حجية الإجماع
الآراء في حجية الإجماع:
قررنا -على مذهب الجمهور- أن الإجماع ممكن ومتصور، ومعرفته ممكنة، وطريق إمكانه معروف المشافهة أو النقل المتواتر.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك على مذهبين، والحق أن خلاف المخالف في حجية الإجماع خلاف واهٍ وضعيف.
فالإجماع حجة، وحجة قاطعة، وهذا عند جمهور العلماء؛ فجمهور العلماء يرون أن الإجماع حجة قاطعة، وخالف في ذلك النَّظَّام أيضًا؛ فالنَّظَّام والشيعة والخوارج يرون أن الإجماع ليس حجة، هذه هي المذاهب في حجية الإجماع: مذهب الجمهور، ومذهب النَّظَّام ومن تبعه. والذي يعنينا في هذا المقام هو مذهب جمهور أهل العلم؛ لأنه المعول عليه؛ وهو الصحيح؛ وسنذكر الأدلة على ذلك.
وقد نازع بعض أهل العلم في قطعية الإجماع أو ظنيته:
القول الأول: حجية الإجماع قطعية.
القول الثاني: حجية الإجماع ظنية.
القول الثالث: الإجماع الصريح والنطقي حجة قطعية، والإجماع السكوتي حجة ظنية.
2. أدلة حجية الإجماع:
أورد ابن قدامة -رحمه الله- في المسألة دليلين، نذكرهما، ثم نذكر بعض الأدلة الأخرى التي تعضد هذين الدليلين:
قال -رحمه الله: ولنا دليلان:
أولًا: الألة من القرآن الكريم على حجية الإجماع:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115].
وهذه الآية هي العمدة في الاستدلال على حجية الإجماع، وبعض أهل العلم يكتفي بهذه الآية كدليل على حجية الإجماع، تعرف أن محل الاستشهاد في الآية قوله تعالى: {وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} كلمة: {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: إجماعهم. فالذي يتبع غير سبيل المؤمنين يعني: يتبع غير إجماع الأمة المحمدية.
وجه الاستدلال من الآية الكريمة: أن الله تعالى توعد بالعقاب على متابعة غير سبيل المؤمنين؛ لأن الله يقول: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] فهذا يدل على وجوب متابعة سبيل المؤمنين وتحريم مخالفتهم.
الدليل الثاني: قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143].
وجه الاستدلال من هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى وصف هذه الأمة بأنهم {أُمّةً وَسَطاً}، والوسط: العدل، أي: أن الله وصف الأمة بكونهم عدولًا، ومما يدل على أن الوسط هو العدل؛ القرآن، والسنة، واللغة، والمعنى.
- ففي القرآن الكريم قول الله تعالى في “سورة القلم”: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ} [القلم: 28]، أي: قال أعدلهم، فالوسط هو العدل؛ فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً} يعني: عدولًا.
- وأما السنة ففي الحديث: ((خير الأمور أوساطها، أو أوسطها)) يعني: أعدلها، كما رواه البيهقي وغيره، فالوسط هو العدل.
- وأما المعنى: فلأن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين، فالشيء الذي يكون بعيدًا عن طرفي الإفراط والتفريط يكون وسطًا؛ فثبت بهذا أن الله تعالى جعل هذه الأمة عدولًا، وإذا كان الله عدلهم، وجعلهم حجة على الناس في قبول أقوالهم، كما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبول قوله علينا، فتجب عصمتهم على الخطأ، قولًا وفعلًا، صغيرة وكبيرة؛ لأن الله تعالى يعلم السر والعلانية، وهذا يدل على أن إجماع الأمة حجة ودليل.
الدليل الثالث: قال تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ} [النساء: 59].
ووجه الاستدلال من الآية الكريمة: أن الله تعالى شرط التنازع في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة، وإذا لم يوجد الشرط لا يوجد المشروط، وعليه إذا لم يوجد التنازع فإن الاتفاق على الحكم يكفي عن الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذا هو معنى الإجماع.
فقد أمرنا الله تعالى أن نرد المتنازع إلى الكتاب والسنة ما لم يوجد اتفاق، فإذا ما وجد اتفاق فلا داع للرد إلى الكتاب والسنة، ولا يوجد رد إلى الكتاب والسنة إذا كان هناك اتفاق، والاتفاق هو الإجماع.
الدليل الرابع: قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
ووجه الاستدلال من الآية الكريمة: أن الأمة لا يجوز أن يجمعوا على منكر؛ وذلك لأنَّه لو جاز أن يجمعوا على منكر لم يكونوا ناهين عن المنكر، والله يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فلا شك أنهم سيجمعون على المعروف، والإجماع على المعروف يجب العمل بمقتضاه؛ لأنَّ هذا هو الإجماع المعروف في اصطلاح العلماء.
الدليل الخامس: قول الله تعالى، في سورة آل عمران أيضًا: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ} [آل عمران: 103].
ووجه الاستدلال من الآية الكريمة: أنَّ الله تعالى أمر بالاعتصام بحبل الله، ونهى عن التفرق، والأمة إذا خالفت الإجماع؛ فقد حصل التفرق المنهي عنه، فتكون الأمة قد ارتكبت منهيًّا عنه؛ فوجب أن نأخذ بالإجماع، فيكون الإجماع حجة وهو المدعى.
