جواز نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بالسنة،والاختلاف على نسخ السنة بالقرآن والعكس
واتّفق العلماء على جواز نسْخ القرآن بالقرآن، وجواز نسخ السُّنّة بالسُّنّة؛ واختلفوا: هل تُنسَخ السُّنّة بالقرآن؟ والقرآن بالسُّنّة؟.
فطائفة أجازت كلّ ذلك، وقال ابن حزم: “كلُّ ذلك يَنسخ بعضُه بعضًا. وبرهان ذلك: ما جاء من وجوب لِما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كوجوب الطاعة لِما جاء في القرآن، ولا فَرْق، وأنّ كلّ ذلك من عند الله سبحانه وتعالى قال الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. فإذا كان كلامه صلى الله عليه وسلم وحيًا من عند الله سبحانه، والقرآن وحْي، فنَسْخ الوحْي بالوحْي جائز”.
واحتجّ مَن مَنع ذلك بقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} [يونس: 15]، قال ابن حزم: “وهذا لا حُجّة لهم فيه، لأننا لم نَقُلْ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بدّلَه من تلقاء نفسه، وإنما نقول: أنه صلى الله عليه وسلم بدّلَه بوحي من عند اللهسبحانه وتعالى امتثالًا لأمْره سبحانه، بعد قوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي}.
واحتجّوا أيضًا بقول الله سبحانه وتعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 106]، فقالوا: إنّ السُّنّة ليست مثْل القرآن ولا خَيْرًا منه. قال ابن حزم: “وهذا أيضًا لا حُجّة لهم فيه؛ لأنّ القرآن الكريم ليس بعضُه خيرًا مِن بعْض؛ وإنَّما المعنى: نأتِ بخيْرٍ منها لَكُم، أو مثْلها لكم، أي: في الأجر والثواب. فمعنى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} أي: أنفَع منها؛ لأنّ النّاسخ لا يخلو من أحد النِّعمتيْن: إمّا أن يكون أثقل في الحُكم فيكون أوفَرَ في الأجْر، وإمّا أن يكون أخفَّ في الحُكم فيكون أيسرَ في العمل”.
وأيضًا فإنّ السُّنّة مثْلُ القرآن في وجهيْن:
أحدهما: أنّ كِليْهما وحْي من عند الله سبحانه وتعالى.
والثاني: استواؤهما في وجوب الطاعة، لقوله سبحانه وتعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].
ولا شكّ: أنّ العمل بالحديث الناسخ أفضلُ وخيرٌ من العمل بالآية المنسوخة، وأعظمُ أجرًا. ومثال هذا: قوله سبحانه وتعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15].
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خُذوا عنِّي! خُذوا عنِّي! قد جَعل لهنّ سبيلًا. البِكْر بالبِكْر: جلْدُ مائة ونفْيُ سَنة. والثّيِّب بالثّيِّب: جَلْد مائة والرّجْم))، فهذا الحديث قيل بنسْخه، وأنّ المعمول به هو: الجَلْد للبِكر، والرّجْم للثّيِّب.
واحتجّوا أيضًا لِعدم نسْخ السُّنة للقرآن بقول الله سبحانه وتعالى: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَاب} [الرعد: 39]. قال ابن حزم: “وهذا لا حُجّة لهم فيه؛ لأنّ كلّ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه وتعالى هو المُثبِت له، وهو الماحي به لِما شاء أن يمحُوَ مِن أوامره؛ وكلّ من عند الله سبحانه وتعالى “.