جوازُ فتح وكسْر همزة “إنَّ”
يجوزُ فتْحُ وكسْرُ همزة “إِنَّ” باعتباريْن مختلفَيْن، وذلك في مواضع تسعة:
أحدهَا: أن تقع بعد “فاء” الجزاء، نحو قوله تعالى: {فَأَنّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ} من قوله تعالى: {مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوَءًا بِجَهَالَةٍ ثُمّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ} [الأنعام: 54]، قُرئ بكسْر “إِنَّ” وفتْحها. فالكسر على معنى: فهو غفور رحيم؛ فما بعد الفاء: جملة تامة. والفتْح على تقدير “أّنَّ” ومعموليْها: مبتدأ خبرُه محذوف، أو خبرُ مبتدأ محذوف، على معنى: فالغفرانُ والرحمة، أي: حاصلان، أو فالحاصل: الغفران والرحمة، كما قال تعالى: {وَإِن مّسّهُ الشّرّ فَيَئُوسٌ} [فُصِّلَت: 49]، أي: فهو يؤوس.
الثاني: أن تقع بعد “إذا” الفجائية كقول الشاعر:
وكنتُ أُرَى زيدًًا كما قيل سّيِّدًا | * | إذا أنَّهُ عبدُ القَفَا واللَّهازِمِ |
يُروى البيت بكسر همزة “إنّ” في قوله: “إِذَا إِنَّهُ”، وفتْحها؛ فالكسر على معنى: فإذا هو عبدُ القفا.
والفتح على معنى: فإذا العبودية، أي: حاصلة، كما تقول: “خرجتُ فإذا الأسدُ”، أي: حاضر.
الثالثُ: أن تقع في موضع التعليل، نحو قوله تعالى: {إِنّهُ هُوَ الْبَرّ الرّحِيمُ} مِن قوله تعالى: {إِنّا كُنّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنّهُ هُوَ الْبَرّ الرّحِيمُ} [الطور: 28]، قرأ نافع والكسائي بالفتْح على تقدير “لام” العلّة، أي: لأنّه. وقرأ الباقون من السبعة بالكسْر على أنه تعليل مستأنَف، فكأنهم لمّا قالوا: {إِنّا كُنّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} [الطور: 28] قيل لهم: لِمَ فعلْتم ذلك؟ فقالوا: {إِنّهُ هُوَ الْبَرّ الرّحِيمُ} فهو تعليل جُمَليّ.
ومثله: قوله تعالى: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ} [التوبة: 103]، بكسْر {إِنّ} ، على أنه تعليل مستأنف.
ومثْله: الحديث الشريف: ((لبّيْك إنّ الحمدَ والنعمةَ لك))، يُروى بكسْر “إنّ” وفتْحها.
الرابعُ: أن تقع بعد فعْلِ قَسمٍ، ولا “لام” بعْدها، كقول الشاعر:
أو تحلِفي بربِّك العَلِيِّ | * | أنّي أبو ذَيَّالِكِ الصَّبِيِّ |
يُروى بكسْر “إنّ” وفتْحها؛ فالكسر على الجواب للقَسَم، والبصريّون يُوجبونه. والفتح بتقدير: “على”، و “أنّ” مؤوّلة بمصدرٍ معمولٍ لفعْل القَسم، وهو: “تحلفي” بإسقاط الخافض.
ولو أُضمر الفعل -أي: فعل القَسم- أو ذُكرت “اللام”، وذُكِر فِعل القَسم، تعيّن الكسْر إجماعًًا من العرب، نحو: “واللهِ إنّ زيدًًا لقائم”، أو “قائم”، و”حلفتُ إنّ زيدًًا لقائم”.
الخامسُ: أن تقع خبرًًا عن قول، ومُخبَرًًا عنها بقول، والقائل للقوليْن شخص واحد، نحو: “قَوْلِي: إنِّي أحمد الله”، بفتح “إنّ” وكسْرها.
فإذا فُتحت الهمزة، فالقول على حقيقته مِن المصدرية، أي: “قوْلي: حَمْدُ الله”. وإذا كُسرت، فهو بمعنى المَقُول، أي: “مَقُولي إِنِّي أحمدُ الله”.
