حالة النقد الأدبي قبل النهضة الأدبية الحديثة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فنتحدث عن: حالة النّقد الأدبي قبل النهضة الأدبية الحديثة وفي بدايتها، كما نتحدث عن مراحل النقد الأدبي في العصر الحديث:
ولا بد في البداية أن نشير إلى أن الأدب والنقد وجهان لعملة واحدة -كما يقولون- فحيثما وجد الأدب وجد النقد؛ لأنّ النّقد هو تقويم العمل الأدبي، والحكم عليه، ودراسة العوامل التي تؤثر في هذا الأدب، وبيان ما في هذا الأدب من أوجه القوة وأوجه الضعف؛ فالأدب والنقد إذًا متلازمان، والنقد من مهامه الأولى أن يكون رائدًا وموجهًا للمبدعين من الخطباء، والكتاب، والشعراء.
ولذلك عِندما نَتحدثُ عن النقد الأدبي في العصر الحديث لا بد أن نُشير إلى العوامل التي أدت إلى تخلف الأدب والنقد قبل النهضة الأدبية الحديثة.
العوامل التي أدت إلى تخلف الأدب والنقد قبل النهضة الأدبية الحديثة:
الصورة التي كانت عليها الحياة الأدبية والنقدية قبل النهضة الأدبية الحديث صورة سيئة؛ ذلك لأنّ الأحوال الثقافية والاجتماعية والسياسية هي التربة التي تُستنبت فيها الإبداعات الأدبية، وما يستتبع هذه الإبداعات من كتابات نقدية، تُقوّم هذه الأعمال، وتُوَجّه أصحابها، وهذه التربة التي تتمثل في الأحوال السياسية والثقافية والاجتماعية قبل النهضة الأدبية الحديثة كانت تربة غير صالحة لاستنبات شيء له قيمة في مجال الأدب وفي مجال النقد كذلك.
والمراد بهذه الفترة -ما قبل النهضة الأدبية الحديثة- القرون التي خضع فيها العالم العربي للحكم العُثماني، نحنُ نُريد أن نَقول: إن الخلافة العثمانية كانت لها مساوئ، ولها محاسن بالتأكيد، ولكننا هنا في مجال الدرس الأدبي والنقدي لا مناص لنا من أن نؤكد ما قاله المؤرخون، وهو أن الولاة الأتراك ساروا في حكمهم لهذه البلاد سيرة سيئة؛ فأهملوا شئونها، وأهملوا مصالحها، واستبدوا في حكمها، وأدى هذا كله إلى تخلف وضعف في مجال الثقافة والعلم والأدب.
هذه البيئة التي لا تصلح لظهور المواهب الأدبية والنقدية، وصفها أحد المؤرخين بقوله: الجهل عام في هذه البلاد -يعني: بلاد المشرق العربي- وفي كل بلد تابع لتركيا، وقد عم -أي: الجهل- كل الطبقات، ويتجلى في كل العوامل الأدبية وفي الفنون الجميلة؛ حتى الصناعات اليدوية تراها في حالة بدائية، ويندر أن تجد في القاهرة من يُصلح الساعة، وإذا وُجِد فهو أجنبي.
وكان جهل العثمانيين باللغة العربية عاملًا من عوامل انصرافهم عن تشجيع الأدب العربي؛ مما أدى إلى إهمالهم في كل ما يتعلق بهذا الأدب من منابع الثقافة وأسباب التقدم، ولأنّ هَؤلاء الحكام يجهلون اللغة العربية فقد أُغلق البابُ أمام الشعراء والأدباء والخطباء، الذين كانوا قبل هذا الحكم التركي يقصدون أبواب هؤلاء، ويجدون عندهم منزلة وترحيبًا، وكان الأدب والثقافة من المؤهلات التي تمكن أصحابها من اعتلاء المناصب والوظائف المهمة في المجتمع.
