيرهم, وهذا الحق وهو المنافع يصح أن تكون محلًّا للوصية؛ لأنّه يَصحّ التعاقد عليها عند الحنفية وعند غيرهم؛ فلذلك صحت الوصية بالمنافع.

الشرط الثاني في الموصى به: أن يكون متقوّمًا, ومعنى متقوم هنا أن يكون له قيمة تجب بإتلافه عند الموصي إذا كان مالًا، وعلى ذلك كل ما لم يَكُن كذلك مما ليس له قيمة تجب بإتلافه لا تصح الوصية به عند الموصي، مثل أن يوصي المسلم بالخمر، فالخمر للمسلم ليس متقومًا، بمعنى أنه ليس له قيمة تجب بإتلافه, فلو أتلفه له مسلم لا يدفع له قيمة؛ لأن الخمر لا قيمة لها في الشريعة الإسلامية، وعليه يشترط في الموصى به أن يكون له قيمة تجب بإتلافه, فلا يصح للمسلم إذا أوصى أن يوصي بما ليس كذلك, ومثاله أن يوصي بالخمر.

كما أنّ المال المتقوّم هو الذي يكون في حِيازة صاحبه؛ فالمالُ الذي ليس في حيازة صاحبه ليس له قيمة تجب بإتلافه؛ لأنّه ليس له وجود في حيازة صاحبه، فَلَا تَصِحُّ الوَصِيّة بما ليس في حيازة المُوصِي؛ كالطير في الهواء والسمك في الماء.

وإذا كان الموصى به منفعة وجب أن تكون مضمونة بالمال عند فواتها, بمعنى: أن الوصية بسكنى الدار أو ركوب السيارة صحيحة؛ لأنّها تضمن بالمال عند فواتها, أي: لو أن شخصًا أجّر لشخص دارًا لمدة شهر، ولم يسكن المستأجر العين طيلة الشهر, فلا يقول لصاحب العين: إنّني لم أسْكُن طُوال الشهر وليس لك أجرة عندي، فما دام قد استأجر العين وجب أن تكون مضمونة بالمال, حتى ولو فات الانتفاع؛ فإذا كان المُوصى به منفعة وجب أن تكون مضمونة بالمال عند فواتها.

إذًا: تصح الوصية بسكنى الدار لأنها منفعة، وتكون مضمونة بالمال عند فواتها, وتصح الوصية بركوب السيارة, لكن لا تَصِحُّ الوصية بما لا يمكن التعويض عنه بالمال عند فواته، وضَرَب له الفقهاء أمثلة؛ كمَا لو أوصى شخص بالاستظلال بجدار داره أو بظل شجرة؛ هذا الظل يفوت بمرور الوقت وينتهي فينتقل الظل إلى مكان آخر، فَلو أوصَى بذلك يكون ليس له محل؛ لأنّ الوصية بذلك لا يعوض عنها عند فواتها؛ أي: لو أن شخصًا أوصى بذلك وفاته التعويض عن ذلك لا يعوض عنه، أو لا يمكن أن يكون محلًّا للتعويض عنه عند فواته، بمعنى: لو أن شخصًا باع هذا الظل لشخص، وعندما جاء الشخص لينتفع فات الظل, فلا يمكنه أن يعوض عنه بعد فواته.

الشرط الثالث من شروط الموصى به: أن يكون الموصى به موجودًا في ملك الموصي عند الوصية وحتى الوفاة، وذلك إذا كان معينًا بالذات أو بجزء شائع في عين معينة كالثُّلث أو الرُّبع. فالوَصية بشيء معين بالذات كدارٍ مُعَيّنة, حيث يقول: أوصيت لفلان بالدار الفلانية، أو أوصيت لفلان بالمزرعة التي توجد في المكان الفلاني والتي حدودها كذا وكذا، أو يوصي بجزء شائع فيها فيقول: أوصيتُ لفلانٍ بثُلث المَزرعة أو بنصف الدار.

فيشترط لصحة الوصية بذات العين أو بجزء شائع فيها: أن تكون هذه العين موجودة عند إنشاء الوصية وحتى وقت التنفيذ، ووقت تنفيذ الوصية تكون عند وفاة الموصي. فإذا خرجت الوصية عن ملك الموصي، أو هلكت بطلت الوصية؛ لأن الموصي ما زال على قيد الحياة والتنفيذ يبدأ عند وفاته.

فإذا كان الموصى به معينًا بالنوع أو بحصة شائعة أو بعدد شائع, أي: عنده مثلًا عدد كبير من الأغنام, فيُوصي بعدد شائع من هذه الأغنام، وقد يُوصي بها كلها؛ كأنْ يوصي بغنمه أو بإبله أو بأرضه الزراعية, ونحو ذلك يأخذ نفس الحُكم الذي قلناه في صحة الوصية ما دام الموصى به موجودًا عند وفاة الموصي.

وإذا أوْصَى بحِصّة شائعة في معين بنوعه, كأن يوصي مثلًا بثلث الغنم أو نصف الماشية، أو بعدد شائع في نوع من أمواله كأن يقول مثلًا: أوصيت بخمسة فدادين من الأراضي الزراعية التي في ملكي, فكل ذلك مما تصح به الوصية؛ لأنه يعتبر موجودًا، وتتعلق به الوصية ما دام موجودًا عند الوفاة، ولكنه مقيد بأن يكون في حدود ثلث التركة؛ لأن الوصية لا تجوز بالزائد على الثلث إلا إذا أجازها الورثة.

error: النص محمي !!