حكم التعبد بخبر الواحد عقلًا وشرعًا، ومذاهب العلماء في ذلك
تحرير محل النزاع، وحكاية الخلاف في مسألة التعبد بخبر الواحد عقلًا:
اتفق العلماء جميعًا على وجوب العمل بخبر الواحد العدل في الفتوى، والشهادة، والأمور الدنيوية، كالحروب، وإخبار طبيب أو غيره بنفع شيء أو مضرته، وإخبار شخص عن المالك أنه منعه من التصرف في ثماره بعد أن أباحها؛ لأن هذه الأمور يكتفى فيها بالظن، وخبر العدل الواحد مفيد لهذا الظن. تلك جزئية لا بد أن تعوها جيدًا وتعلموها قبل الخوض في مسألة التعبد بخبر الواحد، وهذه ما يسميها أهل العلم: تحرير محل النزاع.
وهكذا يحرر محل النزاع، بمعنى: أن تذكر الجزئيات أو المسائل التي اتفق عليها العلماء أولًا، ثم تبين حكمها وتنحيها، ثم تصل في النهاية إلى محل النزاع.
والخلاف بين العلماء إنما هو في العمل بخبر الواحد في الأمور الدينية الأخرى، مثل ماذا؟ مثل الإخبار بطهارة الماء أو نجاسته: هب أن إنسانًا أخبرك بأن هذا الماء طاهر، أو هذا الماء نجس، يترتب على هذا الخبر حكم؛ فإن أخبرك بطهارة الماء جاز لك استعماله في وضوء، أو غسل، أو شرب… أو نحو ذلك، وإن أخبرك بنجاسة هذا الماء ترتب عليه حكم؛ وهو عدم استعمال الماء في رفع حدث أو إزالة نجس… أو نحو ذلك.
مقامات الخلاف في وجوب العمل بخبر الواحد في الأمور الدينية:
الخلاف في وجوب العمل بخبر الواحد في الأمور الدينية يمكن حصره ورده في مقامين اثنين:
المقام الأول: مقام الجواز العقلي.
المقام الثاني: مقام الوقوع الشرعي.
وقد أشرنا -غير مرة- إلى مسألة الجواز العقلي: العلماء كثيرًا ما يتكلمون: هل هذا الأمر جائز عقلًا أو لا؟ وهل هذا الأمر جائز شرعًا أو لا؟ فهناك جواز عقلي يقابله وقوع سمعي، أو وقوع شرعي، أو وقوع نقلي، جواز عقلي يعني: العقل هو الذي يحكم في المسألة، هل هذا جائز عقلًا؟ يعني: لا يترتب على فرض وقوعه محال أو لا؟ هذا يسميه العلماء: الجواز العقلي.
أما الوقوع السمعي أو الوقوع الشرعي فمعناه: أن الشرع قد جاء فعلًا وأمر فعلًا بالتعبد بخبر الواحد. إذن كلامنا الآن محصور في مقامين: المقام الأول: مقام الجواز العقلي، وأنا أسألك: هل يجوز عقلًا أن يتعبدنا الشارع بخبر الواحد؟ وأسألك أيضًا: هل وقع سمعًا وشرعًا التعبد بخبر الواحد أو لا؟.
2. التعبد بخبر الواحد عقلًا:
اختلف العلماء في التعبد بخبر الواحد عقلًا على مذهبين:
المذهب الأول: مذهب جمهور العلماء:
الفريق الأول من الجمهور (أكثرُهم): التعبد بخبر الواحد عقلًا جائز:
يرى السواد الأعظم من الجمهورأن التعبد بخبر الواحد عقلًا جائز لا شيء فيه. فالعقل لا يحيل أن يتعبد الله تعالى خلقه بخبر الواحد، بأن يقول لهم مثلًا: اعبدوني بمقتضى ما يبلغكم عني وعن رسولي على ألسنة الآحاد، هب مثلًا أن الشارع قال ذلك، قال: أيها الناس، أو: يا معشر المكلفين، اعبدوني بمقتضى ما يبلغكم عني وعن رسولي على ألسنة آحاد الناس، فهذا لا يترتب على فرض وقوعه محال؛ فيكون جائزًا عقلًا.
أدلة الجمهور:
قال الجمهور: خبر الواحد لا يترتب على فرض وقوعه محال، وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلًا.