كما كان الحكام العثمانيون الأتراك فيهم تعصب للغتهم التركية، ولذلك أحلوا اللغة التركية محل العربية في الدواوين، وأنشئوا المدارس التي يقوم التعليم فيها على اللغة التركية. كان ذلك من أهم الأسباب التي أدت إلى تعطل المواهب ونضوب القرائح.
ومن مظاهر استبداد الأتراك وفساد حكمهم: أنهم استحوذوا على التراث العلمي والأدبي في البلاد التي خضعت لهم، ونقلوه إلى القسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية؛ فأجدبت البلاد من كل فكر، ثم إنهم فرضوا عزلة فكرية وثقافية على الأقطار التي حكموها، ففي الوقت الذي كانت فيه تركيا في عنفوان نهضتها وعظمتها كانت الأقطار العربية تعيش في ظلام وجهل وفقر شديد، في هذه البيئة أُهمل التعليم، وانطفأت جذوة الثقافة، ولم يكن في البلاد دور للعلم إلا المساجد، التي قامت بدور مهم في المحافظة على علوم الدين واللغة على نحو ما تيسر لهذه المساجد أن تقوم به، وكان في مقدمة هذه المساجد الأزهر الشريف.
وسيلاحظ دارس النقد في العصر الحديث وكذلك دارس الأدب في العصر الحديث أنّ التركيز كله سيكون على مصر؛ لأن مصر في العصر الحديث في الحقيقة هي القاطرة التي قادت العالم العربي إلى النهضة الأدبية وما بعدها، وهي المركز الذي انطلقت منه دعوات التجديد، وانطلقت منه كذلك أسباب النهضة الأدبية والثقافية في العصر الحديث.
في العصور الماضية كانت الحجاز، وكانت الشام، وكان العراق، كل بيئة من هذه البيئات كانت في العصور الماضية هي مركز الحركة الثقافية والأدبية، لكن مصر في العصر الحديث هي التي تُعَدّ مركز الحركة الثقافية والأدبية.
إذًا ما ذكرناه من سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أثناء الحكم التركي للعالم العربي، أدى إلى ضعف شديد في الأدب، وضعف شديد في النقد، فكما قلت الأدب والنقد وجهان لعملة واحدة.
وما دامت القرائح قد نضبت، والمواهب قد انعدمت، ولم يعد هناك شاعر جيد، ولا كاتب جيد؛ فكيف يوجد النقد المنوط به الحكم على الأعمال الأدبية وتوجيهها، كان إذًا الأدب بجناحيه النثر والشعر في حالة ضعف وجمود، ومن هنا لم يوجد النقد الأدبي في هذه الفترة، وكانت نظرة الأدباء والمثقفين إلى الأدب نظرة ضيقة محدودة، وكان ما ينتجه الذين يُمكن أن يوصفوا بأنهم أدباء في هذه الفترة شيئًا إذا حسبناه من الأدب حسبناه منه بكثير من التجوز.
لقد كان النّثر يرسف في قيود التكلف، ويدور في مجالات ضيقة تافهة، كالتهنئة والتعزية والاعتذار والمجاملة، وكان الشعرُ كذلك لا يعدو أن يكون نظمًا باردًا، كل ما فيه تلاعب بالألفاظ لا يصدر عن عاطفة، ولا يصور موقفًا إنسانيًّا مهمًّا، ولا يَدُلّ على فكرٍ راقٍ، وهذا النمط من الأدب لا يُحرك المشاعر، ولا يُؤثّر فيها، تنقطع صلته بالحياة، ولا يُكتب له الخلود.
واستتبع هذا الفقر في الأغراض والمعاني جدبًا في الصياغة وضعفًا في الأساليب؛ إذ كانَ هَمُّ الأديب آنذاك ينصرفُ إلى اصطياد لفظ يقيم له السجع، أو اقتناص كلمة تتمم له الجناس، ولو لم يبلغ ذلك إلا بكد الذهن وشق النفس، وإذا نظرنا إلى بعض النماذج الأدبية التي تمثل هذه الفترة وجدناها نموذجًا للتفاهة في المعاني، والفَقْر في الأحاسيس والمشاعر، والضّعف في الصياغة والأساليب.
