حكم إثبات النسب بالبصمة الوراثية
طرق إثبات النسب الطرق الشرعية، وهل يدخل فيها البصمة الوراثية، فتكون طريقًا من طرق إثبات النسب، أو لا تدخل فيها وإنما تعد قرينة من القرائن، ولذلك سبق أن عرفنا أيضًا القرينة.
للنسب وإثباته طرق شرعية خمسة وقد ذكرناها سابقا ولا مانع من ذكرها هنا بإيجاز وهي:
- الفراش؛ أي: العلاقة الزوجية المعروفة، القائمة على عقد شرعي صحيح.
- الاستلحاق، أي: شخص يقر بأن ذلك الولد أو الطفل ابنه أو ابنته، ولا ينازعه في ذلك أحد، وليس معروفًا لهذا الطفل، أو الطفلة أب أو أسرة، هذه الطريقة تسمى الاستلحاق الإقرار.
- البينة، بأن يشهد شاهدان عدلان بأن ذلك الطفل هو ابن فلان، ولذلك أخذه وأقام البينة على نسبته إليه.
- القافة أو القيافة، وهي عبارة عن معرفة التشابه بين اثنين، عن طريق الأقدام عن طريق الأيدي عن طريق اللون عن طريق تقاسيم معينة، عند القافة -أصحاب القيافة- فراسة وخبرة في هذا الأمر.
- القرعة، عندما يتنازع شخصان، ولا توجد أيُّ بينةٍ لأي منهما في إثبات نسبة ذلك الولد، فإنه يقرع بينهما حسمًا للنزاع.
الطريقتان الرابعة والخامسة طريقتان ضعيفتان، لم يتفق عليهما الفقهاء، أما الطرق الثلاثة الفراش والاستلحاق والبينة، فهي محل اتفاق بين العلماء.
الطريقة الرابعة: القيافة، قال بها جمهور الفقهاء عند الحاجة إليها، والطريقة الخامسة: القرعة، قال بها بعض أهل العلم دون اتفاق على ذلك.
تلك خمس طرق، ماذا عن البصمة الوراثية؟ هل تعتبر طريقًا سادسًا لإثبات النسب، أم تعتبر قرينة عند الادعاء ونحوه؟
أما عن إثبات النسب بالبصمة الوراثية، فيتطلب الحكم عليها أولًا: هل تعتبر طريقة مستقلة لإثبات النسب، أو تعتبر قرينة يستعان بها لإثبات النسب أو نفيه فحسب؟ الحقيقة هناك اتجاهان:
الاتجاه الأول: يرى أن اعتبارها طريقًا من طرق إثبات النسب، فيه جرأة على النصوص وتعطيل لها، وهي -أي: البصمة الوراثية- ما تزال كغيرها من النظريات العلمية، قابلة للرفض، أو التهوين من شأنها، وقد قال ابن قدامة -رحمه الله- الفقيه المعروف: “فإن النسب يحتاط لإثباته، ويثبت بأدنى دليل، ويلزم من ذلك التشديد في نفيه، وأنه لا ينتفي إلا بأقوى دليل”.
وقال ابن القيم: وحيث اعتبرنا الشبه في لحوق النسب، فإنما إذا لم يقاومه سبب أقوى منه، ولهذا لا يعتبر مع الفراش، بل يحكم بالولد للفراش، وإن كان الشبه لغير صاحبه، كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أو قصة عبد بن زمعة، بالولد المتنازع فيه لصاحب الفراش، ولم يعتبر الشبه المخالف له، فأعمل صلى الله عليه وسلم السبب في حجب سودة؛ حيث انتفى المانع من إعماله في هذا الحكم بالنسبة عليها، ولم يعمله في النسب لوجود الفراش.
