حكم إقرار الوكيل على موكله
بمعنى: أنه تم توكيل شخص ما في خصومة، فهل يملك هذا الوكيل أن يقر على الموكل بموجب هذه الوكالة؟ اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين:
أولهما: للحنفية, ما عدا زفر من أصحاب أبي حنيفة.
قال الحنفية: لو وكل شخص آخر، يملك الوكيل أن يقر على موكله، لكن بغير الحدود والقصاص؛ لأن الوكيل بالخصومة؛ أي: وكلته في خصومة يخاصم فيها عني، فهذا الوكيل بالخصومة الأصل أنه وكيل بالجواب فقط، أي: يسمع ويرد فقط، لكن بالجواب عن دعوى الخصم، ولا ينازع؛ أي: يرد، لكن الجواب مطلقًا قد يكون إنكارًا، وقد يكون إقرارًا؛ فأنا وكلته بالجواب فقط, هذا الجواب قد يكون إنكارًا وقد يكون إقرارًا، فهو يجوز له الإنكار لكن لا يجوز له أن يقر.
فلو وكلته بالخصومة, قال الحنفية في ذلك: يملك الإقرار بغير الحدود والقصاص؛ أي: يملك أن يقر بكل شيء بالماليات وخلافه، لكن يقول: أنا أقر بأن فلانًا أو هذا الذي وكلني ارتكب حدًّا في كذا, أقر بأن عليه قصاصًا، فهذا لا يجوز.
فالحنفية الذين قالوا: يملك الإقرار بغير الحدود والقصاص، قالوا: يجوز له عند التوكيل بالخصومة أن يستثني الإقرار؛ أي: يقول لوكيله: وكلتك في الخصومة فيما عدا الإقرار، فإذا كان يملك الإقرار ويريد ألّا يقر عليه ويمنعه يجعل وكالته في الخصومة إنكارًا فقط؛ أي: يسمع دعوى الخصم وينكر.
إذًا: الحنفية ما عدا زفر قالوا: يملك الإقرار، وإذا أراد أن يستثني الإقرار يستثنيه، فيكون وكيلًا بالإنكار فقط.
الرأي الثاني: للجمهور, المالكية والشافعية والحنابلة، ومعهم زفر؛ لأنه ما دام ليس مع أبي حنيفة، فإنه مع الجمهور.
قالوا: إن الوكالة لا تتضمن الإقرار على الموكل، فإذا وكل شخص آخر في خصومة، فلا يملك هذا الوكيل الإقرار على موكل؛ لأن التوكيل بالخصومة معناه التوكيل بالمنازعة، كأنهم أخذوها بالمعنى؛ أي: المنازعة معناها الخصومة؛ فأنا في خصومة مع شخص ثم وكلت شخصًا ليدخل في الخصومة، فالخصومة معناها المنازعة، لكن الإقرار تسليم، فما دمت أقررت فكأنني سلمت للخصم، وما دامت الوكالة بالخصومة فالأصل فيها أنه ينازع وينكر، ولا يقر؛ لأن الإقرار فيه معنى الخصومة، إذًا: الإقرار يتنافى مع معنى الوكالة بالخصومة التي هي المنازعة، وما دام يتنافى مع معنى الوكالة بالخصومة؛ فلا يملك الوكيل الإقرار.
قال الجمهور: إنه لا يملك الإقرار مطلقًا في أي شيء، إنما يملك الإنكار فقط؛ لأنه يملك المخاصمة، والمخاصمة تعني المنازعة، والإقرار يعني التسليم، فلا يملك إلا المخاصمة فقط، وهذا الذي لا يجوز، ولا يملك الإقرار.
وأساس الخلاف هذا بين الحنفية وبين الجمهور، هو المعنى الموجود في قاعدة: هل الأمر المطلق الكلي يقتضي الأمر بشيء من أجزائه أم لا يقتضي؟ أي: الأمر المطلق يقتضي أو يستلزم الأمر بكل جزئية من جزيئاته أم لا يقتضي؟
فالحنفية قالوا: يقتضي كله، فما دمت قد وكلته في خصومة, فكأني وكلته في كل جزئية من جزئيات هذه الخصومة إقرارًا وإنكارًا، فيصح إقراره بالخصومة كما يصح إنكاره في الخصومة.
أما الجمهور فقالوا: إن الأمر المطلق الكلي لا يقتضي ما ذكر، وإنما يختص بجنس فقط من أنواعه، وليس بفرد من أفراده، بل يظل على إطلاقه، وعليه إقرار الوكيل على موكله في الوكالة بالخصومة لا يصح؛ لأن لفظ التوكيل من حيث الإطلاق لا يعني إلا المنازعة, والمنازعة التي هي تفسير لمعنى المخاصمة أو الخصومة، وهذا لا يتناول الإقرار أبدًا, فلفظ التوكيل من حيث إطلاقه لا يتناول الإقرار.