جواز النسخ ووقوعه، وآراء العلماء فيه
قلنا: إن النسخ يطلق في اللغة على رفع الشيء، أي: إبطاله وإزالته، ومنه: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] كما يطلق على النقل والتحويل، ومنه قولهم: “نسخت الكتاب”.
أما النسخ في الاصطلاح: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متراخٍ عنه.
وبناءً على هذا فرفع حكم النفي الأصلي بدليل شرعي، لا يسمى نسخًا؛ لأنه ليس برفع للحكم الشرعي.
وقلنا: إن الرفع بالموت أو الجنون، لا يسمى نسخًا؛ لأن هذا الرفع ليس بدليل شرعي أيضًا.
وقلنا: إن تقييد الدليل الشرعي بالتراخي؛ لأنه لو كان متصلًا بالحكم الأول، كالاستثناء والشرط والغاية لا يسمى نسخًا، بل يسمى تخصيصًا.
وقلنا: إن النسخ قطع لدوام الحكم الأول وليس بيانًا لمدته، فهو شبيه بفسخ الإجارة؛ إذ لولا الفسخ لاستمر حكمها، وليس شبيهًا بزوال حكم الإجارة عند انقضاء مدتها؛ إذ إن بيان مدتها يسمى تخصيصًا، كما في قوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
هذا حاصل ما ذكرناه في تعريف النسخ لغةً واصطلاحًا في الدرس الماضي، وهو تعريف جمهور أهل العلم، واختاره ابن قدامة في روضته.
وقد ذكر ابن قدامة تعريف النسخ عند المعتزلة، وقلنا: إن المعتزلة عرفوا النسخ بأنه: الخطاب الدال على أن الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه كان ثابتًا.
واختار هذا التعريف أبو حامد الغزالي، وقد شرحناه -والحمد لله- في الدرس الماضي.
وقلنا: إن تعريف المعتزلة فاسد؛ لأنه تعريف للناسخ لا للنسخ، إذ إن حقيقة النسخ الرفع وقد أخلوا التعريف عنه.
فإن قيل: إن تعريف النسخ بأنه: رفع الحكم… إلى آخره. وهو تعريف الجمهور باطل؛ لأن الحكم الأول إن كان ثابتًا فلا يمكن رفعه، وإن كان غير ثابت فلا حاجة لرفعه.
أجبنا: بأنه رفع لاستمرار ثبوته ونظيره الكسر مع المكسور -وهذا كلام ابن قدامة- فلو قال قائل: إن كان مكسورًا فلا حاجة لكسره، وإن كان غير مكسور فكيف ينكسر فيكون كلامه باطلًا؛ إذ إن المراد أنه لولا الكسر لبقي غير مكسور.
وقلنا: إن النسخ يجتمع مع التخصيص في سلب ما تناوله اللفظ من العموم، ويفترقان في أمور:
منها: أن النسخ يشترط فيه تراخيه بخلاف التخصيص.
ومنها: أن النسخ لا يكون إلا بخطاب، والتخصيص يجوز بأدلة العقل والقرائن، كما في قول الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، ونحو: { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] فالعقل قد خصص بعض هذه الأشياء.
وقلنا أيضًا: إن النسخ لا يدخل الأخبار والتخصيص يدخلها. و لا يبقى معه دَلالة اللفظ على ما تحته والتخصيص لا ينتفي معه ذلك.
هذا، وقد حقق العلامة ابن القيم -كما ذكرنا في الدرس الماضي- أنه لا فرقَ عند السلف بين التخصيص والنسخ. والراجح: وجود فرق بين التخصيص وبين النسخ كما ذكرنا.
مسألة جواز النسخ ووقوعه: أو بمعنى آخر: موقف العلماء من النسخ، هل هو جائز أو غير جائز.
هناك إجماع بين العلماء على أن النسخ جائز عقلًا، وواقع سمعًا -يعني: شرعًا- فالعقل لا يمنعه والشرع قد جاء به.
فهذا إجماع بين العلماء إلا ما يروَى عن أبي مسلم الأصفهاني وهو:
محمد بن بحر الأصفهاني، عالم نحوي كاتب بليغ، متكلم عالم بالتفسير وغيره من سائر العلوم النقلية والعقلية، وهو من مشاهير المعتزلة، وتوفي في القرن الرابع الهجري.