وعليه فإنه لا يجوز استخدام البصمة الوراثية في نفي نسب ثابت بالفراش، كما لا يجوز الاكتفاء بالبصمة الوراثية عن اللعان في نفي النسب، بمقتضى نتائجها الدالة على انتفاء النسب بين الزوج والمولود على فراشه، فكيف يجوز إلغاء حكم شرعي بناء على نظريات طبية مظنونة، والله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
إذًا هذا الاتجاه يمنع الاعتداد بالبصمة الوراثية، في إثبات النسب مع الفراش أو مع الإقرار أو مع البينة والشهادة؛ لأن هذه الطرق شرعية قائمة وصحيحة، بينما البصمة الوراثية لا تزال نظرية، يمكن الرجوع عنها، أو بيان خطئها، فيما يستقبل من الزمان.
ولذلك جاء في مشروع توصية المجمع الفقهي، برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة أنه لا يجوز استعمال البصمة الوراثية في نفي النسب استقلالًا، أي: تكون هي الدليل الوحيد للنفي، اكتفاء باللعان؛ لأن اللعان أسلوب شرعي جاء في سورة “النور”: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] إلى آخر الآيات.
كما لا يجوز استعمالها في نفي نسب من ثبت نسبه بأي دليل شرعي، وقال الشيخ محمد الأشقر: “إنه لن يكون مقبولًا شرعًا، استخدام الهندسة الوراثية أو البصمة الوراثية، لإبطال الأبوة التي ثبتت بطريق شرعي صحيح؛ أي: بنوة ثابتة بالفراش، ثم تم التحليل فيما بعد نتيجة أي مشكلة بين الزوجين، وثبت بالبصمة الوراثية أن هذا الابن ليس ابنًا لذلك الزوج الذي كان زوجًا، هل يكتفى بها في نفي نسب الولد، الذي ثبت عندما ثبت بطريقة شرعية صحيحة وهي الفراش، هل يمكن إبطال الأبوة بهذه البصمة الوراثية؟ كلا إنه لن يكون مقبولًا شرعًا.
استخدام الهندسة الوراثية أو البصمة الوراثية لإبطال الأبوة التي ثبتت بطريق شرعي صحيح، من الطرق التي تقدم بيانها المتفق عليها، وهي الفراش، والإقرار، والبينة، ولكن مجال العمل بالبصمة الوراثية، سيكون في إثبات، أو نفي أبوة لم تثبت بطريقٍ شرعيٍّ صحيح، طفل مجهول والده أو والداه، فحينئذٍ تكون البصمة وسيلة وقرينة، ويمكن أن نعمل بها في إثبات نسب ذلك المجهول.
ثم بين أصحاب هذا الاتجاه أنه يجوز الاستعانة بالبصمة الوراثية كقرينة، قد تحمل الزوج على الرجوع عن اللعان بعد أن أراد أن يلاعن، وينفي عن نفسه الولد، ويقيم الحد على زوجته، هداه الله، وخضع إلى تحليل الحمض النووي “D N A” أو البصمة الوراثية، فلما ثبت أنه ابنه تراجع عن اللعان، هنا البصمة الوراثية أفادت كقرينة في حمل الزوج على الرجوع عن اللعان، أما أن تكون بديلًا عن اللعان فلا، الرجوع عن اللعان ممكن؛ لأن الرجوع مصلحة شرعية يدعو لها الشرع المطهر ويتشوف إليها، لما فيها من تأكيد للأصل الشرعي، ثبوت النسب بالفراش: ((الولد للفراش)).
كما يجوز الاستعانة بها أيضًا في إثبات النسب في الحالات التي يجوز فيها الحكم بثبوت النسب بقول القافة، حيث إن القيافة ليست طريقة شرعية مع الطرق الثلاث، ولكن بعد انعدام الطرق الثلاث نلجأ إلى القيافة، يمكن اللجوء أيضًا إلى البصمة الوراثية كالقيافة، بل إن البصمة تكون أقوى في الإثبات من القيافة؛ لأن القيافة تعتمد على الصفات الظاهرة، بينما البصمة الوراثية تعتمد على خصائص داخلية لا يعرفها القافة، ولذلك قالوا: كما يجوز الاستعانة بها -أي البصمة الوراثية- في إثبات النسب في الحالات، التي يجوز فيها الحكم بثبوت النسب بقول القافة، ذلك أمر ظاهر الصحة والجواز.
