حكم التصحيح والتحسين بالنسبة للمتأخرين
لما كان الحكم على الحديث بالصحة أو الحسن، يتوقف على توفر شروط الصحة في الحديث الصحيح، وشروط الحسن في الحديث الحسن، وبعض هذه الشروط يستطيع الباحث الوقوف عليها، ومعرفة مدى تحققها في الحديث، وبعض هذه الشروط لا يقف عليها إلا الأئمة الجهابذة.
أولًا: الشروط التي يمكن للباحث الوقوف عليها:
الشرط الأول: اتصال الإسناد.
الشرط الثاني: عدالة الرواة.
الشرط الثالث: ضبط الرواة.
فهذه الشروط الثلاثة، يمكن للباحث المتخصص في علم الحديث أن يقف على مدى تحققها في الحديث، وأن يعرف هل تحققت أم لا، غير أن هناك شروطًا للحديث الصحيح والحسن لا يتمكن من الوقوف عليها، ومعرفة مدى تحققها إلا الأفذاذ الجهابذة من أئمة الحديث، وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: السلامة من الشذوذ.
الشرط الثاني: السلامة من العلة القادحة، فلا يستطيع كل من اشتغل بالحديث، ولم يصل إلى درجة الإمامة فيه، أن يعرف هل الحديث الذي يَبحث عن صحته سلم من الشذوذ والعلة القادحة أم لا؟ لذلك وجدنا أن العلماء اختلفوا في جواز التصحيح والتحسين بالنسبة للمتأخرين، وهذه آراؤهم:
الرأي الأول: ذهب ابن الصلاح ومن وافقه، إلى أنه لا يجوز للمتأخرين أن يحكموا على الحديث بالصحة أو بالحسن، فإذا وجدوا حديثًا لم يحكم عليه إمام من المتقدمين، فلا يجوز لهم أن يحكموا عليه بصحة أو بحسن، فعلى المتأخرين أن يعتمدوا في معرفة الصحيح والحسن على ما نص عليه الأئمة المتقدمون في مصنفاتهم.
وجهة نظر ابن الصلاح:
ترجع وجهة نظر ابن الصلاح، في منع المتأخرين من الحكم على الحديث بالصحة أو الحسن إلى الآتي:
- عدم أهلية المتأخرين بالنسبة للمتقدمين، للحكم على الحديث؛ لأن صحة الحديث أو حسن الحديث لا يتوقف على دراسة الإسناد فقط، ومعرفة ما إذا كان متصلًا، وأن الرواة عدول ضابطون، بل لا بد مع ذلك من سلامة الحديث من الشذوذ، والعلة القادحة، ومعرفة الشذوذ والعلة القادحة أمر لا يستطيع المتأخرون إدراكه، أو الوقوف عليه.
- لو صح حديث لما أهمله الأئمة المتقدمون؛ لشدة فحصهم واجتهادهم في البحث عن صحيح الحديث.
الرأي الثاني: ذهب الإمام النووي ومن وافقه إلى جواز التصحيح والتحسين، لمن تمكن من ذلك وقويت معرفته، ولم يجعل هذا قاصرًا على المتقدمين. واستدل على ذلك بما يأتي:
صحح العلماء الذين عاصروا ابن الصلاح ومن جاء بعده أحاديث، ليس للمتقدمين فيها تصحيح، فمن هؤلاء: أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك القطان، المتوفى في سنة ثمان وعشرين وستمائة، وهو صاحب كتاب (الوهم والإيهام) صحح فيه حديث ابن عمر: ((أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه، ويمسح عليهما ويقول: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل)).
ومنهم: الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي، المتوفى في سنة ثلاث وأربعين وستمائة من الهجرة، وهي السنة التي توفي فيها ابن الصلاح، جمع كتابًا سماه (المختارة مما ليس في الصحيحين أو أحدهما) مرتب على المسانيد على حروف المعجم ولم يكمله، التزم فيه الصحة وذكر فيه أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها.
