Top
Image Alt

حركة التجديد في النقد الحديث

  /  حركة التجديد في النقد الحديث

حركة التجديد في النقد الحديث

تراكم الخبرات الأدبية والنقدية:

تحدثنا عن مرحلة الإحياء، وأود أن أنبه إلى أن الخبرات الأدبية والنقدية تتراكم، وبعضها يبنى على بعض، ولا يمكن أن تنقطع الصلة بين القديم والجديد، فحركة التجديد أو مرحلة التجديد في النقد الحديث، أفادت مما قبلها، وكثير من الأفكار، التي طرحت في مرحلة الإحياء، نجدها موجودة في مرحلة التجديد، وإن كانت تتطور بطبيعة الحال؛ ولذلك من المهم هنا أن نلخص السمات، ونشير إلى القضايا التي ظهرت في مرحلة الإحياء، وبنى عليها المجددون.

وحركة الإحياء أو البعث يحسب لها أنها فتحت الطريق أمام الحركات التي تلتها والاتجاهات التي جدت بعد ذلك، فبنت على ما مضى، وجددت في الأفكار بما أفادته من ثقافة أجنبية، وعوامل جديدة لم تكن متاحة للنقاد، الذين ظهروا في مرحلة الإحياء.

وأهم السمات الفكرية والجمالية لمرحلة البعث والإحياء، تتمثل فيما يلي:

أولًا: محاولة تحرير الدراسة النقدية والأدبية من أغلال الحواشي، وإطالة الوقوف عند مسائل النحو والبلاغة، ومحاولة الوصول بالدرس النقدي، والدرس الأدبي إلى مرحلة الاستقلال بذاته.

ثانيًا: بعث مقاييس النقد العربي القديم، ودراسة الأصول النقدية والآراء النقدية، التي وردت في كتب النقد القديم، وعند النقاد القدماء، كالجاحظ والرماني وابن قتيبة وابن سلام والباقلاني والقاضي الجُرجاني، والإمام عبد القاهر، وابن خلدون، وابن رشيق وغيرهم، ثم استخدام هذه المقاييس والأصول، وتطبيقها على الأدب في العصر الحديث.

ثالثًا: أيضًا من السمات التي تذكر لمدرسة الإحياء أو لمرحلة الإحياء تحرير النصوص الأدبية من الخلط، وتوثيقها، وشرحها واستنباط ما فيها من أوجه الجمال، ودراسة علوم اللغة، كالنحو والبلاغة وغيرهما على ضوء احتياجات العصر، ومحاولة الاستفادة منها في الدرس الأدبي، والتذوق الفني، ومن ذلك أيضًا الدعوة إلى تربية الذوق الفني، والحاسة اللغوية والسليقة الأدبية من خلال معايشة النصوص الأدبية الجيدة، وتذوقها، والوقوف على أسرار الجمال فيها.

ونحن نلاحظ أن هذه السمات تعد لَبِنات مهمة بنى عليها المجددون -كما سنرى فيما بعد.

أهم القضايا النقدية، التي طرحها نقاد مرحلة الإحياء:

ومن أهم القضايا النقدية، التي طرحها نقاد مرحلة الإحياء: قضية الوحدة في الشعر، وقضية الانتحال وتوثيق النصوص، وقضية الأصالة، ونقد النص من الداخل لتفسيره، والوقوف عند أجزائه وتحليله، الدعوة إلى تجنب الإحالة والكذب، ومراعاة التناسق والصدق الفني، الإلماح إلى النظرات، التي يمكن أن تعد جديدة، الإلماح إلى نظرات، أو طرائق في دراسة النص الأدبي تتصل بالمجال النفسي، وبالمجال التاريخي، والمجال الاجتماعي.

هذه السمات وتلك القضايا سنجدها حاضرة أيضًا في مرحلة التجديد، الأمر الذي يؤكد أن الدرس النقدي درس متراكم، خطوات متبوعة بخطوات، أو لبنات توضع فوقها لبنات.

