حكم استرداد العارية وردها
حكم استردادها, أي: أن يقوم المعير باستردادها بعد أن يقبضها المستعير، وهذه المسألة لا تخرج عن المسألة التي ذكرناها، وهي أحكام الرجوع في العارية، والتي كان للجمهور غير المالكية فيها رأي، وللمالكية رأي آخر في جواز الرجوع أو عدم جوازه، وعرفنا ما جاء فيها في الرأيين.
لكن في حكم رد العارية نقول: إن العين المعارة بعد أن تنتهي إعارتها، بعد تحديد الأجل أو بعد تحديد العمل إذا كانت باقية؛ يجب على المستعير أن يردها إلى المعير وهو المالك لها، أو يردها لوكيله، فالمعير قد يكون له وكيل يقبض نيابة عنه، فإذا كانت العين باقية على حالها ولم يحدث لها أي تغيير، وكانت محددة بمدة وانتهت هذه المدة أو انتهى العمل المقيد به العارية؛ فعلى المستعير أن يردها لمالكها أو لوكيله في القبض، ويبرأ بذلك من ضمانها بلا خلاف، ما دام المستعير ردها إلى مالكها وهو المعير, أو إلى وكيل المعير.
وإنما الخلاف بين الفقهاء فيما إذا كان الرد بواسطة أشخاص آخرين غير المستعير, أو كان الرد من المعير نفسه ولكن إلى غير المالك أو لغير وكيل المالك، هذا هو محل الخلاف في مسألة رد العارية أو ما يترتب على حكم ردها من ناحية الرد بالواسطة، وليس مباشرة.
الرأي الأول في هذه المسألة: ذهب إليه الحنفية في المستحسن عندهم، والمالكية حيث قالوا: إن المستعير إذا رد العارية بواسطة خادمه، أو بعض من هم في عياله كولده وخادمه وزوجته -كل هؤلاء يسمون في عياله- فعطبت الدابة مثلًا وهلكت, فلا ضمان عليه عند الحنفية استحسانًا وعند المالكية؛ لأن يد من في عياله كيده في الرد، كما أن يده في الحفظ كيده، ويعتبر مأذونًا له من المعير الذي هو المستعير إلا أن هؤلاء في عياله كأنه يعولهم، فكأنهم مأذونٌ لهم في الرد ضمنًا أو دلالة، فإذا رده أو ردوا هم، هذا معروف دلالته.
قالوا: كذلك لا يضمن إذا رد العارية -كالدابة مثلًا- إلى خادم صاحب العارية، أي: ردها المستعير بنفسه إلى خادم صاحب العارية، أو ردها من في عياله إلى خادم صاحب العارية، ففي كل هذه الصور يعتبر المستعير بريئًا، ولا يضمن استحسانًا عند الحنفية؛ فالقياس أنه لا يبرأ إلا إذا سلمها إلى صاحبها، وسلمها له في يده، وعليه يبرأ عن الضمان؛ لأن العارية كالوديعة، وما لم تصل إلى يد صاحبها فهي تعتبر في ضمان المستعير.
وقالوا استحسانًا؛ لأنه إذا رد الدابة مثلًا ولم تكن في يد مالكها، ولكن ردها إلى الإسطبل مثلًا -وهو المكان الذي تبيت فيه الدواب- أو أرسلها المستعير مع عبده أو مع أجير عنده يعمل عنده المدد الطويلة كالسنة أو الشهر، أو أرسلها مع عبد صاحبها, أي المالك أو مع أجير عنده، فكل هذا يعتبر ردًّا فيه معنى التسليم استحسانًا، والقياس أنه يضمن إذا ردها إلى الإسطبل فهلكت، أو رد العبد الشيء المستعار إلى دار المالك، أي: وصل إلى الباب فأدخلها في باب صاحبها، وهنا تلفت لأنه لم يسلمها ليد صاحبها.
