Top
Image Alt

حادثة بئر معونة

  /  حادثة بئر معونة

حادثة بئر معونة

 في نفسه الشهر كانت حادثة أصحاب بئر معونة أو سرية القراء، ومعونة اسمٌ لموضع من بلاد هذيلٍ بين مكة وعسفان؛ حيث وفد على رسول الله صلى الله عليه  وسلم أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وهو من رءوس بني عامر، فدعاه النبي صلى الله عليه  وسلم إلى الإسلام، فلم يسلم، ولم يبعد، وقال: يا محمد لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال صلى الله عليه  وسلم: ((إني أخشى عليهم أهل نجد))، فقال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث رسول الله صلى الله عليه  وسلم المنذر بن عمرٍ في سبعين رجلًا من خيار المسلمين، وكانوا يعرفون بالقراء، وهم حفظة للقرآن، وذكر الكتاب أنهم كانوا أربعين رجلًا، والصحيح أنهم كانوا سبعين، وكان منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان خال أنس بن مالك  رضي الله  عنه، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق.

فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فبعثوا حرام بن ملحان بكتاب كان معهم من النبي صلى الله عليه  وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما آتاه حرام بن ملحان لم ينظر في الكتاب وأوعز إلى رجل فطعنه بالرمح من خلفه، فقال حرام لما طعن بالرمح: فزت ورب الكعبة.

ثم إن عامر بن الطفيل استصرخ على المسلمين بني عامر، فأبت بنو عامرٍ أن يجيبوه، وقالوا: لن نخفر ذمة أبي براء، وقد عقد لهم عقدًا وجوارًا، فاستصرخ قبائل من بني سليم: رعلًا، وذكوان، وعصية، فأجابوه، فخرجوا حتى غشوا الناس فأحاطوا بهم في رحالهم، فقال لهم المسلمون: والله ما إياكم أردنا، وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه  وسلم، فأبوا عليهم فقاتلوهم جميعًا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد، فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث بين القتلى -أي: حمل وبه رمقٌ كأنه قتيل من القتلى- فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدًا.

كذلك كان ممن لم يكن مع القوم، عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن عقبة، فإنهما كانا في صرح القوم وقيل: كانا يطلبان ضالة لهما.

هنا لم يعرف عمرو بن أمية، والمنذر بأمر أصحابهما إلا برؤيتهما الطير تحوم حول المعسكر، فقال: والله إن لِهذا الطير لشأنًا، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال المنذر لعمر: ما ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه  وسلم فنخبره الخبر، فقال المنذر بن محمد: فإني والله لا أرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لأخبر عنه الرجال، فقاتل عنه حتى قتل  رضي الله  عنه شهيدًا، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرًا، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل بعد أن جزَّ ناصيته، وأعتقه منًّا عليه لقاء رقبة كانت على أمه فيما زعم، فخرج عمرو قاصدًا المدينة، فلقي رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من الرسول صلى الله عليه  وسلم وهو لا يعلم به، فأمنهما حتى ناما، فقتلهما، وهو يرى أنه أصاب بهذا ثأرًا من بني عامر، لما قتلوا المسلمين.

قدم عمرو وأخبر النبي صلى الله عليه  وسلم بأمره، فقال صلى الله عليه  وسلم: لقد قتلت قتيلين؛ لآدينهما، ثم قال: هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارهًا متخوفًا، فبلغ ذلك أبا براء، فشق عليه ذلك، وذهب ابنه ربيعة إلى ابن عامر بن الطفيل، فطعنه انتقامًا منه على فعلته هذه، فجرح في فخذه، ولكنه لم يمت.

هذا أمر هاتين السريتين اللتين كان الغدر واضحًا فيهما بالمسلمين، وكان وصول خبر سرية الرجيع وبئر معونة معًا في وقت واحد، فحزن النبي صلى الله عليه  وسلم والمسلمون حزنًا شديدًا، ولقد بلغ من حزن النبي صلى الله عليه  وسلم أنه مكث شهرًا يدعو في صلاة الصبح على رعل وذكوان وعصية الذين غدروا بالقراء.

وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه  وسلم لما نعي القراء له قال: ((إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم، فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك، ورضيت عنا)) فأخبرهم عنهم فأنزل الله عز وجل فيهم قرآنا نسخ – كما يذكر أنس.

والنص الذي ذكر في الصحيح: ((أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا، ورضينا عنه))، وهذا مما نسخ من القرآن.

كان للنبي صلى الله عليه  وسلم شأن مع أمثال هؤلاء الغدرة الخونة، فإنه صلى الله عليه  وسلم أعد لقبيلة لحيان الجزاءَ الذي يليق بهم، فقد خرج صلى الله عليه  وسلم في مائتي رجلٍ معهم عشرون فرسًا بعد أن استخلف على المدينة عبد الله بن أم كتوم، وأسرع السير حتى انتهى إلى بلادهم.

فلما سمعت بهم لحيان هربوا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومًا أو يومين، وبعث السرايا في كل ناحية حتى يشعرهم بطلبه إياهم، ثم خرج صلى الله عليه  وسلم حتى أتى عسفان، فبعث أبا بكر في عشرة فوارس لتسمع بهم قريش، فيذعرهم ذلك فأتوا قراع الغميم.

ثم رجعوا ولم يلقوا أحدًا، وانصرف النبي صلى الله عليه  وسلم عائدًا إلى المدينة من هذه الغزوة التي قصد بها أن يؤدب الغدرة بأصحاب الرجيع.

على أنه كان للكلمة وللشعر دور في تمجيد هؤلاء الذين غدر بهم الفجرة، فلقد قال حسان في بكاء أصحاب الرجيع:

صلى الإله على الذين تتابعوا

*يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا

في شعر طويل، عدد فيه مآثر هؤلاء الرجال الذين خرجوا في سبيل الله يبلغون أمانة الله، كما أنه نال الغادرين بالهجاء المقذع. وقد يُقال: كيف يُخدع النبي صلى الله عليه  وسلم من أمثال هؤلاء الذين جاءوا يطلبون القراء يعلموهم؟ وفي شهر واحد يتم هذا مع أصحاب الرجيع وأصحاب بئر معونة، وهو شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة؟

ويُرد على هذا أنه يجب على المؤمن أن يبلغ دعوة ربه مهما كانت العواقب؛ لأن المؤمن إنما هو في سبيل الله كل أمره.

وإن إيفاد هاتين السريتين اللتين لم تخرجا لقتال، وإنما خرجتا للدعوة، ولتعليم الناس دين الله عز وجل، كان أمرهما حلقة من حلقات الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى هذا الدين ونشره بشتى الوسائل.

ومهما كانت الحال، فإن غاية ما يحتمل أن يموتوا شهداء، أو أن يبلغوا أمانة هذا الدين العظيم، فلهم الحسنى في الحالين.

error: النص محمي !!