ثانيًا: الأدلة من السنة على حجية الإجماع:
يقول ابن قدامة -رحمه الله: الدليل الثاني من السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) وروي: ((لا تجتمع على خطأ)) وفي لفظ: ((لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على خطأ)) وقال: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح)) وقال: ((من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) أو كما قال. وقال: ((ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية)) وقال: ((عليكم بالسواد الأعظم)) ونهى عن الشذوذ، وقال: ((من شذ شذ في النار)) وقال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله)) وقال: ((من أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد؛ وهو من الاثنين أبعد)).
إذن هذه النصوص من السنة النبوية تفيد حجية الإجماع، وهي وإن جاءت أخبار آحاد لكنها تفيد التواتر المعنوي، وقد سبق أن التواتر المعنوي معناه: أن تختلف الألفاظ لكن المعنى يكون واحدًا، وبهذا نكون قد أثبتنا حجية الإجماع بالقرآن العزيز والسنة النبوية المطهرة.
3. رد أدلة من قال: إن الإجماع ليس بحجة:
إن رأي النَّظَّام ومن وافقه في عدم حجية الإجماع رأي ضعيف، وخلاف واهٍ، وليس كل خلاف جاء معتبرًا إلا خلافًا له حق من النظر، لكن لا مانع أن نبين لكم بعض الأدلة التي اعتمد عليها، والشبه التي ركن إليها، النَّظَّام ومن وافقه:
أولًا: أن الله تعالى يقول: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ} [النساء: 59] قالوا: ووجه الدلالة: أن الآية أمرت عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، ولا معنى للرد لله والرسول إلا الرد إلى الكتاب السنة؛ فلا يكون الإجماع حجة؛ لأنَّ الله قصر الرد على الكتاب والسنة.
والجواب: أن هذا الدليل منقوض بالقياس؛ فإنه حجة شرعية بالرغم من عدم ذكره في هذه الآية، فإن قلتم: القياس يرجع إلى أحدهما، أي: الكتاب والسنة، قلنا: والإجماع لا بد له من مستند، ومستند الإجماع لا بد أن يكون قرآنًا أو سنة أيضًا.
ثانيًا: أن الله تعالى يقول: {وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ} [النحل: 89] قالوا: ووجه الدلالة: أن الله جعل بيان كل شيء في القرآن، و”كل” من صيغ العموم، كما هو معروف، وإذا كان بيان كل شيء في القرآن فلا حاجة إلى غيره، كالإجماع.
والجواب: أنه لو صح استدلالكم بهذه الآية لدل ذلك على أن السنة النبوية ليست حجة، وأنتم لا تقولون بذلك، يعني: أنتم تقولون بحجية السنة، والآية التي استشهدتم بها ليست فيها ذكر للسنة؛ إذا ما يكون جوابًا لكم هنا يكون جوابًا لنا أيضًا.
ثالثًا: أن الله تعالى يقول: {مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ووجه الاستدلال أيضًا: أن الله تعالى بين أنه ما ترك شيئا إلا وبينه في الكتاب، فليست هناك حاجة إلى الإجماع.
والجواب: إن الكتاب ما فرّط في شيء، وبيّن كل شيء، لكن هذا البيان قد يكون بيانًا مباشرًا وبيانًا غير مباشر، مباشر: بأن ينص على حكم الشيء، وغير مباشر: بأن يأمرنا بالعمل والاجتهاد والبحث في النصوص.
رابعًًا: استدلوا كذلك بأدلة أخرى من السنة، منها حديث معاذ المشهور: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أَرسل معاذا إلى اليمن، قال له: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو…)) إلخ. ووجه الاستدلال من الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن الأدلة التي يجب عليها أن يرجع إليها إذا عرض له قضاء، فلم يذكر معاذ الإجماع من هذه الأدلة، وصوبه الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: ولو كان الإجماع من هذه الأدلة لما أهمله معاذ، ولما سكت النبي صلى الله عليه وسلم بل بين له أن الإجماع من هذه الأدلة.
والجواب: أن حديث معاذ لم يذكر فيه الإجماع؛ لما سبق ذكره من أن الإجماع ليس حجة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الإجماع إنما يكون حجة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لأنَّ النبي إن وافق الصحابة؛ فالقول قوله؛ فيصير الأمر سنة، وإن خالف الصحابة؛ فلا اعتداد بقول الصحابة رضي الله عنهم إذن: ذكر معاذ للقرآن، ثم السنة، ثم الاجتهاد، ذكر منطقي؛ لأن الإجماع لا يعتبر مصدر تشريعيًّا في زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم.
هذه أشهر الأدلة التي يمكن أن يستدل بها لمن منع حجية الإجماع، وهي كما قلنا أدلة واهية مردود عليها.
حاصل الأمر:
لا نزاع بين من يُعتدُّ برأيه من أهل العلم، على أن إجماع الصحابة حجة، وأما إجماع غير الصحابة؛ فقد ذهب الجمهور إلى أنه حجة، مستدلين على ذلك بأدلة كثيرة، منها قول الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] ومن خالف إجماع المسلمين فقد اتبع غير سبيليهم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) إلى آخر ذلك من النصوص التي ذكرناها على حجية الإجماع.