فأبو مسلم الأصفهاني يرى أن النسخ جائز عقلًا لكنه لم يقع.
والنقول عن أبي مسلم متضاربة، فبعضهم ينقل عنه نفي الوقوع مطلقًا يعني: لا عقلًا ولا نقلًا، وبعضهم -أي: بعض العلماء- ينقل عنه أنه يقول بوقوعه بين الشرائع بعضها مع بعض، وينكر وقوعه في الشريعة الواحدة.
وقد حاول بعض العلماء أن يجعل الخلاف بين أبي مسلم وبين الجمهور خلافًا لفظيًّا، فقال ابن دقيق العيد: نقل عن بعض المسلمين إنكار النسخ لا بمعنى أن الحكم الثابت لا يرتفع، بل بمعنى ينتهي بنص دل على انتهائه، فلا يكون نسخًا بل تخصيصًا.
هذا حاصل كلام ابن دقيق العيد، وقد حاول فيه أن يجعل الخلاف بين أبي مسلم الأصفهاني وبين الجمهور خلافًا لفظيًّا.
كما نقل عنه بعض العلماء أنه إنما أنكر الجواز وأن خلافه في القرآن خاصة يعني: وجود النسخ في القرآن خاصة، قال الشوكاني -رحمه الله- ردًّا على هذه الافتراضات والتأويلات من بعض العلماء: وعلى كلا التقديرين فذلك جهالة منه عظيمة للكتاب والسنة ولأحكام العقل؛ فإنه إن اعترف بأن شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع، فهذا بمجرده يوجب عليه الرجوع عن قوله، وإن كان لا يعلم ذلك فهو جاهل بما هو من الضروريات الدينية.
انتهى كلام الشوكاني -رحمه الله-.
ولم يخالف -كما قلنا- في جواز النسخ من المسلمين إلا ما نقل عن أبي مسلم.
وزعم فريقٌ من اليهود: أن النسخ لا يجوز عقلًا لما يلزمه في نظرهم من البداء، وهو: ظهور الحكمة بعد خفائها. -وقد وضحنا معنى البداء في الدرس الماضي- فقالوا -أي: اليهود-: إن النسخ إن لم يكن لحكمة كان عبثًا يتنزه الله تعالى عنه، وإن كان لحكمة فإنه يقتضي ظهور مصلحة لم تكن ظاهرة له سبحانه، وذلك محالٌ عليه.
هذه وجهة نظر اليهود في منع النسخ عقلًا.
وللرد على هذا الكلام نقول: لا علاقة بين النسخ والبداء، لا من قريب ولا من بعيد؛ فالبداء عبارة عن ظهور الشيء بعد خفائه، وهذا إنما يجوز على البشر؛ لأنهم لا يعلمون الغيب، أما الخالق -جل وعلا- فإنه حينما يشرع حكمًا من الأحكام، إنما يعلم أزلًا ما سيبقى من هذا الحكم وما سينسخ، ويعلم الحكم الذي سيحل محل المنسوخ، ويعلم كذلك الوقت الذي سيتم فيه هذا كله، فإذا كانت الشريعة مؤقتة علِم وهو يشرعها متى تنسخ كلها بالشريعة اللاحقة، وعلم حقيقة الشريعة الناسخة وأحكامها الكلية والجزئية، وعلم ما بين الشريعتين من اختلاف في الأحكام الفرعية العملية، وهي التي تقبل النسخ دون غيرها.
ومعنى هذا: أن الله عز وجل حين ينسخ حكمًا في شريعة إنما يكشف لنا بهذا النسخ عن شيءٍ من علمه السابق، ومن ثم يعتبر النسخ نوعًا من أنواع البيان، ولا يعني بأي حال وصف الله سبحانه وتعالى بالبداء؛ فالحكمة في نسخ بعض الأحكام ترجع إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقيها.