ولو انتفى القول الأوّل، فُتُحِتْ “إنَّ” وجوبًًا، نحو: “عَمَلِي أَنِّي أحمدُ الله”؛ لأنها خبر عن اسم معنىً غير قول، والتقدير: “عَمَلِي حَمْدُ الله”.
ولو انتفى القول الثاني، أو وُجِدَ القولان ولكن اختلف القائل لهما، كُسِرتْ وجوبًًا فيهما. فالأوّل نحو: “قَوْلِي: إِنِّي مؤمن”؛ فالقول بمعنى المَقُول: مبتدأ. وجملة: “إنّي مؤمن”: خبره.
والثاني نحو: “قَوْلي: إنّ زيدًًا يَحْمَدُ الله”؛ فـ”قولي” بمعنى: مَقولي، كالجملة السابقة.
السادسُ: أن تقع بعد “واو” مسبوقةٍ بمفردٍ صالحٍ للعطف عليه، نحو قوله تعالى: {إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ}(118) {وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ} [طه: 118- 119]، قرأ نافع وأبو بكر بالكسْر في {وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ} ، إمّا على الاستئناف؛ فتكون جملة منقطعة عمّا قبلها، أو بالعطف على جملة: {إِنّ}، وهي: {إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ} وعليهما، فلا محلّ لها من الإعراب.
وقرأ الباقون من السبعة بالفتْح بالعطف على {أَلاّ تَجُوعَ} مِن عطف المفرد على مثْله، والتقدير: إنّ لك عدمَ الجوعِ، وعدمَ الظمإِ.
السابعُ: أن تقع بعد “حتى”. ويختص الكسر بالابتدائية، نحو: “مَرِضَ زيد حتى إِنَّهُم لا يرْجونه”. ويختصّ الفتح بالجارّة والعاطفة، نحو: “عَرَفْتُ أُمورَكَ حتى إَنَّك فاضلٌ”؛ فـ”حتى” في هذا المثال تصلح أن تكون جارّة، وأن تكون عاطفةً. و”أَنَّ” فيهما مفتوحةٌ.
فإن قُدّرت “حتى” جارّة، فـ”أنّ”: في موضع جرٍّ بها. وإن قدّرتها عاطفة، فـ”أنّ”: في موضع نصْب. والتقدير على الجرّ: عَرَفتُ أمورَك إلى فضلك، وعلى النصب: عَرَفْتُ أُمُورَك وفَضْلَكَ.
الثامنُ: أن تقع بعد “أَمَا”، نحو: “أَمَا إَِنَّكَ فاضل”؛ فالكسر على أنها -أي: أَمَا- حرفُ استفتاح بمنزلة: “أَلاَ”، والفتح على أنها مركّبة من همزة الاستفهام و”ما” النكرة العامّة بمعنى: “شيء”، وصارا بعد التركيب بمعنى “أَحقًًّا”؛ وهو قليل.
التاسعُ: أن تقع بعد “لا جَرَمَ”، والغالب الفتح، نحو قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ} [النحل: 23]، فالفتح عند سيبويه على أنّ{ جَرَمَ } : فعلٌ ماضٍ، معناه: وجب. و{أَنّ} مع صلتها: فاعلٌ. أي: وَجَبَ أَنَّ الله يعلَمُ. و{لا} : صلَة. والفتح عند الفرّاء على أنّ{اَ جَرَمَ} : مركّبة من حرف، واسم، بمنزلة: “لا رَجُلَ” في التركيب. ومعناهما بعد التركيب: “لا بُدّ”، أو “لا مَحَالةَ”. و “مِنْ”، أو “في” بعدهما: مقدّرة، أي: لا بُدّ مِنْ أنّ الله يعلَم، أو لا محالةَ في أَنّ الله يعلم. والكسر على ما حكاه الفراء عن العرب، من أنّ بعضهم يُنَزِّلُها منزلةَ اليمين، فيقول: “لا جَرَمَ لآتينَّك”.