حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة
معلوم أن وسائل الاتصال الحديثة هي: الهاتف الثابت الأرضي، والهاتف المحمول النقال أو الجوال أو الخلوي، وكذلك الفاكس والإنترنت والتلكس والتلغراف، هذه كلها من وسائل الاتصال الحديثة، وقد عرفنا في الفقرة السابقة في العنصر السابق مواصفات العقد الصحيح، ويمكن أن نقول في إيجاز: إذا توفرت أركان وشروط العقد السابقة في وسائل الاتصال الحديثة؛ كان العقد صحيحًا، وإذا لم تتوافر كان باطلًا، نحن نعلم أن هذه الوسائل الحديثة قربت المسافات والأماكن، وجعلت العالم كله قرية واحدة صغيرة، والتحقق من كل المواصفات السابقة للعقد الصحيح ممكنة وقائمة، فالعاقدان كرجال الأعمال أو غيرهم يعرف كل منهما الآخر، ويسمع كل منهما الآخر، ويقف كل منهما على الإيجاب أو القبول من الآخر، كل هذا يتم عبر الهاتف وأمام شهود من هنا أو من هناك.
والمعقود عليه معروف لكل منهما؛ سواء كانت كمية من الملابس، أو كمية من الشاي، أو كمية من القطن، أو غيرها؛ موجود في الجمرك، أو في الميناء، أو في بلد الصنع أو المستورد، والثمن متفق عليه ومعروف مقداره ويتم القبض إما بالشيكات أو البرقيات البنكية، أو البطاقات؛ بطاقات الصرف الآلي أو الائتمان أو نحو ذلك من الوسائل السريعة والفورية، فإذا تم ذلك بالمحادثة المباشرة فالمجلس متحد والإيجاب والقبول متحقق من العاقدين، والصيغة صحيحة والمعقود عليه معروف في الجملة لكليهما، والاتصال قائم، وإذا تم هذا الاتصال عن طريق الفاكس، فهي رسالة صحيحة مستبينة تبين كل شيء يكتب الموجب صيغتها ويضعها في الآلة، فتصل الطرف الآخر فيكتب عليها القبول، ويضعها في الآلة فتعود إلى صاحبها.
إذًا تم الاتصال وتم الإيجاب وتم القبول في لحظات، وإذا تم ذلك عبر الإنترنت فمجلسهما قائم يتحاوران ويتفقان، ولتأكيد الأمر يستحسن أن يكون بينهما شهود في مكتب هذا أو مكتب ذاك حسمًا للاختلاف والنزاع مستقبلًا، وحسب ما جاء في تعريف الاتحاد الدولي للمواصلات السلكية، واللاسلكية بأنها عملية تساعد المرسل على إرسال المعلومات بأي وسيلة من وسائل النظم الكهرومغناطيسية من تليفون، أو تلكس أو فاكس أو تلفزيون عبر الأقمار الصناعية، والحاسب الإلكتروني أو نحو ذلك مما يمكن أن يخترع في المستقبل، وبهذه الوسائل أصبح الاتصال يتم في لمح البصر، والشريعة الإسلامية مع كل وسيلة جديدة تحقق اليسر والسهولة في التعامل بشرط ألا يترتب على استخدامها ضرر أو غرر.
ووسائل الاتصال الحديثة ليست وسائل جديدة للتعبير، وإنما هي وسائل حديثة للتوصيل، ومن هنا يكون البحث عن حكم إجراء العقود بهذه الوسائل لا يتطلب البحث عن أمر جديد في ذلك النظام، وإنما يتطلب البحث عن مدى دخول هذه الوسائل الحديثة في تلك الوسائل المعتبرة قديمًا لدى المذاهب الفقهية من الكتابة، والرسائل، والإشارة، ومدى انطباقها عليها، ويتضح من هذه الوسائل الحديثة أن إنشاء العقود عبرها يتم إما من خلال اللفظ كالتليفون واللاسلكي والراديو والتلفزيون والإنترنت المصحوب بالصوت، مثل برنامج فوكس وير، ويتم كذلك من خلال المكتوب كالبرقية والتلكس والفاكس والإنترنت غير المصحوب بالصوت، إذًا كل الوسائل سواء كانت صوتية لفظية، أو كتابية داخلة فيما سبق أن أشار إليه الفقهاء، واتفقوا عليه من صحة العقود بالكتابة وبالرسالة وبالإشارة.
ومن المعلوم أن جهاز التليفون ينقل كلام المتحدث فيه مباشرة، وبدقة متناهية حيث يسمع كل من المتعاقدين الآخر بوضوح، ولا يختلف الكلام فيه عن الكلام المباشر سوى عدم رؤية أحدهما للآخر، ووجود فاصل مكاني بينهما، وقد توصلت التكنولوجيا الحديثة إلى اختراع جهاز تليفون ينقل الصوت والصورة معًا، ومن هنا فإذا انتهى عقد ما في خلال التليفون والوسائل المماثلة، وتم فيه الإيجاب والقبول مع بقية الشروط المطلوبة، فإنه عقد صحيح لا غبار عليه، أما عدم رؤية أحدهما فليس له علاقة بصحة العقود أو عدمها؛ لأن المطلوب في باب العقود سماع الإيجاب والقبول والتقاؤهما على التراضي بأي وسيلة كانت، ومن جانب آخر فإن الأساس في العقود هو صدور ما يدل على الرضا والاختيار بصورة واضحة مفهومة، وذلك متحقق في التليفون وغيره من وسائل الاتصال الحديثة.
كما أن العرف له دور أساسي في إبرام العقود، وقد جرى العرف على اعتبار هذه الوسائل، وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، وقرر صحة إجراء التعاقد عن طريق التليفون واللاسلكي بقوله في القرار: إن مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة في جدة من 17 إلى 23 /8 /1410 هجرية، الموافق من 14 إلى 20/3/1990 قرر إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد، وهما في مكانين متباعدين -وينطبق ذلك على الهاتف واللاسلكي- فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقدًا بين حاضرين، وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء، وهي مواصفات العقد الصحيح كما سبق أن بينا.
والأجهزة الأخرى التي تعتمد الكتابة كالفاكس والتلكس والتلغراف جمهور الفقهاء على الاعتداد بها، فالكتابة كالخطاب، والتعاقد بها جائز كما سبق أن بينا في مواصفات العقد الصحيح.
وقد كتب الدكتور أشرف عبد الرازق ويح، أستاذ في كليه الحقوق قسم الشريعة جامعة طنطا، بحثًا عن التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة في العدد الثالث والثلاثين من (روح القوانين)، وهي مجلة علمية محكمة تصدر عن أعضاء هيئة التدريس بكلية الحقوق جامعة طنطا، سنة 2004 وقد أجاد وأفاد في ذلك البحث، وقد أخذنا منه بعض العبارات التي جاءت في العنصر الثالث.