وبيانُ ذلك: أن الأمة الإسلامية من بدايتها حين صدعها الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته كانت تعاني فترة انتقال شاق، بل كان أشق ما يكون عليها في ترك عقائدها، وموروثاتها وعاداتها، خصوصًا مع ما هو معروف عند العرب الذين فوجئوا بالإسلام من التحمس؛ لِمَا يعتقدون أنه من مفاخرهم وأمجادهم، فلو أخذوا بهذا الدين الجديد مرة واحدة، لأدى ذلك إلى نقيض المقصود، ومات الإسلام في مهده، ولم يجد أنصارًا يعتنقونه ويدافعون عنه.
ومن هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشي على مهل، متألفة بهم، متلطفة في دعوتهم، متدرجة بهم إلى الكمال رويدًا رويدًا، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئًا فشيئًا، منتهزة فرصة الإلف والمران لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب، حتى تم الأمر ونجح الإسلام نجاحًا لم يعرف مثله في سرعته، وامتزاج النفوس به، ونهضة البشرية بسببه.
كذا قرره الشيخ الزرقاني -رحمه الله- في (مناهل العرفان).
أقول: ونظير ذلك ما يفعل الطبيب بالمريض، فهو يأمره بتعاطي دواء ما في مرحلة من مراحل مرضه، ثم ينهاه عنه ويأمره بتعاطي غيره في مرحلة أخرى. وكذلك الوالد في تأديب ولده فإنه يعامله في كل مرحلة من مراحل حياته بما يلائمه وهو يعلم من قبلُ ما يلائم كلَّ مرحلة.
فكذلك المشرع الحكيم يتدرج بالمكلفين ولا يفاجئهم بما يثقل عليهم؛ حتى لا يدفعهم إلى العصيان مع علمه الأزلي بما يناسب كل مرحلة من مراحل هذا التدرج.
الأدلة على جواز النسخ ووقوعه:
ولننتقل إلى الأدلة على جواز النسخ ووقوعه، وقد عرفتم الآن أن الخلاف بين الجمهور وبين أبي مسلم الأصفهاني؛ فالجمهور يرون جواز النسخ ووقوعه.
وقد استدل الجمهور على جواز النسخ على الجواز العقلي بدليلين هما:
الدليل الأول:
أن النسخ لا يترتب على فرض وقوعه محالٌ، بمعنى: لو فرضنا وقوع النسخ في الواقع ونفس الأمر، فهذا لا يترتب عليه محال فيكون جائزًا، فكل ما لا يترتب على فرض وقوعه محال فيكون جائزًا.
وبيان ذلك: أن أحكام الله تعالى إما أن تشرع لمصالح العباد كما هو مذهب المعتزلة، أو لا تشرع لمصالحه.
فإن قيل بالأول -يعني: أن الأحكام شرعت لمصالح العباد- فلا شك أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص، كما تختلف باختلاف الأزمان -وقد بينا ذلك، والحمد لله- فما يكون مصلحة لشخص قد لا يكون مصلحة لشخص آخر، كشرب الدواء مثلا فهو مصلحة للمريض دون الصحيح، وكذلك ما يكون مصلحة لشخص في زمن، قد لا يكون مصلحة له في زمن آخر، كشرب الدواء أيضًا بالنسبة لمريض فهو مصلحة له في زمن مرضه، غير مصلحة له في زمن صحته، وما دامت المصالح تختلف باختلاف الأزمان والأشخاص، والأحكام يراعى في شرعيتها مصالح العباد -كما يقول المعتزلة- فلا شك أن ذلك مما يجعل النسخ أمرًا لا بد منه وليس ممتنعًا.
وإن قيل بالثاني -وهو أن الأحكام لا يراعى في شرعيتها مصالح العباد- فالأمر ظاهر أيضًا وهو أن النسخ لا يترتب عليه محال؛ لأنه لم يخرج عن كونه فعلًا من أفعال الله تعالى، وله تعالى أن يفعل كيف يشاء، ويحكم كيف يريد: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
ومن هنا يظهر لنا بوضوح أن النسخ في الحالتين –أي: حالة مراعاة مصالح العباد، أو عدم مراعاتها- لا يترتب على فرض وقوعه محال، فكان جائزًا عقلًا؛ لأن هذا هو شأن الجواز العقلي؛ فالعلماء يقولون: كل ما لا يترتب على فرض وقوعه محال فهو جائز عقلًا، والنسخ لا يترتب على فرض وقوعه محال، فيكون جائزًا عقلًا.