الفريق الثاني من الجمهور: التعبد بخبر الواحد عقلًا واجب:
إذا كان السواد الأعظم من الجمهور يقول: التعبد بخبر الواحد عقلًا جائز. فقد خرج -من الجمهور- فريق وقال: التعبد بخبر الواحد عقلًا واجب؛ بمعنى: يجب على الأمة العمل بمقتضى خبر الواحد. واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها:
الدليل الأول: قالوا: إن الحوادث كثيرة -الحوادث يعني: وقائع الناس، وما يحدث من الناس، وقضايا الناس-والوقائع متجددة على مر العصور والأزمان، فلو لم نتعبد بخبر الواحد ونعمل به؛ للزم من ذلك تعطيل وخلو تلك الحوادث والوقائع عن الأحكام الشرعية؛ فتكون لا حكم لها.
وهذا كلام منطقي ومسلم، يعني: وقائع الناس ومستجدات الناس وحوادث الناس وقضايا الناس لا تقف عند حد معين، بل هي متجددة وغير متناهية، فلو لم نعمل بخبر الواحد؛ لخلت وقائع كثيرة جدًّا عن بيان حكم الشرع فيها؛ لأن معظم الأحكام الشرعية وردت إلينا عن طريق أخبار الآحاد.
إذن لو لم نتعبد بخبر الواحد ونعمل به؛ لترتب على ذلك تعطيل وخلو حوادث كثيرة ووقائع مستجدة عن الأحكام الشرعية، فتكون لا حكم لها؛ وذلك لسببين:
السبب الأول: أن القواطع من الأدلة الشرعية نادرة جدًّا، يعني: معظم النصوص الشرعية هي من قبيل الظن، لا من قبيل القطع، فالأدلة القطعية الشرعية نادرة، وإن وجدت تلك القواطع من الأدلة؛ فإنها لا تفي بإيجاد أحكام شرعية لعدد قليل جدًّا للحوادث المتجددة؛ لأن وقائع الناس -كما قلت لكم- متجددة ومتغيرة، وأصبح في زمننا الآن وقائع كثيرة جدًًّا لم تكن معروفة في عهد الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة المجتهدين، فنحن في عصر يحتاج لبيان حكم الاستنساخ، واستئجار الأرحام، ونقل الأعضاء… وما إلى ذلك، هذه وقائع كثيرة ومستجدة، فالأدلة القطعية الواردة في الشريعة نادرة ومحصورة، أما وقائع الناس فكثيرة؛ فلو قلنا: لا بد من أدلة قطعية؛ لخلت وقائع كثيرة بدون معرفة حكم شرعي.
السبب الثاني: أن مدارك اليقين قليلة؛ فهي لا تتعدى خمسة -وقد أشرنا إليها قبل ذلك- فهي الأوليات، وهي الأمور العقلية المحضة كعلم الإنسان باستحالة اجتماع الضدين، والمشاهدات الباطنة، كعلم الإنسان بجوع نفسه، والمحسوسات الظاهرة، وهي الأمور المدركة بالحواس الخمسة المعروفة، والتجريبيات وهي التي ثبتت عن طريق التجربة ككون النار محرقة، والمتواترات كالعلم بوجود الهند مثلًا، فمدارك اليقين قليلة، والنصوص القطعية قليلة؛ ونتيجة لهذين السببين يلزم أن كثيرًا من الحوادث والوقائع والقضايا المستجدة ستتعطل وتخلو عن أحكام؛ لو قلنا: لا يجب العمل بخبر الواحد، وحينئذ يصدق ما زعمه أعداء الإسلام: من أن الإسلام غير قادر على إيجاد حلول وأحكام لما يتجدد من حوادث ووقائع عصرية، لكننا لو قلنا بوجوب التعبد بخبر الواحد لبطل هذا الزعم، وطالما أن خبر الواحد ثبت عندنا وثبتت صحته فما المانع إذن أن نرتب عليه الأحكام.
الدليل الثاني: أن الله تعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى المكلفين من الناس كافة، يعني: بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت للناس كافة؛ دليل ذلك قول الله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سـبأ: 28] وقال سبحانه: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وروى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود)) فإذا كان نبينا- صلى الله عليه وسلم- مبعوثًا إلى جميع الناس؛ فلا بد من تبليغهم بالرسالة والأحكام العملية، وهناك طرق لذلك التبليغ، وهي كما يلي: قررنا الآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة، وبحكم هذه البعثة إلى الناس كافة يلزمه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الناس الرسالة؛ لقوله تعالى: {يَـَأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ} [المائدة: 67] فما هو طريق تبليغ هذه الرسالة؟
الطريق الأول: إما مشافهة جميع الأمة، يعني: يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويخاطب ويشافه جميع الأمة بالأحكام الشرعية، ويبلغهم بما جاء به من أحكام، هذه احتمالات؛ لتبليغ أحكام الشريعة من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة.
الطريق الثاني: أن يبلغهم أحكام الشريعة الإسلامية عن طريق التواتر خاصة، والتواتر -كما عرفتم: خبر جماعة عن جماعة، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، يعني: إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر بحكم، وأن يعلم الناس حكمًا؛ لا بد أن يرسل مجموعات كثيرة؛ لتبلغ هذه الأحكام.