كتب الشيخ علي أبو النصر أحد أدباء تلك الفترة إلى صديق له رسالة قال فيها: “إن أبهى ما تسر به نفوس الأحبة، وأبهج ما يستضاء به في دياجي المحبة، دون ما يرسمه يراع الشوق، وأبدعه مما يحسن ويروق، تشوفًا إلى اقتطاف ثمرات المسامرة، وتشوقًا إلى أبيات بمحاسن البديع عامرة، ولمّا تشرف المُحِبّ بورود المحلق الأثنى، الجامع بين رقة اللفظ ودقة المعنى، كاد يرقص طربًا بعد أن قضى مما رآه عجبًا، طاقت نفسه إلى التشبه بالأوائل، وأين فهاهة باقل من فصاحة سحبان وائل، وكرم أخلاق سيدي يقضي بغض النظر عن العيوب، وكل ما استحسنه المحبوب محبوب، وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولا حول في ما قضى الإله ولا حيلة، فإني وجدت الرسائل لا تجدي إذا شط المزار، ومعانقة الطيف لا تغني متى عز الاصطبار، غير أني أمرت بأداء ما وجب، ونسيت على منوال من تحلى بالأدب، وركضت بجواد القريحة، وقدحت زند فكرة ليست بالمستريحة”.
وهذا نوع من الأدب لا يُحرك المشاعر ولا يحرك الأفكار، ولا يصور عاطفة صادقة، ولا فكرًا راقيًا. إذا كان هذا نموذجًا من النثر في هذه الفترة؛ فإنّ الشعر كذلك نماذجه في هذه الفترة تدلُّ على ضعفٍ شديد؛ فهذا الشيخ عبد الله الشبراوي يرثي واحدًا من أصدقائه، اسمه أحمد الدلنجاوي، وكان هذا الآخر شاعرًا، ويؤرخ لوفاته فيقول:
سألت الشعر هل لك من صديق | * | وقد سكن الدلنجاوي لحده |
فصاح وخرّ مغشيًّا عليه | * | وأصبح ساكنًا في القبر عنده |
فقلت لمن أراد الشعر أقصر | * | فقد أرخت مات الشعر بعده |
وانظر إلى هذه السماجة في التصوير، كأن الشعر صاح وسقط مغشيًّا عليه، ودخل القبر ومات، بعد أن مات هذا الدلنجاوي.
ومؤرخو الأدب يقولون: إنّ الشُّعراء كانوا أحيانًا يقصدون إلى التأريخ بالعبارة الشعرية، فعبارة “مات الشعر بعده” في هذه الأبيات تساوي بما يعرف بحساب الجمل عام 1123، وهي السنة التي مات فيها هذا الشاعر الذي يرثيه الشيخ الشبراوي.
ومن ذلك قول الشيخ محمد شهاب الدين المصري في الوصف:
راح دن أدرت أم ذوب ورد | * | رق؛ إذ دار دون آسٍ وورد |
رُبّ روض أراك دوح أراك | * | دون أوراق ورده راق وردي |
وإذَا تأملتَ في هذا القول وجدتَ الرّجل مولعًا بالجناس، وذَكر كلمة ورد، وكلمة أوراق، وما يُجانسهما عدة مرات في هذين البيتين.
هذا الحال للإبداع الأدبي لا يمكن أن يوجد نقدًا أدبيًّا، ويدلُّ على أن النقد الأدبي كان غائبًا في هذه الفترة.
إذًا هذه هي الحالة السياسية الثقافية والاجتماعية، التي أدت إلى ضعف الأدب والنقد في العصر العثماني، واستمرت هذه الحالة إلى بداية العصر الحديث. فما هي بداية العصر الحديث؟