مناقشة هذا الدليل:
وقد نُوقِشَ هذا الدليل من قبل القائلين بعدم الجواز العقلي بأن النسخ يترتب عليه محال، فيكون محالًا.
بيان ذلك: أن الحكم الناسخ إما أن يكون قد شرع لمصلحة علمها الله تعالى بعد أن لم يكن علمها، أو يكون قد شرع لا لمصلحة.
فإن كان الأول فقد تحقق البداء وهو الظهور بعد الخفاء، وهو على الله تعالى محال؛ لما يلزمه من نسبة الجهل إليه تعالى.
وإن كان الثاني -يعني: شرع لغير مصلحة- كان عبثًا، وهو أيضًا على الله تعالى محال.
وعليه فالنسخ يترتب عليه محال، فيكون محالًا.
جواب الجمهور:
وقد أجاب الجمهور على هذه المناقشة: بأن هناك قسمًا ثالثًا قد تركتموه، فلنا: أن تختاره وهو أن الله تعالى شرع الحكم الناسخ لمصلحة علمها أزلًا لم تخف عليه أصلًا، ولكن وقتها إنما يجيء عند انتهاء الحكم المنسوخ، بما اشتمل عليه من المصلحة، ومعلوم أن هذا لا يترتب عليه بداء ولا عبث، كما تزعمون.
إلى هنا انتهى الدليل الأول من أدلة الجمهور على جواز النسخ عقلًا والمناقشة الواردة عليه والرد على هذه المناقشة.
الدليل الثاني:
وهناك دليلٌ ثانٍ للجمهور على جواز النسخ عقلًا، حاصله: أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت بالدليل القاطع، وهو المعجزة الدالة على ذلك، وعليه فيكون صادقًا فيما يقوله عن ربه وينقله عنه، وقد نقل لنا عن الله تعالى قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106].
ومعنى هذه الآية: إن ننسخ نأت، ومثل ذلك إنما يقال فيما هو جائز عقلًا، لا في ما هو محال. ومن ثم فالآية تدل على جواز النسخ، وهو المطلوب.
مناقشة هذا الدليل:
وقد ناقش المخالف أيضًا هذا الدليل بأن المراد من النسخ في الآية الإزالة، ونسخ الآية معناه إزالتها عن اللوح المحفوظ.
جواب الجمهور:
وقد رد الجمهور على هذه المناقشة بما يلي:
قالوا: ليس المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ كما تزعمون؛ فإن الله تعالى قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} والقرآن خيرٌ كله من غير تفاوت فيه، فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ وكتابة أخرى بدلها، لما تحقق هذا الوصف، وإنما تتحقق الخيرية بالنسبة إلينا فيما يرجع إلى أحكام الآيات المرفوعة عنا، والموضوعة علينا؛ من حيث إن البعض قد يكون أخف من البعض فيما يرجع إلى تحمل المشقة أو ثواب البعض أجزل من ثواب البعض على اختلاف المذاهب، فوجب حمل النسخ في الآية على نسخ أحكام الآيات لا على ما ذكروه.
وإلى هنا انتهى دليل الجمهور على جواز النسخ عقلًا.
الدليل على وقوع النسخ شرعًا:
أما الدليل على وقوع النسخ -أي: شرعًا- فقد استدلوا على ذلك بأدلة كثيرة جدًّا، نذكر أهمها:
أولًا: التوجه إلى بيت المقدس كان واجبًا، وظل المسلمون يصلون جهة بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، كما جاء في صحيح الحديث، ثم زال هذا الوجوب بالتوجه إلى بيت الله الحرام. فهذا من الأدلة على وقوع النسخ شرعًا.
ثانيًا: تقديم الصدقة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم كان واجبًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] ثم نسخ وجوب تقديم الصدقة عند المناجاة بقوله تعالى: { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } [المجادلة: 13].
فهذا مثالٌ آخر على وقوع النسخ شرعًا.
ثالثًا: الوصية للوالدين والأقربين كانت واجبة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] ثم نسخت بآية المواريث أو بحديث: ((لا وصية لوارث)).
رابعًا: عدة المتوفى عنها زوجها كانت حولًا كاملًا لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] ثم نسخ ذلك بتربصها أربعة أشهر وعشرًا فقط؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].