وذلك لأنه إذا جاز الحكم بثبوت النسب بناء على قول القافة، لاستنادها إلى علامات ظاهرة أو خفية، مبنية على الفراسة والمعرفة والخبرة، فإن الأخذ بنتائج الفحص بالبصمة الوراثية يكون مساويًا للحكم بقول القافة، إن لم يكن أولى من باب قياس أولى، فيكون الأخذ بالبصمة الوراثية في مجال إثبات النسب من باب القيافة، وليس من باب البينة ولا من باب الإقرار ولا من باب الفراش، الأبواب الشرعية المعروفة.
وجاء في توصية ندوة الوراثة والهندسة الوراثية ما نصه: البصمة الوراثية من الناحية العملية وسيلةٌ لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق من الشخصية، ولا سيما في مجال الطب الشرعي، وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية، التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية، وتمثل تطورًا عصريًّا عظيمًا في مجال القيافة، فإذا كنا قد اعتبرنا القيافة أو اعتبرها جمهور الفقهاء طريقة شرعية لإثبات النسب، عند عدم وجود الطرق الأخرى في الماضي، فإنه أحرى بنا وأولى أن نعتبر البصمة الوراثية في العصر الحاضر من مجالات القيافة، التي ذهب إليها وأخذ بها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه.
ولذلك ترى الندوة -الندوة الطبية- أن يؤخذ بها أي بالبصمة الوراثية، في كل ما يؤخذ فيه بالقيافة من باب أولى، وبناء على ذلك يمكن الأخذ بالبصمة الوراثية، في مجالات إثبات النسب في الحالات الآتية، مع توافر شروطها وضوابطها الطبية والفقهية، الحالات هي:
- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها جمهور الفقهاء، التنازع على إنسان مجهول، ليس هناك بينة، ولا إقرار، ولا فراش لإثبات نسبه، التنازع قائم سنلجأ إلى القيافة، إذًا البصمة الوراثية من باب أولى اللجوء إليها.
- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات، حيث إن المستشفيات تجمع المواليد من أمهاتهم في مكان واحد، يكون الأمهات في مكان والمواليد في مكان آخر، ثم يقع الاختلاط والاشتباه، لمن هذا الطفل لهذه المرأة أم لتلك، يقع اشتباه في المواليد في المستشفيات، ومراكز رعاية المواليد الحضانات، فعند التنازع في هذه الأحوال أو الاشتباه يلجأ إلى البصمة الوراثية.
- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم بسبب الحوادث والكوارث، وتعذر معرفة أهليهم، وكذا عند وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، بسبب الحروب أو غيرها.
إذًا نخلص من قول هذا الاتجاه إلى أن البصمة الوراثية لا تعتبر طريقًا من الطرق الشرعية المتفق عليها في إثبات النسب، وهي: الفراش، والبينة والإقرار، ولكنها يمكن أن تكون قرينة من القرائن التي يستعان بها، ويهتدى بنتائجها، كالقيافة والقرائن الأخرى المعروفة، لأنها محل ترجيح عند الجمهور.
أما في الحالات المتنازع عليها التي لم يثبت فيها النسب بإحدى الطرق الشرعية السابقة فيمكن الاستعانة بالبصمة الوراثية، في فض هذا التنازع أو القضاء على هذا الاشتباه.
الاتجاه الثاني: فهو يعتمد البصمة الوراثية طريقًا من طرق إثبات النسب بعد الطرق الشرعية المتفق عليها: الفراش، الإقرار، البينة، رقم أربعة البصمة الوراثية، وهذا ما انتهت إليه الندوة الفقهية الطبية الحادية عشرة.
