حديث: ((أين كان ربنا -تبارك وتعالى- قبل أن يخلق السموات والأرض؟))، والإشكالات الواردة عليه
تخريج الحديث: فمن الأحاديث التي أشكلت على بعض الناس، حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: ((أين كان ربنا -تبارك وتعالى- قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه)).
رواه الترمذي، وابن ماجه والبيهقي، وصححه الترمذي في موضع، وحسنه في موضع، وكذا حسنه الذهبي. و((عماء)) يعني: سحاب، ورويت بالقصر عمى أي: ظلمة، أو عمًى بمعنى: شأنه مُعَمَّى على خلقه.
وضعف إسناده الألباني -رحمه الله- بسبب وكيع بن حَدْس، أو حَدَس، أو عَدْس، وهو ضعيف، لكن ضعفه عند المحدثين يسير.
وجاء قريبًا من سياق هذا الحديث ما روى البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض)).
وفي (مسند الإمام أحمد) عن لقيط بن صبرة قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: ((كان في عماية)).
وجه الإشكال في الحديث: وعلى هذا الحديث بعض الإشكالات التي طرحها وأوردها بعض طوائف المتكلمين وغيرهم، بناء على معتقداتهم الفاسدة من تأويل وتعطيل الصفات عن الله تعالى.
وتتلخص هذه الإشكالات فيما يلي:
1. علوُّ الله تعالى على خلقه.
2. استواء الله على عرشه.
3. السؤال عنه بـ”أين”.
4. في بيان أول ما خلق الله تعالى من الخلق.
وهذا الحديث وإن كان في إسناده ضعف، إلا أنه لا إشكال فيه من حيث المعنى، ولا يستلزم التشبيه ولا التمثيل.
أما قوله فيه: ((وكان عرشه على الماء))، فشاهده في القرآن الكريم في غير موضع، كقوله تعالى: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء } كما سبق.
وجاء في حديث عمران بن الحصين السابق عند البخاري: (( كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء)).
وأما سائره فلا يوجد له شاهد: كما صرح بذلك بعض الأئمة، وقد يكون في قول الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ } [البقرة: 210] قد يكون في هذه الآية ما يشير إلى ذلك كما نص عليه بعض أهل العلم، وقد اختلف السلف في تفسيره، ولو صح لما كان فيه إشكال كما تقدم، ولوجب التسليم به.
وأما السؤال فيه بقوله: ((أين كان قبل أن يخلق السموات والأرض))، فلا إشكال فيه أيضًا، وليس فيه تشبيه ولا تمثيل، كما سيأتي بيانه عند الكلام عن الحديث التالي، من سؤال الجارية: أين الله?
وأما من زعم أن استواء الله تعالى على العرش يقتضي الحاجة والافتقار إليه:
فهو باطل لا يقوم إلا على أوهام منكوسة، والله سبحانه هو الغني بذاته عما سواه، وغناه من لوازم ذاته، والمخلوقات بأسرها -العرش فما دونه- فقيرة محتاجة إليه تعالى في إيجادها وفي قيامها؛ لأنه لا قيام لها إلا بأمره قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ } [الروم: 25] والسماء: اسم لما علَا وارتفع؛ فهو اسم جنس، يقع على العرش، قال تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} [الملك: 16] وبحوله وقوته حمل العرش، وحمل حملة العرش؛ وهو الذي: {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] وجميع المخلوقات: مشتركون في الفقر والحاجة إلى بارئهم وفاطرهم.
وقد قرر سبحانه كمال غناه وفقر عباده إليه، في مواضع من كتابه، واستدل بكمال غناه المستلزم لأحديته، في الرد على النصارى، وإبطال ما قالوه من الإِفك العظيم والشرك الوخيم قال تعالى: {قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}[يونس: 68] وكمال غناه يستلزم نفي الصحبة، والولد، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات.
ولا يظن أحد يعرف ربه، أو شيئًا من عظمته وغناه ومجده أنه محتاج إلى العرش أو غيره، وإنما يتوهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، أو من لم يعرف شيئًا من آثار النبوة والرسالة، أو من فسدت فطرته، ومسخ عقله بنظره في كلام الجهمية وأشباههم حتى اجتالته الشياطين.