إلى غير ذلك مما ورد به القرآن الكريم، وفي هذا ردٌّ على أبي مسلم الأصفهاني ومن وافقه في عدم وقوع النسخ شرعًا.
وهناك آيات كثيرة تدل على وقوع النسخ شرعًا نذكر منها الآية الأولى، قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106].
وقبل أن نذكر خلاصة كلام المحققين في تفسيرها يجب أن نورد سبب نزول هذه الآية؛ فإن ذلك يعين على فهم المقصود منها.
قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: سبب نزول هذه الآية أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة، وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إن محمدًا يأمر أصحابه بشيء، ثم ينهاهم عنه، ويقول اليوم قولًا، ويرجع عنه غدًا، فما هذا القرآن إلا من كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، ولهذا يناقض بعضه بعضًا؛ فأنزل الله تعالى: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] وأنزل: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} الآية.
وجمهور المفسرين على أن المراد من لفظة: { آَيَةٍ } في قوله: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} هي الآية القرآنية، وإذا تتبعنا ورود ذلك في القرآن الكريم نجد ما يؤيد هذا المسلك.
فالمراد بلفظ: {آَيَةٍ } في قوله: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} الآية القرآنية.
يؤيد ذلك قول الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ} [هود: 1]، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان: 7] وقال تعالى: { بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [العنكبوت: 49] إلى غير ذلك من الآيات التي تنص على أن المراد بلفظ آية هي الآية القرآنية.
وذهب بعضهم إلى أنها: الآية الكونية أو المعجزة التي يؤيد الله بها أنبياءه، لكن هذا المعنى لا يتفق وسياق الآية الكريمة، كما أنه مخالف لما ورد في سبب نزول هذه الآية.
وفي تفسير الخازن: الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أن المراد من النسخ هو رفع حكم بعض الآيات بدليل آخر يأتي بعده، وهو المراد بقوله تعالى: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} إلى آخر الآية الكريمة. قال: لأن الآية إذا أطلقت فالمراد بها آيات القرآن؛ لأنه هو المعهود عندنا.
الحاصل: أن هذه الآية دليلٌ واضح على أن الله تعالى نسخ بعض الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية، وأثبت أحكامًا غيرها، ونزل القرآن بالأحكام المنسوخة، ثم بنواسخها بعد ذلك، ولما ظهر هذا التبديل في الأحكام، وذلك التغيير في آيات القرآن، اتهم المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب، وقالوا: إنما أنت مفتر مختلق، تتقول الآيات من عند نفسك، وتؤلفها من فكرك، ثم تدعي زورًا أنها قد نزلت عليك من عند الله تعالى، فبادرت الآية الكريمة بالإشارة إلى أن هذا التبديل الذي يحدث إنما هو من عند الله عز وجل، وليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما زعموا.
وأن هذا التبديل في الآيات -أي: النسخ- إنما وقع في القرآن لحكمة عظيمة يعلمها الله تعالى منذ الأزل، ولم يقع عبثًا بقول محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن سخرية بأصحابه الأجلاء، كما زعم الأغبياء الجهلاء، والآية حينما تسجل هذا الموقف المشين الذي وقفه المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، إنما تسجله بقصد الرد على مفترياتهم ببيان خطأ ما نسبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي تذكر في صدرها أن الله هو الذي يبدل آية مكان آية، فأسند التبديل إلى ذاته الشريفة، وتذكر الآية كذلك أن الله عالم بهذا التبديل، وأنه لمصلحة عباده ومنفعتهم، ثم تذكر اتهامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالافتراء زورًا وبهتانًا، وحقدًا وحسدًا، وتتبعها بما يثبت جهلهم، وأنهم هم المفترون عليه، وتبين الآية السبب في هذا الخطأ وذلك للاتهام الباطل بقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 24] ثم ينزل الله تعالى آية ثانية بعدها، يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بأن يواجههم بهذا الرد المفحم، وهو أن التنزيل وحي سماوي بالحق من لدن حكيم حميد، قل نزله روح القدس، وتبين الآية حكمة هذا النسخ وغايته من تثبيتٍ للمؤمنين، وهدايةٍ للمسلمين، وبشارة للموحدين، وهي قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
دليل الإجماع على ثبوت النسخ ووقوعه شرعًا:
وننتقل بعد ذلك إلى دليل الإجماع على ثبوت النسخ ووقوعه شرعًا، فإن جميع العلماء يقرون وقوع النسخ -كما ذكرنا في أول الدرس- إلا أبا مسلم الأصفهاني -الذي تقدم الكلام عنه أثناء حكاية مذاهب العلماء في النسخ- وبالأخص الإمام الشافعي -رحمه الله- الذي وضع اللبنة الأولى لعلم الأصول بتأليف كتابه المسمى بـ(الرسالة) كان من بين ما حوته هذه الرسالة تحريره لمدلول النسخ، وبيان ما هو نسخ مما ليس بنسخ، وذكر الحكمة فيه، وبين مذهبه وهو أن القرآن لا ينسخه إلا القرآن، وأن السنة لا ينسخها إلا سنة مثلها، ودعم ذلك بذكر أمثلة تثبت وقوع النسخ في القرآن الكريم، ذكرنا -والحمد لله- طرفًا منها.