الطريق الثالث: أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الأحكام الشرعية عن طريق الآحاد.
تفنيد هذه الطرق الثلاثة:
- الطريق الأول متعذر؛ فإنه لو جاز لبعض الموجودين في عصره صلى الله عليه وسلم فإنه متعذر للبعض الآخر؛ لأنَّ من عاصر النبي يسمع من النبي مشافهة، ومن لم يعاصر النبي كيف يشافهه النبي صلى الله عليه وسلم؟!
- الطريق الثاني متعذر جدًّا ولا يمكنه ذلك؛ ولك أن تتصور لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل مجموعات كثيرة ليبلغوا الناس الأحكام، لا شك أنه سيأتي وقت تخلو المدينة المنورة تمامًا من الصحابة، ومع ذلك لا يفي بالغرض صلى الله عليه وسلم.
- الطريق الثالث ممكن وغير متعذر؛ حيث إنه يمكن أن يرسل النبي صلى الله عليه وسلم آحاد الصحابة إلى القبيلة الكثيرة العدد فيبلغهم بالأحكام، يعني: لو أرسل واحدًا أو اثنين أو ثلاثة مثلًا إلى قبيلة أو بلد، وقال: أخبروهم بأن الله تعالى شرع عليهم كذا وكذا وكذا، لا شك أن هذا كافٍ في المراد وهو تبليغ أحكام الشريعة. ويمكن أن يروي واحد من الصحابة حديثًا إلى جماعة آخرين… وهكذا. فلو لم يجب العمل بهذا الطريق -وهو خبر الواحد- لتعطلت الأحكام الشرعية.
الدليل الثالث: إنَّ في العمل بخبر الواحد دفع ضرر مظنون، لماذا؟ قالوا: لأنَّ خبر الواحد يفيد الظن بمقتضاه، فإذا ورد خبر الواحد بإيجاب شيء أو تحريم شيء، هب أنه بلغك خبرك بإيجاب شيء: يجب عليك فعل كذا، أو يحرم عليك فعل كذا، ما الذي يتحصل عندك؟ يتحصل عندك غلبة الظن بإيجاب هذا الشيء أو تحريم هذا الشيء، فإذا ورد بإيجاب شيء، أو تحريمه حصل لنا الظن بأنا معاقبون على ترك الواجب وفعل المحظور؛ لأن هذا تعريف الواجب وتعريف المحظور.
فالواجب: ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، والمحظور أو الحرام: ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله؛ فلو ورد خبر واحد بإيجاب شيء أو بتحريم شيء، فعلى فرض: أنني لا أمتثل ولا أعمل بمقتضى هذا الخبر، فإن تركت الواجب عوقبت، وإن فعلت الحرام عوقبت، والعقاب عليهما ضرر مظنون، لو عملنا بمقتضى هذا الخبر الذي أوجب شيئًا أو حرم شيئًا، دفع هذا الضرر المظنون، بمعنى خروجًا من العهدة.
إذن العمل بخبر الواحد فيه دفع ضرر مظنون، وأما كون دفع هذا الضرر المظنون واجبًا عقلًا فمما لا ينازع فيه عاقل، يعني: لا نرى عاقلًا ينازع فيه أن الإنسان يجب أن يدفع عن نفسه الضرر المظنون؛ لأن فيه أخذًا للاحتياط بالنفس، والاحتياط للنفس واجب عقلًا بالضرورة.
المذهب الثاني: لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلًا:
ذهب فريق من أهل العلم إلى أنه لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلًا، وهذا المذهب مذهب الجبائي من المعتزلة، وجماعة من المتكلمين، قالوا: لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلًا، يعني: العقل يمنع ذلك.
أدلة المذهب الثاني:
الدليل الأول: التعبد بخبر الواحد عقلًا يؤدي إلى تحريم الحلال أو تحليل الحرام، كيف ذلك؟ قالوا عند كذب المخبر، يعني: لو أن المخبر بخبر الآحاد كان كاذبًا فيما ينقله إلينا، فكذب هذا سيؤول ويؤدي إلى تحليل حرام أو تحريم حلال؛ لأن خبر الواحد وارد في أحكام شرعية، فقالوا: إن التعبد بخبر الواحد عقلًا يؤدي إلى تحريم الحلال، أو تحليل الحرام، عند كذب المخبر أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شك أن تحريم الحلال أو تحليل الحرام ممتنع وباطل؛ وعليه فما أدى إليه يكون باطلًا كذلك؛ ومن ثم فلا يجوز العمل بخبر الواحد عقلًا.