وصحح الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المصري المنذري، صاحب كتاب (الترغيب والترهيب) المتوفى في سنة ست وخمسين وستمائة من الهجرة حديث بحر بن نصر، عن ابن وهب، عن مالك ويونس، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة في غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ثم صحح أهل الطبقة التي تلي هذه، فصحح الحافظ شرف الدين الدمياطي حديث جابر: ((ماء زمزم لما شرب له)) ثم صحح أهل الطبقة التي تلي هذه، ولم يزل ذلك دأب من بلغ أهلية ذلك منهم، إلا أن منهم من لا يقبل ذلك منهم، وكذا كان المتقدمون ربما صحح بعضهم شيئًا فأُنْكِرَ عليه تصحيحه.
قال الحافظ العراقي عقب قول الإمام النووي: “والأظهر عندي جوازه -أي: جواز التصحيح والتحسين- لمن تمكن وقويت معرفته، وهذا هو الذي عليه عمل أهل الحديث، فقد صحح غير واحد من المعاصرين لابن الصلاح ومن جاء بعده أحاديث، لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحًا كأبي الحسن بن القطان، والضياء المقدسي، وعبد العظيم المنذري”.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: “قد اعترض على ابن الصلاح كل من اختصر كلامه، وكلهم دفع في صدر كلامه من غير إقامة دليل ولا بيان تعليل، ومنهم من احتج بمخالفة أهل عصره ومن بعده له في ذلك، كابن القطان والضياء المقدسي والزكي والمنذري ومن بعدهم، وليس بوارد؛ لأنه لا حجة على ابن الصلاح بعمل غيره، وإنما يُحتج عليه بإبطال دليل، أو معارضته بما هو أقوى منه، ومنهم من قال: لا سلف له في ذلك، ولعله بناه على جواز خلو العصر من المجتهد”. وهذا إذا انضم إلى ما قبله من أنه لا سلف له فيما ادعاه وعمل أهل عصره ومن بعدهم على خلاف ما قال انتهض دليلًا.
يلزم من كلام ابن الصلاح رد ما هو صحيح وقبول ما ليس بصحيح، وهذا لا يجوز. قال الحافظ ابن حجر: “وما اقتضاه كلام ابن الصلاح من قبول التصحيح من المتقدمين ورده من المتأخرين، قد يستلزم رد ما هو صحيح وقبول ما ليس بصحيح، فكم من حديث حكم بصحته إمام متقدم، طلع المتأخر فيه على علة قادحة تمنع من الحكم بصحته، ولا سيما إن كان ذلك المتقدم ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، كابن خزيمة وابن حبان والحاكم”.
قال الحافظ ابن حجر: “أما الكتاب المشهور، الغني بشهرته عن اعتبار الإسناد منا إلى مصنفه، كالمسانيد والسنن، مما لا يحتاج في صحة نسبتها إلى مؤلفيها إلى اعتبار إسناد معين، فإن المصنف منهم إذا روى حديثًا، ووُجدت الشرائط فيه مجموعة، ولم يطلع المحدث المتقن فيه على علة لم يمتنع الحكم بصحته، ولو لم ينص عليه أحد من المتقدمين”.
قال الحافظ السيوطي: “والأحوط في مثل ذلك أن يعبر عنه بصحيح الإسناد، ولا يطلق التصحيح لاحتمال علة للحديث خفيت عليه، وقد رأيت من يعبر خشية من ذلك بقوله: صحيح إن شاء الله”.
اعتذاره عن ابن الصلاح:
قال الحافظ ابن حجر: “قد يقوي ما ذهب إليه ابن الصلاح بوجه آخر، وهو ضعف نظر المتأخرين بالنسبة للمتقدمين، وقيل: إن الحامل لابن الصلاح على ذلك، أن (المستدرك) للحاكم كتاب كبير جدًّا، يصفو له منه صحيح كثير، وهو ما حرصه على جمع الصحيح، غزير الحفظ كثير الاطلاع واسع الرواية، فيبعد كل البعد أن يوجد حديث بشرائط الصحة لم يخرِّجه، وهذا قد يُقبل، لكنه لا ينهض دليلًا على التعذر”.