وإذا كان المفسرون وعلماء الأصول قد عالجوا قضايا النسخ في أثناء كتبهم؛ فإن هناك العديد من العلماء في العصور المختلفة قد ألفوا كتبًا خاصةً ببيان النسخ في القرآن الكريم، وهذه الكتب منها ما هو مخطوط، ومنها وما هو مطبوع، ومنها ما أشارت له كتب التراجم والتاريخ، وكل ذلك يدل دَلالة قاطعة على أن المنكرين لوقوع النسخ قد خالفوا النص القرآني والسنة النبوية الصحيحة، ومنطق العقل السليم، وإجماع المجتهدين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
دليل أبي مسلم الأصفهاني:
بقي أن نذكر الدليل الذي تمسك به أبو مسلم الأصفهاني في عدم وقوع النسخ، فقد استدل أبو مسلم على جواز النسخ عقلًا بما استدل به المجوزون، وقد سبق بيان ذلك.
أما دليله على أن النسخ غير واقع في الشريعة الواحدة، ودليله أيضًا على أن القرآن لا ينسخ بعضه بعضًا، فهو قول الله تعالى في وصف كتابه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
ووجه الاستدلال من الآية -كما يراه أبو مسلم الأصفهاني- أن النسخ باطل؛ لأن فيه إلغاء للحكم المنسوخ، فلو وقع في القرآن لأتاه الباطل، وفي ذلك تكذيبٌ لخبر الله تعالى، والكذب في خبر الله تعالى محالٌ.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك بما يلي:
أولًا: قالوا: لا نسلم أن النسخ باطل، بل هو إبطال؛ لأن الباطل ضد الحق، والنسخ حق، فليس في الآية ما يدل على امتناع النسخ، ومعنى الآية -كما قال العلماء-: أن هذا الكتاب لا يدخل إليه التحريفُ والتبديل، ولا يكون فيه تناقض أو اختلاف، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.
ثانيًا: قالوا: إن سلمنا أن النسخ باطل، لكن نقول: إن الضمير في قوله: { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} راجع إلى مجموع القرآن، وعليه فيكون معنى الآية: إن كل القرآن لا يأتيه الباطل -أي: النسخ- ونحن جميعًا متفقون على أن النسخ لا يرد على كل القرآن.
ثالثًا: سلمنا أيضًا أن النسخ باطل، لكن معنى الآية أنه لم يتقدم على القرآن من كتب الله تعالى ما يبطله، ولا يأتي من بعده من كتب الله تعالى ما يبطله، وهذا لا ينافي أنه ينسخ بعضه بعضًا.
الراجح:
ولنا بعد ذلك أن نرجح مذهب جمهور العلماء الذين يرون أن النسخ جائز عقلًا وواقع شرعًا بين الشرائع المختلفة، وفي الشريعة الواحدة، وهذا هو الراجح؛ لقوة أدلته التي اعتمدوا عليها وسلامتها مما يعارضها، ولا يعول على كلام المانعين؛ لضعف أدلتهم، وخلو دعواهم عن الدليل الذي يدل عليها.