هم قالوا: استحسانًا لا يضمن, وفي القياس لو قسناها على الوديعة يضمن؛ لأن صاحبها لم يتسلمها في يده, ووجه الاستحسان أنهم قالوا: إن الشخص إذا فعل ذلك أي: أوصلها إلى الإسطبل، أو ردها عبده أو خادمه؛ يكون قد أتى بالتسليم المتعارف عليه؛ لأن رد العواري -جمع عارية- إذا جرى العرف بأنه إذا أوصلها الشخص إلى دار مالكها, هذا متعارف عليه كآلة البيت والأشياء الأخرى، كأنه أوصلها، والناس جرت عادتهم على هذا؛ لأن الناس يحفظون دوابهم في مرابطها في الإسطبل، وكذلك لو سلمها إلى مالكها نفسه لم يفعل غير ذلك، فهو سيردها إلى الإسطبل.
وهذا -كما يقولون- في الشيء المعار غير النفيس؛ لئلا يتصور أن كل المستعار يجري فيه ذلك، أما الشيء النفيس كالجواهر ونحوها فلا بد فيه من التسليم للمالك جريًا على العرف، فهذا لا يعتبر فيه الاستحسان، وإنما لا بد أن يسلم الشيء النفيس إلى يد المالك؛ لأن العادة قد جرت بذلك، وإلا فلا يبرأ.
هذا بالنسبة لأصحاب الرأي الأول، الذين قالوا: إن المستعير إذا رد العارية بواسطة خادمه أو غيره فإنه يبرأ، لكن الحنفية والمالكية في الاستحسان عندهم.
أما الشافعية والحنابلة فيقولون: إن الواجب على المستعير أن يرد العارية إلى المالك الذي أخذ منه العارية أو يسلمها لنائبه، وإذا ردها إلى المكان الذي أخذها منه أو إلى ملك صاحبها لم يبرأ، كما في الوديعة لأن الوديعة تعتبر أمانة، والعارية تعتبر أمانة؛ لأن كل ذلك من باب الأمانات، وهنا لم يعتبر الرد إلى المالك ولا إلى نائبه، فكأنه دفعها لأجنبي.
وكذلك لا يبرأ عند الشافعية والحنابلة بالرد إلى ولد صاحب العارية أو إلى زوجته, فلو ذهب ولم يجد المالك نفسه أو وكيله، وسلمها إلى ولده مطلقًا أو زوجته لا يبرأ, بل يجب الضمان عليهما بالرد إليهما، أي: إذا سلمها لولده أو لزوجته وقام ولده أو زوجته بإرسالها إلى مكان فعطبت؛ يكون الضمان على زوجة هذا المعير أو على ولده؛ لأن التلف حصل في يدهما، ولو غرما لم يرجعا على المستعير، ولكن لو غرم المستعير رجع عليهما؛ لأن الهلاك في الحقيقة حدث تحت أيديهما لأنهما اللذان استلما.
وعليه يكون قول الشافعية والحنابلة هنا بالنسبة إلى التسليم للزوجة أو الولد, حينما قالوا بالتعويض أو الضمان هنا, كأن التسليم إلى الزوجة أو الولد يعتبر كتسليمه للمالك الذي هو والد الابن هذا أو الزوج.
وتأتي مسألة هنا تتصل بمسألة رد العارية، وهي عن مئونة الرد، أي: تكلفة الرد، فعلى من تكلفة رد العارية؟
الجمهور أو المذاهب الأربعة مطلقًا قالوا: رد العارية على المستعير, أي: أجرتها، فلو كان استلمها مثلًا في محافظة واستعملها في محافظة أخرى، ردها إلى صاحبها من المحافظة التي ينتفع فيها, أو إلى مالكها عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى ترد)), وقوله صلى الله عليه وسلم: “العارية مؤداة”, ولأن الإعارة مكرمة ومعونة، فلو لم تكن التكلفة أو النفقة على المستعير لامتنع الناس عنها؛ فربما يقول المعير: أنا أعطيها له من باب المعونة والرفق, ثم عند الرد أدفع تكاليف ردها! فربما امتنع الناس عن ذلك، فكان يجب الرد على المستعير.