بمعنى أننا إذا كنا نعتبر أو كان جمهور الفقهاء يعتبر القيافة هي الطريق الرابع من طرق إثبات النسب، فلماذا لا نأخذ البصمة الوراثية بطريق الأولى مكان القيافة، بعد أن عرفنا أنها أقوى منها، في التعرف على الصفات الخفية وليس الصفات الظاهرة، فما دامت البصمة الوراثية هي الأقوى والأولى من القيافة إذًا هي تعتبر الطريقة الرابعة وليست القيافة.
هذا ما انتهت إليه الندوة الفقهية الطبية الحادية عشرة التي أعدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بدولة الكويت، في الفترة من الثالث والعشرين حتى الخامس والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 1419 هجرية الموافق الثالث عشر حتى الخامس عشر من شهر أكتوبر سنة 1998 ميلادية، تحت عنوان “الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني رؤية إسلامية”، وذلك بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الإيسسكو، ومجمع الفقه الإسلامي بجدة ومنظمة الصحة العالمية، هذا كله اشترك في الندوة الطبية الحادية عشرة في الكويت. وجاء في بيانها ما يلي:
تدارست الندوة موضوع البصمة الوراثية، وهي البنية الجينية التفصيلية، التي تدل على هوية كل فرد بعينه، والبصمة الوراثية من الناحية العملية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق من الشخصية؛ ولا سيما في مجال الطب الشرعي، وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية، التي يأخذ بها جمهور الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية، وتمثل البصمة الوراثية تطورًا عصريًّا ضخمًا في علم القيافة، الذي تعتد به جمهرة المذاهب الفقهية، ولا ترى الندوة حرجًا شرعيًّا في الاستفادة من هذه الوسيلة بوجه عام عند التنازع في إثبات نسب المجهول نسبه، وبناء على طلب الأطراف المعنية مباشرة بالأمر، أما اعتمادها باعتبارها وسيلة إثبات، فيبقى في يد السلطة التي تملك صوغ القوانين، على ضوء اعتبارات المصلحة العامة.
إذًا أصحاب هذا الاتجاه، ونتائج هذه الندوة، تميل إلى اعتبار البصمة الوراثية قرينةً من القرائن القطعية، التي يأخذ بها جمهور الفقهاء، كما أنها تمثل تطورًا عصريًّا ضخمًا في علم القيافة، علم القيافة يعتمد على الصفات الظاهرة، وتعتد به جمهرة المذاهب، وهذا -علم البصمة الوراثية- يعتمد على خصائص علمية وطبية وقياسية دقيقة جدًّا.
وأخيرًا فإن البصمة الوراثية حدث علمي جديد، يجب أن يأخذ حقه من الوقت، حتى يرقى إلى اليقين القاطع، ويصبح حقيقةً ثابتة، وإلى أن يتم ذلك فإنها تعد قرينةً قويةً في إثبات النسب، عند عدم الطرق الشرعية الثابتة، وبما أن الفقه الإسلامي يعتبر القرائن التي تدل على المراد، فإنه يجوز للقاضي أن يحكم استنادًا إليها كلما وجد في ذلك مصلحة، ولا نحتاج إلى القيافة ولا إلى القافة الذين كانوا في الماضي يحكمون، بعد أن أصبح لدينا وسيلة علمية جديدة، وثابتة، وقطعية، ويقينية، إذًا لا ضرر على القاضي أو القضاة أن يلجئوا إليها عند التنازع.
إذًا نقول بكلام واضح: البصمة الوراثية مهما كانت قوتها وقطعيتها لا ترقى إلى أن تتقدم على الطرق الشرعية الثابتة في إثبات النسب، فلا تتقدم على الفراش، ولا تتقدم على الوطء بملك اليمين، ولا تتقدم على الإقرار، ولا تتقدم على إثبات النسب بالبينة، ولكنها بعد هذه الطرق، وعند التنازع، الأولى الذهاب إليها، والأخذ بها وبنتائجها، فذلك من قياس الأولى، أولى من القيافة التي أخذ بها جمهور الفقهاء في الماضي.
والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.