تغيرت الظروف الاجتماعية والثقافية والعلمية، بل تغيرت الظروف العالمية مع بدايات القرن العشرين، وبدأت بذور التجديد تؤتي ثمارها في نظرات جديدة، أو تطوير لما قدمته مرحلة البعث والإحياء؛ فقد انتشرت دور التعليم، وحدثت هجرة من بلاد الشام إلى مصر؛ حيث جاء إلى مصر عدد من النقاد والأدباء، وانفتح كثير من المثقفين المهتمين بالأدب، والنقد على الثقافات الغربية عن طريق اللغة الإنجليزية، أو الفرنسية أو الإيطالية، وصوب وقرأ بعض هؤلاء المهتمين بالنقد والأدب في كتب اليونان، واستخرجوا من هذه الثقافات الغربية نظريات وآراء، وتأثروا بها.

وبدأت صورة النقد الأدبي العربي تتغير وتتطور، وتأخذ شكلًا جديدًا غير الشكل، الذي كانت عليه في مرحلة البعث والإحياء، وأدت الصحافة دورًا مهمًّا جدًّا في نشر الأفكار الجديدة، وبلورتها، والتأثير بها في مجال الشعر والنثر والنقد، فلم يعد النقد مقصورًا على بعث المقاييس القديمة، التي وردت في كتب النقد العربي القديم، بل تطور الأمر إلى تحويل هذه المقاييس إلى نظرات جديدة، ومعايير متطورة تفيد من الثقافة الغربية، والآراء النقدية الغربية، ولم يعد النقد مقصورًا على تذوق النصوص وتحليلها، بل تطور على مقارنة النصوص، والموازنة بين الأدب العربي والأدب الغربي، والإشارة إلى مواطن الضعف والقوة هنا وهناك.

كما بدأت الكتابات النقدية تعنى بفنون جديدة لم يكن العرب القدماء يعرفونها، فظهرت الكتابات في مجال المسرح، والنقد القصصي إلى جانب نقد المقالة الأدبية، وما كان موجودًا من نقد الشعر، وظهرت في الساحة مناقشات حول قضايا، وأفكار تعد جديدة منها الكلام عن النقد النظري والنقد التطبيقي، الكلام عن قضية الخيال الشعري، الكلام عن الموسيقى وأثرها في الشعر، الكلام عن الترجمة إلى العربية، ترجمة الآداب الغربية إلى العربية، وأثر ذلك في الأدب العربي، الحديث عن الإيقاع في الشعر والغناء، قضية انتحال الشعر، النقد الذاتي أو التأثري والنقد الموضوعي، الصدق الفني والنفسي، الجمال والجلال في الأدب، القشور واللباب، أو العرض والجوهر في الأدب.

وظهرت مناهج متعددة في دراسة الأدب، فظهرت المناهج التي تعتمد على التاريخ والاجتماع، المنهج الاجتماعي، والمنهج التاريخي، وكذلك المنهج النفسي، والمنهج الفني، وكل من هذه الاتجاهات كان له النقاد الذين يحاولون أن يؤصلوا له، وأن يرسخوه، وتابع النقد الأدبي مسيرته في التطور خطوة خطوة، ولم يحدث التجديد، الذي وجدناه عند أشهر مدرسة تجديدية في النقد، وهي ما أطلق عليها مدرسة الديوان، لم يحدث هذا التغيير، ولم يظهر طفرة أو مرة واحدة، بل إن هناك محطات كثيرة، وعلامات متعددة على طريق التجديد، سبقت ظهور مدرسة الديوان في النقد، فلم يكن التجديد حكرًا على هذه المدرسة، أو ما تلاها من المدارس، وإنما نجد الكثير من الآراء، التي تبناها أصحاب هذه المدرسة قد أشير إليه من قبلهم.

