Top
Image Alt

حركة الترجمة في العصر العباسي

  /  حركة الترجمة في العصر العباسي

حركة الترجمة في العصر العباسي

من المعروف أن حركة الترجمة في العصر العباسي كانت نشيطة لدرجة كبيرة، وأن المترجمين نقلوا من ثقافة الفرس واليونان والهند وغيرها إلى اللغة العربية مصادر كثيرة للمعرفة، وقد فتحت هذه الترجمات عيون المثقفين والشعراء والخطباء والأدباء والعلماء والنقاد على مصادر علمية وفكرية جديدة، لكن هذه الثقافات لم تترك أثرها الواضح عند الشعراء جميعًا أو عند النقاد جميعًا، وإنما تفاوت العلماء والنقاد والشعراء في تأثرهم بهذه الثقافات الوافدة.

وفي بداية الأمر كان هناك فصل حاسم أقامه النقاد والشعراء بين الشعر والمنطق، لكن المنطق والفلسفة تسربتا فيما بعد إلى الأدب وإلى النقد، وقد كان إسحاق بن حنين مترجمًا ذا أثر كبير في حركة النقل، وهو الذي ترجم كتاب (الخطابة) لـ “أرسطو” الفيلسوف اليوناني القديم إلى اللغة العربية، وترجم متى بن يونس كتاب (فن الشعر) لـ “أرسطو” أيضًا إلى اللغة العربية. وقد أفاد الفارابي وغيره من الذين عملوا بالفلسفة، وعملوا بالنقد كذلك من مثل هذه الكتب.

أما الفارابي الذي توفي سنة ثلاثمائة وتسع وثلاثين من الهجرة، فقد كان اهتمامه بالخطابة والشعر جزءًا من منهجه الفلسفي العام، ويبدو أنه فسر كتاب (الخطابة) أو شرحه؛ ولذلك قال ابن أبي أصيبعة عن هذا الكتاب: “كتاب في الخطابة كبير، عشرون مجلدًا”، وذكر له القفطي أيضًا صدر كتاب (الخطابة) وكتابًا في صناعة الكتابة.

ويبدو أن كتاب (الخطابة) الذي أشير إليه هو تفسيره أو شرحه لكتاب (الخطابة) لـ “أرسطو”، وللفارابي في الشعر رسالتان؛ إحداهما بعنوان (رسالة في قوانين صناعة الشعراء)، والأخرى بعنوان (كتاب الشعر).

ويذهب الدكتور إحسان عباس إلى أن (رسالة في قوانين صناعة الشعراء) يبدو أنها تلخيص لجزئيات من كتاب (الشعر) لـ “أرسطو”، مع الإفادة من شرح لـ”ثامسطيوس” على ذلك الكتاب، إذ إن الفارابي يقول بعد أن يعد أصناف الشعر اليوناني: “فهذه هي أصناف أشعار اليونانيين، ومعانيها على ما تناهى إلينا من العارفين بأشعارهم، وعلى ما وجدناه في الأقاويل المنسوبة إلى الحكيم “أرسطو” في صناعة الشعر، وإلى “ثامسطيوس”، وغيرهما من القدماء والمفسرين لكتبهم”.

ويمضي الفارابي في حديثه عن القضايا والموضوعات التي يدرسها، ويبدو تأثره بما كتبه “أرسطو”، فيتحدث عن أنواع العلوم التي تتناول الشعر وعن الأقاويل الشعرية وموضعها بين سائر الأقاويل.

ويشير إلى الأقاويل البرهانية والجدلية والخطابية والسوفسطائية والشعرية، ويشير كذلك إلى تفاوت حظوظ هذه الأقاويل من الصدق والكذب؛ فالأقاويل البرهانية صادقة بالكل لا محالة، والجدلية صادقة بالبعض على الأكثر، أما الأقاويل الشعرية فإنها كاذبة بالكل لا محالة؛ لأنها قائمة على التخييل، والكذب هنا يستند إلى ما ورد في الفلسفة اليونانية والنقد اليوناني عن التخييل في الشعر، فالكذب لا يغضّ من قيمة الشعر على اعتبار أن هذا الكذب هو التخييل، وإبراز الأشياء على غير حقيقتها الواقعية؛ ولهذا كان للتخييل في الشعر قيمة العلم في البرهان والظن في الجدل والإقناع في الخطابة.

وعلى ذلك يكون من الخطأ الفادح أن نجعل كلمة كذب تهوينا من شأن الشعر، فليس الكذب في الشعر مرادفًا للكذب المذموم أخلاقيًّا، وهذا التخييل هو الذي يسمى المحاكاة، والأقاويل الشعرية هي التي شأنها أن تؤلف من أشياء محاكية للأمر الذي فيه القول، فإن محاكاة الأمور قد تكون بفعل وقد تكون بقول. وحديثه عن هذه القضايا وعن عنصر المحاكاة والتخييل واضح فيه تأثره بالنقد اليوناني، كما يتضح هذا التأثر في التفصيل والتقسيم المنطقي.

