حجيةُ السنة، ومرتبتها في التشريع
اتّفق المسلمون على أنّ ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن قول أو فعْل أو تقرير، في شأن مِن شؤون التشريع، أو شؤون الرئاسة والقضاء، ونُقل إلينا بسند صحيح، أنه يكون حُجّة على المسلمين، ومصدرًا تشريعيًّا يَستنبِط منه المجتهدون الأحكام الشرعية التكليفية. فالسُّنّة النبوية هي الأصل الثاني مِن أصول الأدلة الشرعية، ومنزلتها تلي منزلة القرآن. هذا مِن حيث الثبوت، وأمّا من حيث الاستدلال، فإنه يجب اتّباعها كما يجب اتّباع القرآن.
والسّنّة منها ما هو قطعيّ الثبوت كالمتواتر، ومنها ما هو ظنّيّ الثبوت كالآحاد؛ وكل واحد منهما قد يكون قطعيّ الدلالة، وقد يكون ظنّيّ الدلالة. والسُّنّة كلّها، سواء كانت متواترة أم آحادًا، إذا كانت صحيحة تكون حُجّة، ويجب العمل بها واتّباعها.
الأدلة على حُجِّيَّة السُّنَّة:
- قوله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7].
- قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
- قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65].
- عمَل الصحابة رضي الله عنهم، فقد كانوا يمتثلون أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم، ولا يفرّقون بين حُكم أوحى الله به في القرآن وحُكم صدَر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ (3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ} [النجم: 3، 4].
- توقّف القيام بفرائض الله المُجمَلة على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وردت في القرآن نصوص كثيرة مُجمَلة، فرَض الله فيها على الناس فرائضه، ولم يبيِّن كيفيّة أدائها، كفرائض الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج وغير ذلك. فبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بسنّته القوليّة والفعليّة؛ فلو لم تكن هذه السنن واجبة الاتّباع لما أمكن تنفيذ أوامر القرآن وفرائضه، ولا اتّباع أحكامه.
تدوين السُّنة في هذا الدور:
سبق عند الكلام عن القرآن الكريم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُملي ما أُنزل عليه على أحد الصحابة كَتَبة الوحي، ويأمُره بوضعه في مكانه مِن السورة الفلانية؛ وبذلك يكون القرآن الكريم قد دُوّن كلّه، وكُتب على الألواح، والأقتاب، والعظام، وما تيسّر مِن الكتابة عليه في ذلك العصر.
هذا ما يتعلق بالقرآن الكريم، أما السّنّة النبويّة، فلم تُدوَّن بالشكل الذي دُوِّن به القرآن الكريم، بل كان الصحابة رضي الله عنهم يتلقَّوْنها من النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظونها عنه مباشرة؛ وذلك لأنّ العرب في ذلك الوقت كان فيهم مِن قوّة الحفظ وصفاء الذهن ما يُساعدهم على حفْظ النص الذي يسمعونه مِن أوّل إلقاء له. ولعل أقرب مثال على ذلك: حفظهم للأشعار التي تُلقى في أسلافهم، فيحفظون القصيدة مِن أول مرة، بل ويتناقلونها فيما بينهم؛ فاعتمد الصحابة رضي الله عنهم على هذه الخاصية، وتلقَّوُا السّنّة من النبي صلى الله عليه وسلم، فحفظوها ولم يدوّنوها. هذا هو السبب الأول لعدم تدوين السنة في هذا الدور، والسبب الآخر هو: خشية أن تختلط السّنّة بالقرآن الكريم. لهذيْن السببيْن جاء النهي من النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عن تدوين شيء مِن السّنّة. فقد روى مسلم في (صحيحه)، عن أبي سعيد الخدري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كَتَب عنِّي غيْرَ القرآن، فلْيمْحُه))، وفي رواية للترمذي: ((استأذنّا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة، فلمْ يأذنْ لنا)).
إذًا، ثبت النهي عن كتابة السّنّة، ولكن كان ذلك في أوّل الأمْر، ثم ثبت بعد ذلك الإذْن في الكتابة؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سُننه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كنتُ أكتب كلَّ شيء أسمعه مِن النبي صلى الله عليه وسلم أريد حفظَه، فنهتْني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الرِّضى والغضب؟ فأمسكت، حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اكتبْ، فوالذي نفسي بيده! ما خرج منه إلا حقّ -وأوْمأ بأصبعِه إلى فيه)).
ففي هذا الحديث: الدلالة الصريحة على الإذن في كتابة السّنّة، كما ثبت أنّ مِن الصحابة مَن كَتَب من السّنّة ما تيسّر له، منهم: على بن أبي طالب، ومنهم: عبد الله بن مسعود، وسعد بن عبادة، وأبو شاه، الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في حقِّه: ((اكتبوا لأبي شاه)) ومنهم: عمرو بن حزم أيضًا.
ممّا سبق، يُعلم أنّ السّنّة لم تُدوّن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كتدوين القرآن الكريم حتى لا تختلط به، ولكن من الصحابة مَن اجتهد اجتهادًا فرديًّا، فدوّن ما تيسّر له من الأحاديث. وكان الاعتماد في الغالب الأعم على حفظ ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم في صدور الصحابة، يروُونه لبعضهم، ويروُونه للتابعين من بعدهم.