ومن النقاد الذين يمثلون علامات مهمة في طريق التجديد قبل مدرسة الديوان: إبراهيم المويلحي، والمنفلوطي وقسطاكي الحمصي، ومطران خليل مطران، ومنهم أيضًا مجموعة من المثقفين الذين جمعوا بين الثقافة العربية التراثية، والثقافة الغربية، ومن أبرزهم طه حسين، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، وأحمد أمين، وأحمد حسن الزيات، وأحمد ضيف، وأمين الخولي، وزكي مبارك، وعبد الوهاب عزام وغيرهم، وقد بدأ معظم رواد هذه المرحلة -معظم الأسماء الذين ذكروا- بدأوا رحلتهم العلمية والأدبية في رحاب الأزهر، وبين ساحاته وأروقته، ودرسوا العلوم العربية، كالنحو والصرف والبلاغة، ودرسوا علوم الشريعة، كالحديث والتفسير والفقه، كما درسوا المنطق، ودرس بعضهم الفلسفة.

وكان للكثير منهم تطلعات تجذبهم إلى ما هو أوسع من بيئة الأزهر، فذهبوا يطلبون مناهج جديدة في الدرس الأدبي، والنقدي، ودرس بعضهم في الجامعة المصرية، وتعلم الكثير منهم لغة أجنبية، وأخذوا يفتحون نوافذ جديدة على الثقافة الغربية الفرنسية، والإنجليزية واليونانية، وأخذوا يعرضون الآراء التي استفادوها من هذه الدراسات، ومن هذه الآداب، وبذلك كان لهم تأثير كبير في الحياة النقدية، ومهدوا لهذه الآراء الجديدة، التي ظهرت بعد ذلك عند مدرسة الديوان، ومن جاءوا بعدهم.

وأود هنا أن أشير إلى أن بعض المؤرخين لحركة النقد الأدبي الحديث في العالم العربي، يجعلون هذه المرحلة مرحلة التمهيد للتجديد مرحلةً قائمة بذاتها، ويسمون المرحلة التالية لها مرحلة الثورة، فعندهم مرحلة البعث والإحياء، ومرحلة التجديد، ومرحلة الثورة؛ لأن العقاد والمازني وشكري، أو من يسمون مدرسة الديوان كان في طرحهم كثير من الحماس والعنف إن جاز التعبير، بعض هؤلاء المؤرخين يسمون المرحلة السابقة على ظهور مدرسة الديوان مرحلة التجديد، ويسمون مرحلة الديوان مرحلة الثورة.

وبعض المؤرخين يجعلون هذا تمهيدًا للتجديد، ثم يسمون مدرسة الديوان مدرسة التجديد، أو المجددين، على أية حال التجديد كما قلت: لم يكن طفرةً ولم يكن فجأةً، وإنما خطوات بعضها تابع لبعض، لبنات بعضها فوق بعض ثقافة تراكمية، وآراء تتبلور وتتطور من جيل إلى جيل، للدلالة على ذلك سنقف عند المنفلوطي، والمنفلوطي هذا كان في نظر المجددين محافظًا، لكن المنفلوطي له نظرات نقدية تجعله مجددًا في النقد، فمثلًا للمنفلوطي رأي في الشعر، يلتقي هذا الرأي مع أحدث القائلين، أو أحدث الآراء القائلة بالتجديد.

فالشعر عند المنفلوطي نثارة من الدر، ينظمها الناظم إن شاء شعرًا، وينثرها الكاتب إن شاء نثرًا، أو نغمات الموسيقى يسمعها السامع مرة من أفواه البلابل والحمائم، وأخرى من أوتار العيدان والمزاهر، أو عالم من عوامل الخيال يطير فيه الطائر بقادمتين من عروض وقافية، أو خافيتين من فقر وأسجاع، الكاتب الخيالي شاعر بلا قافية ولا بحر، وما القافية والبحر، إلا ألوان وأصباغ تعرض للكلام فيما يعرض له من شئون وأطوار، لا علاقة لها بين جوهره وحقيقته.