فلم تبق معه أثارة من علم، ولا نصيبا من فهم؛ بل استواؤه على عرشه صفة كمال وعز وسلطان، وهو من معنى اسمه الظاهر ومعناه: الذي ليس فوقه شيء؛ والعلو علو الذات، وعلو القدر، وعلو السلطان كلها ثابتة لله، وهي صفات كمال تدل على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه.
والذي ينبغي لمبتغي الحق والهدى ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] وأكثر المعطلة، يزعمون أن تعطيلهم تنزيه للرب عما لا يليق به، فساء ظنهم وغلظ حجابهم حتى توهموا أن إثبات ما في الكتاب والسنة، على ما فهمه سلف الأمة مما ينزه الرب -تبارك وتعالى- عنه.
وأما الجمع بين هذا الحديث والأحاديث الآتية:
وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء وكتب بيده كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما خلق الله القلم)).
حيث زعم من توهم أن ظاهر هذه الأحاديث متعارض في أي المخلوقات أسبق في الخلق، وكذلك ما جاء أن أول المخلوقات هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
والجواب: أن هذه الأحاديث متفقة مؤتلفة، وليست بمختلفة، فأول ما خلق الله من الأشياء المعلومة لنا هو العرش واستوى عليه بعد خلق السماوات،كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7].
وأما بالنسبة للقلم:
فليس في الحديث دليل على أن القلم أول شيء خلق، بل معنى الحديث أنه في حين خلق القلم أمره الله بالكتابة، فكتب مقادير كل شيء، وقد يقال الكلام نفسه على العرش؛ حيث إن الأدلة ليست صريحة أيضًا في أن العرش خلق قبل القلم، وأدلة متردِّدة بين هذا وذاك.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم: فهو كغيره من البشر، خلق من ماء أبيه عبد الله بن عبد المطلب، ولم يتميز على البشر من حيث الخلقة، كما قال عن نفسه: ((إنما أنا بشر أنسَى كما تنسون)).
فهو صلى الله عليه وسلميجوع ويعطش ويبرد ويصيبه الحر، ويمرض ويموت، فكل شيء يعتري البشرية من حيث الطبيعة البشرية فإنه يعتريه، لكنه يتميز بأنه يوحى إليه، وأنه أهل للرسالة كما قال تعالى: { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
ومن الشبهات التي تعلق بها الاتحادية الملاحدة، مما عارضوا به هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث التي في سياقه، مَا يَأْثُرُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ))، وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ عِنْدَ الاتِّحَادِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: “وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ” كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مُخْتَلَقٌ، وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ لا كِبَارِهَا وَلا صِغَارِهَا، وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِسْنَادِ لا صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَلا بِإِسْنَادِ مَجْهُولٍ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: بَعْضُ مُتَأَخِّرِي مُتَكَلِّمَةِ الْجَهْمِيَّة، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُمْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ وَصَلُوا إلَى آخِرِ التَّجَهُّمِ، وَهُوَ التَّعْطِيلُ وَالإِلْحَادُ.
وَلَكِنَّ أُولَئِكَ قَدْ يَقُولُونَ: “كَانَ اللَّهُ وَلا مَكَانٌ وَلا زَمَانٌ، وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ” فَقَالَ هَؤُلاءِ: “كَانَ اللَّهُ وَلا شَيْءَ مَعَهُ وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ”.
وَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ هَؤُلاءِ بِالإِسْلَامِ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي كِتَابٍ: “مَا لابُدَّ لِلْمُرِيدِ مِنْهُ”، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي السُّنَّةِ: ((كَانَ اللَّهُ وَلا شَيْءَ مَعَهُ)) قَالَ: “وَزَادَ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ، فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ الْعَالَمَ وَصْفٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ، وَلا عَالَمٌ مَوْجُودٌ، فَاعْتَقِدْ فِيهِ مِنْ التَّنْزِيهِ مَعَ وُجُودِ الْعَالَمِ مَا تَعْتَقِدُهُ فِيهِ وَلا عَالَمَ وَلا شَيْءَ سِوَاهُ”.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ.
وَلَوْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا لَكَانَ قَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غَيْرِهِ لَكِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، وَلِهَذَا كَانَ مُقَدَّمُ الاتِّحَادِيَّةِ الْفَاجِرُ التلمساني: يَرُدُّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ يَقْرَبُ فِيهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا إلَى الاتِّحَادِ.
وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)).
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الإِلْحَادِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ، قَصَدَ بِهَا الْمُتَكَلِّمَةُ الْمُتَجَهِّمَةُ نَفْيَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالُو: كَانَ فِي الأَزَلِ لَيْسَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ، وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ، فَلا يَكُونُ عَلَى الْعَرْشِ لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ التَّحَوُّلِ وَالتَّغَيُّرِ.
وَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالإِثْبَاتِ بِجَوَابَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ:
الجواب الأول: أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرْشِ: بِمَنْزِلَةِ الْمَعِيَّةِ.
وَيُسَمِّيهَا ابْنُ عَقِيلٍ: الأَحْوَالَ،وَتَجَدُّدُ النِّسَبِ وَالإِضَافَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ إذْ لا يَقْتَضِي ذَلِكَ تَغَيُّرًا وَلا اسْتِحَالَةً.
الجواب َالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ اقْتَضَى تَحَوُّلًا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، وَمِنْ شَأْنٍ إلَى شَأْنٍ، فَهُوَ مِثْلُ مَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَنُزُولِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى، وَإِتْيَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَقَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلامِ وَهُوَ لازِمٌ لِسَائِرِ الْفِرَقِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا نِزَاعَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فِي قَاعِدَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ وَالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة الاتِّحَادِيَّةُ فَقَالُوا: وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، كَمَا كَانَ فِي الأَزَلِ وَلا شَيْءَ مَعَهُ قَالُوا: إذْ الْكَائِنَاتُ لَيْسَتْ غَيْرَهُ وَلا سِوَاهُ فَلَيْسَ إلا هُوَ: ، فَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ لا أَزَلًا وَلا أَبَدًا؛ بَلْ هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ وَنَفْسُ الْكَائِنَاتِ، وَجَعَلُوا الْمَخْلُوقَاتِ الْمَصْنُوعَاتِ هِيَ نَفْسَ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ.
وَهُمْ دَائِمًا يَهْزُونَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: “وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ” وَهِيَ أَجَلُّ عِنْدَهُمْ مِنْ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] وَمِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّلالَةِ عَلَى الاتِّحَادِ الَّذِي هُوَ إلْحَادُهُمْ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهَا مِنْ كَلامِهِ وَمِنْ أَسْرَارِ مَعْرِفَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْهَا وَلَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلا هِيَ في شَيْء مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ؛ بَلْ اتَّفَقَ الْعَارِفُونَ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَلَا تُنْقَلُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَنْ إمَامٍ مَشْهُورٍ فِي الأُمَّةِ بِالإِمَامَةِ، وَإِنَّمَا مَخْرَجُهَا مِمَّنْ يُعْرَفُ بِنَوْعِ مِنْ التَّجَهُّمِ وَتَعْطِيلِ بَعْضِ الصِّفَاتِ.
وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ: ((كَانَ اللَّهُ وَلا شَيْءَ مَعَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ))، وَهَذَا إنَّمَا يَنْفِي وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ الْمَلائِكَةِ وَالإِنْسِ وَالْجِنِّ لا يَنْفِي وُجُودَ الْعَرْشِ.
وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الْعَرْشَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْقَلَمِ وَاللَّوْحِ، مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: (( أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ. فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ اُكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء}.
وَهَذَا نَظِيرُ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ العقيلي الْمَشْهُورِ فِي كُتُبِ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـَ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ فَقَالَ: كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ))، فَالْخَلْقُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْعَمَاءُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ السَّحَابُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ مَعْرُوفَةٌ.