فمثلًا: عن تفاوت الشعراء في قدرتهم على المحاكاة يقسمهم إلى ثلاث طبقات؛ طبقة تسعفهم حيلتهم وطبيعتهم المهيأة للمحاكاة والتمثيل، إما لنوع واحد من أنواع الشعر وإما لأكثر أنواعه، وطبقة يعرفون الصناعة حق المعرفة حتى لا يندّ عنهم شيء من خواصها وقوانينها، فإذا أخذوا في أي نوع من أنواع الشعر جوّدوا المحاكاة، وطبقة تقلد هاتين الطبقتين وتحتذي حذوهما في المحاكاة دون طبع شعري، ودون دُرْبة صناعية، وهم أكثر الفئات خطأً وزللًا.

ويتحدث الفارابي عن العوائق النفسية التي تحول دون قول الشعر، فيقول عن هذه العوائق: “إن بعضها يرجع إلى الكيفيات النفسية وترددها بين القوة والفتور، كما أن بعض العوائق تكون في الشيء المحكي، أي: الأمر نفسه؛ لأن علاقة المحاكاة قد تكون خافية، وكثيرًا ما يجيء المتخلف في الصناعة بشيء فائق يعسر على العالم بالصناعة الإتيان بمثله، وذلك أمر يحدث اتفاقًا”.

وواضح أن الفارابي اقتبس بعض الآراء من النقد اليوناني وفسر بعضها، وقد أُخذ عليه أنه لم يحاول أن يبذل جهودًا تطبيقية في دراسة الشعر، واكتفى بالتنظير فقط.

ويقول الدكتور إحسان عباس: “إنه جاء بنظرات تصلح أسسًا للفهم العميق؛ كالتفرقة الأرسططاليسية بين الشعر والخطابة، والمفاضلة بين المحاكاة والوزن في الشعر”. ويقول الدكتور إحسان عباس أيضًا: “أما تعريفه لطراغوذيا وقوموذيا ففيه شيء يسير من حديث “أرسططاليس”، وأكثره يدل على اختلاط المفهومات في ذهن الفارابي. فقوله في الطراغوذيا: إنه نوع من الشعر له وزن معلوم، كلام صحيح، وقوله: يلتذ به كل من سمعه من الناس أو تلاه، فإنه ينظر إلى قول “أرسطو” في المأساة: وإذ ليس لنا أن نتطلب في المأساة كل نوع من اللذة، ولكن لنا أن نتطلب فيها كل لذة واقعة في نطاق الفن التراجيدي.

وأما إشارته إلى اللذة عن طريق التلاوة فقد ذكره “أرسطو” في قوله: وبأن المأساة قادرة على أن تبلغ غايتها دون حركة أو تمثيل، فنحن نستطيع أن نحكم على الرواية ونتبين خصائصها بالقراءة. وقوله: يذكر فيه الخير والأمور المحمودة، فإنه ترجمة لفكرة “أرسططاليس” عن أن الشخصية يجب أن تكون خيرة”.

ويخلص الدكتور إحسان عباس إلى أن الفارابي لم يخطئ الفهم، ولكن قصر به التصور عن الطبيعة الدقيقة للمأساة، وكلام الدكتور إحسان عباس يأتي تعليقًا على أقسام الشعر على أساس الوزن والموضوع كما ذكرها الفارابي، وهو يشير إلى أقسام الشعر عند اليونان، فقد ذكر الفارابي عن اليونانيين أنهم جعلوا لكل نوع من أنواع الشعر نوعًا من الوزن، فأوزان المدائح عندهم غير أوزان الأهاجي، وهذه غير أوزان المضحكات؛ ولهذا كان لكل من الطراغوذيا والقوموذيا والديثرامبي وسائر الأنواع الشعرية موضوع خاص ووزن خاص.

ويضيف الفارابي: “أما طراغوذيا فهو نوع من الشعر له وزن معلوم، يلتذ به كل من سمعه من الناس أو تلاه، يذكر فيه الخير والأمور المحمودة المحروص عليها، ويمدح بها مدبرو المدن، وكان الموسيقاريون يغنون بها بين يدي الملوك، فإذا مات الملك زادوا في أجزائها نغمات أخرى وناحوا بها على أولئك الملوك.

وأما ديثرمبي فهو نوع من الشعر له وزن ضعف وزن طراغوذيا، يذكر فيه الخير والأخلاق الكلية المحمودة والفضائل الإنسانية، ولا يقصد به مدح ملك معلوم ولا إنسان معلوم، لكن تذكر فيه الخيرات الكلية.

وأما قوموذيا فهو نوع من الشعر له وزن معلوم، تذكر فيه الشرور وأهاجي الناس وأخلاقهم المذمومة وسيرهم غير المرضية، وربما زادوا في أجزائه نغمات وذكروا فيها الأخلاق المذمومة التي يشترك فيها الناس والبهائم، والصور المشتركة القبيحة أيضًا”.

والتأثر المباشر واضح فيما ذكر من القضايا وطريقة معالجتها، والاقتباس كذلك واضح كما في قوله عن تباين الشعراء في قدرتهم على المحاكاة، فهو مأخوذ من قول “أرسطو”، وعلى ذلك انقسم هذا الشعر قسمين مختلفين لتباين شخصيات أصحابه الشعراء، فمن كانت نفوسهم وقورة شامخة اختاروا للمحاكاة أعمال الشخصيات السامية ومغامراتها، بينا صوّر الشعراء الفاكهون شخصيات الأراذل والمحتقرين، ونظم هؤلاء في البدء شعرًا هجائيًّا ساخرًا كما نظم الأولون المدائح والترانيم الإلهية.

error: النص محمي !!