المنفلوطي في هذا الرأي، الذي يرى به الشعر، أو يعرف به الشعر يجعل النثر الفني يجعله شعرًا، فيقول: الكاتب الخيالي شاعر بلا قافية ولا بحر، ويذهب إلى أن القافية والوزن ما هي إلا أصباغ، وألوان، تعرض للكلام فيما يعرض له من شئون وأطوار، لا علاقة لها بين جوهره وحقيقته، فحقيقة الشعر عنده التأثير في المشاعر والتأثير في العقول والنفوس.

هذا التأثير المبني على الجمال والمبني على الصدق، ومسألة الوزن والقافية في رأيه من الأعراض، التي لا تؤثر في حقيقة الشعر، المنفلوطي بهذا الكلام يقترب من الذين يقولون الآن بقصيدة النثر، مع أن المنفلوطي كما قلت: يعد أو كان يعد في نظر المجددين، والثائرين من المحافظين، فما دام الكلام توافر فيه التأثير والجمال والنغم والصدق، فهو في رأي المنفلوطي، استوفى مقومات الشعر، ويقول المنفلوطي: إن علماء الضاد أي: اللغة العربية الذين عرفوا الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى لم يكونوا شعراء، ولا أدباء، ولا يعرفون من الشعر أكثر من إعرابه، وبنائه واشتقاقه وتصريفه، وإنما جروا في ذلك التعريف مجرى علماء العروض، الذين لا مناص لهم من أن يقفوا في تعريف الشعر، عند هذا القدر ما دام لا يتعلق لهم غرض منه بغير أوزانه وقوافيه، وعلله، وزحافاته.

ولا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أن المنفلوطي يهمل شأن الموسيقى في الشعر، وإنما لا يجعلها هي كل شيء، وفيما يتعلق باللفظ والمعنى نجد المنفلوطي لا يفصل بينهما، ومن كلامه في ذلك: إذا سمعت بيتًا من الشعر، فأطربك أو أحزنك أو أقنعك أو أرضاك، أو هاجك وأنت ساكن، أو هدأ روعك وأنت ثائر، أو ترك أي أثر من الآثار في نفسك، كما تترك النغمة الموسيقية أثرها في نفس سامعها، فاعلم أنه من بيوت المعاني، وأن هذا الذي تركه في نفسك من الأثر، إنما هو روحه ومعناه، وإن مررت ببيت آخر، فاستغلق عليك فهمه، وثقل عليك ظله، وشعرت بجمود نفسك أمامه، وخيل إليك أنك بين يديْ جثة هامدة لا روح فيها، فاعلم أنه لا معنى له.

والقطع الأدبية الشعرية أو النثرية، التي تصف أسلوبها بالجمال، إنما تصف بذلك معانيها وأغراضها، فالعمل الأدبي في نظر المنفلوطي وحدة متكاملة، اللفظ والمعنى فيه يكمل كل منهما الآخر، وعلامة جودة الأدب التأثير في النفس، وهذا أيضًا من الأمور الجديدة جدًّا، التي يقول بها علماء نظرية الاتصال الآن، ومن الأمور الشائعة في النقد الجديد، وعن الوضوح والغموض يقرر المنفلوطي أن اللفظ لا يضطرب إلا لأن معناه مضطرب في نفس صاحبه، ولا يغمض إلا لأن معناه غامض في نفسه، ومحال أن يعجز الفاهم عن الإفهام، ولا المتأثر عن التأثير، ولا المقتنع عن الإقناع.

وكان المنفلوطي متسامحًا جدًّا مع تجديد الأساليب، وكان يرى أن الجمود اللغوي في البيئة العربية أمر خطير، ومرفوض، وكان يلوم اللغويين، ومن يسميهم عبدة الألفاظ والصور، الذين ظلوا يتشددون في اللغة، ويتشبثون بالأساليب القديمة، والتراكيب الوحشية، ويغالون في محاكاتها واحتذائها، ويقيمون المناحات السوداء على كل تعبير لم تعرفه العرب، وعلى كل خيال لم يمر بأذهانهم، حتى ملَّهم الناس وملوا اللغة معهم، فتمردوا عليهم، وخلعوا طاعتهم وطلبوا لأنفسهم الحرية اللغوية التامة، فسقطوا في اللغة العامية، هذا كلام متقدم جدًّا أيضًا؛ لأنه يرى أن التشدد يؤدي إلى الضياع في النهاية، وأن إغلاق نوافذ التجديد، والحجر على كل من يقدم جديدًا، هذا في النهاية يجعل الناس ينصرفون عن الأصول، بل يكرهون اللغة، ويذهبون يطلبون الحرية حتى يسقطوا في اللغة العامية.

ويبدو أن شهرة المنفلوطي بالكتابة جعلت كثيرًا من الدارسين، لا يلتفتون إلى آرائه النقدية المهمة، والتي أشرت إليها.

ومن المحطات أو العلامات أيضًا فيما يسمى بمرحلة التجديد، أو التمهيد للتجديد ناقد اهتم بالتأليف في النقد، ووضع كتابًا سماه (منهل الوراد في علم الانتقاد)، وهذا الناقد هو قسطاكي الحمصي، الذي عاش ما بين عامي ألف وثمانمائة وثمانية وخمسين، وألف وتسعمائة وواحد وأربعين، وكان هذا الرجل ناقدًا وشاعرًا وكاتبًا، وكان على علم ببعض اللغات الأجنبية كالفرنسية والإيطالية، وكتابه هذا في ثلاثة أجزاء.

ويذكر مؤرخو النقد الحديث أن هذا الكتاب يعد أول كتاب منهجي في النقد الحديث، وقد قسم مؤلفه الجزء الأول منه إلى قسمين، جعل القسم الأول لتاريخ النقد عند الأمم، والقسم الثاني لقواعد النقد وأصوله، وكان هدفه من الكتاب أن يضع كتابًا في قواعد النقد يسهم في جعل النقد الأدبي فنًّا قائمًا بذاته على أصول واضحة، وقوانين ثابتة، وقد تحدث في هذا الكتاب عن تاريخ النقد عند العرب، وأفرد دراسات لبعض الكتب النقدية القديمة، كـ(الموازنة بين الطائيين؛ أبي تمام والبحتري) للآمدي، وكتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، و(نقد الشعر) لقدامة بن جعفر، وغير هذه الكتب.

وذهب إلى أن النقد عند هؤلاء القدماء لم يكن علمًا مقيدًا بقواعد وشروط، ولا فنًّا ذا أصول وفروع، ثم عرض لما كتبه الرواد في العصر الحديث، والذين يصنفون على أنهم من مرحلة البعث والإحياء، كنصيف اليازيجي ورفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق، وذكر أنهم لم يضيفوا شيئًا ذا بال في هذا المجال، وأن بعضهم نحا نحو العلماء السابقين، فلم يكن إلا مقلدًا لمن تقدم، ثم عرض للنقد عند الغربيين، حتى القرن التاسع عشر، وأورد تعاريف النقاد الغربيين للنقد، وذكر آراءهم، وقرر المؤلف أن موضوع النقد هو الأدب، وأن لهذا النقد قواعد مقررة عند جميع الأمم كسائر قواعد العلوم العقلية، لكنها تختلف في الفروع، وأن كل عمل أدبي عرضة للنقد، وناقش مسألة الذوق في الحكم على الأعمال الأدبية، ثم ذكر أركان النقد، وهي في رأيه تتمثل فيما يلي:

أولًا: النسبة ويقصد بها نسبة الأشياء إلى الحقيقة المثلى، وهي حقيقة الجمال الثابت في الكون، فكل جمال هو دون جمال الحقيقة، وعماد النقد أن يبحث عن هذه الحقيقة، ويقصدها معتمدًا على الصدق، فمن يأخذ كتابًا؛ لينتقده بإخلاص يدعى بعدل ناقدًا، ومن يبحث فيه؛ لنشر الهفوات، وستر الحسنات يعد عائبًا وحاقدًا وحاسدًا، ومن يستر القبيح، وينشر المليح ندعوه مداهنًا مخادعًا، والحديث عن الحقيقة المثلى فيه تأثر بما قاله فلاسفة اليونان الأقدمون نظرية المثل.

والأمر الثاني من الأركان في رأيه: الصدق ويقصد به صدق الإرادة في الفهم بين الأديب، وبين المتلقي للأدب، فكلما عظمت إرادة الأديب أو المتكلم في التفهيم، وصدقت إرادة السامع في التلقي كان ذلك أقرب لإدراك أسرار الأدب، وينبغي على الناقد أن يكون صادقًا في تمثل وجوه الحياة، وأن يعيد التجربة التي عاناها الأديب، حتى يكون نقده قريبًا من الحقيقة، وقرر المؤلف أن النقد يختلف باختلاف العلوم، أو الأشياء المنقودة؛ ذلك أنك إذا انتقدت كتاب أدب، فإنك تنظر أولًا في عباراته؛ لتحلله وتنظر مقامه أو مكانه من الفصاحة، ثم تنظر في معانيه، ثم تنظر في الفائدة، التي تحصلها منه، فإذا أتيت على ذلك كله تعيد النظر؛ لتنقد الصحيح من الفاسد، أو الخطأ من الصواب، أو ما كان بذاته صحيحًا، لكن بالنسبة إلى موضوع الكتاب أو شيء آخر منه فاسدًا.

واستعرض المؤلف قواعد النقد، وجعلها ثلاث درجات فيما سماه سلم الانتقاد، وهذه الدرجات هي الشرح والتبويب والحكم، فالشرح لا يكون صحيحًا حتى يستوفي ثلاثة شروط هي إيضاح العلاقة، وتحديدها، بين المنقود ويبن تاريخ العلوم الأدبية بالعموم، وتحديد علاقة التأليف بما كان متلبسًا به كالمكان والزمان، الذي ظهر فيهما العمل، ثم تحديد العلاقة الكائنة بين الكاتب وكتابته، أو الأدب وصاحبه، ومعنى هذا أن الناقد لا بد أن ينظر في المجال الاجتماعي، والمؤثرات التاريخية وغيرها في العمل، الذي ينقده، وأنه عليه أن يشرح هذا العمل في جو هذه الملابسات، التي أحاطت به؛ هذا هو الشرح.

أما التبويب فيذكر أنه وضع الكتاب المنقود أو العمل المنقود -كتابًا أو غير كتاب- في وضعه المناسب بين أمثاله، ويتحتم على الناقد في مجال التبويب ألا يخلط بين الكلام المسجع والشعر، ولا بين الخطب ورسائل الملوك، وأن يكون في نقده يقظًا، إذا لجأ إلى الموازنة، أن يكون موازنًا بين الأعمال الأدبية، التي تنتمي إلى جنس واحد، وهنا يشيد المؤلف بالعرض في مجال الموازنات، ويشير في هذا الصدد إلى كتاب (الموازنة) للآمدي، وأما الحكم فهو غاية النقد وثمرته، ويرى المؤلف أن الوصول إلى حكم سديد يقتضي خمسة أمور هي: نقد المقول والمصنوع، ففيه يعرض الناقد للغاية المبتغاة، والفائدة المرجوة من العمل، ويبحث في شروط جودة هذا العمل في محاكاته للمثال الأعلى.

الأمر الثاني: نقد القائل والصانع، وهنا يتعرف الناقد على أحوال المبدع أو صاحب الأثر، وحالته النفسية وميوله العاطفية، وغير ذلك من المؤثرات فيه.

الأمر الثالث: نقد المقول فيه والمحكي عنه أي: موضوع العمل الأدبي.

الأمر الرابع: نقد الزمان.

الأمر الخامس: نقد المكان، فالنظر في كل هذه الملابسات هو الذي يؤدي إلى حكم صحيح، أو أقرب إلى الصحة في نظر المؤلف.

error: النص محمي !!