وهل لنا نحن معاشر الجمهور من جواب على هذا الدليل؟ أقول: نعم، الجواب عن هذا الدليل ينبني على مسألة خلافية في درس الاجتهاد، وهي: هل كل مجتهد مصيب أو أن المصيب واحد؟ بمعنى: هل كل مجتهد في مسألة فقهية مصيب في اجتهاده في معرفة حكم الشرع فيها، أو أن المصيب واحد وما عاداه مخطئ؟ وهذه تعرف عند أهل الأصول بـ”مدرسة المصوبة” و”مدرسة المخطئة” فالمصوبة يرون أن كل مجتهد في المسائل الفرعية مصيب، يعني: ما يصل إليه باجتهاده هو الصواب وهو حكم الشرع.
والمخطئة يرون أن المصيب في المسائل الفرعية واحد، ومن عداه مخطئ. فكلام الجبائي وبعض المتكلمين في أنه: لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلًا؛ لأنه يؤدي إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام مبني على هذه المسألة -أعنى مسألة: هل كل مجتهد مصيب أو أن المصيب واحد- فإن قلنا: إن كل مجتهد مصيب، مع مدرسة المصوبة؛ فلا يرد هذا الدليل علينا؛ لأنه حينئذ حكم الله في المسألة هو ما يصل إليه المجتهد باجتهاده.
وإن قلنا: إن المصيب واحد -كما هو اتجاه مدرسة المخطئة- بمعنى أن الله تعالى له في المسألة حكم معين فالدليل ساقط أيضًا -يعني: دليل الجبائي والمتكلمين- لأن الحكم المخالف لظن المجتهد ساقط عنه إجماعًا. يعني: المجتهد إذا اجتهد وغلب على ظنه أن الحكم هو كذا فهذا يلزم المجتهد العمل بمقتضاه، هذا هو الدليل الأول لمن رأى أنه لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلًا.
الدليل الثاني: لو جاز التعبد بخبر الواحد عقلًا في الأحكام الفرعية؛ لجاز العمل به في الإخبار عن الله تعالى، يعني: في العقائد، وفي اتباع من يدعى النبوة وليست معه معجزة، ولا شك أن هذا باطل. معلوم أن الأحكام نوعان: أحكام فرعية، وأحكام أصلية، ومعنى أحكام أصلية يعني: أحكام لها تعلق بأصول الدين، متعلقة بالله تعالى، ومتعلقة بالنبوة، ومتعلقة بالأمور الغيبية التي يسميها العلماء: قضايا أصول الدين، أو التوحيد، أو العقيدة. وهناك أحكام فرعية تتعلق بما يصدر عن المكلف من فعل، كالصلاة، والصيام، والوضوء، والزكاة… ونحو ذلك.
رد الجمهور على أدلة المذهب الثاني:
الجواب الأول: إن الناظر يجد أن هناك فرقًا بين الأحكام الفرعية وبين العقائد والنبوات، يعني: كأن الجمهور يقول لهم: هذا قياس منكم مع الفارق، كيف تقيسون أحكام العقائد وأصول الدين على الأحكام الفرعية؟ فالخطأ في الأحكام الفرعية لا يوجب الكفر.
أما العقائد والنبوات فهي من أصول الدين، والخطأ فيها يوجب الكفر، لو أن إنسانًا اجتهد في مسألة تتعلق بذات الله أو بالنبوات، وأخطأ فيها، فلا شك أن الخطأ فيها يوجب الكفر، بخلاف الخطأ في الأحكام الفرعية فإنه لا يوجب الكفر؛ لذلك العلماء يقولون: المصيب في مسائل أصول الدين واحد، هذا باتفاق، ومن عداه مخطئ. أما فروع الدين –يعني: المسائل الفرعية- فالمصيب فيها هل هو واحد أو لا؟ خلاف بين أهل العلم: المصوِّبة يرون أن كل مجتهد مصيب، والمخطئة يرون أن المصيب واحد ومن عداه مخطئ.
الجواب الثاني: إن الإخبار عن الله تعالى بدون وجود معجزة مع المخبِر، يفضي إلى الكذب؛ من أجل أن يحقق المدعي مصلحة له وليس، كذلك الإخبار عن الأحكام الفرعية.
الجواب الثالث: إن القطع في كل مسألة شرعية أمر متعذر -الجمهور يجيب عن أصحاب المذهب الثاني- يعني: لو أردت أن تعرف الحكم على جهة القطع في كل فرع قطعي، هذا أمر متعذر. بخلاف العقائد والنبوات فالقطع فيها أمر سهل ويسير، فهناك فرق بين فروع الدين وبين أصول الدين؛ فالقطع في مسائل أصول الدين ممكن، والقطع في مسائل فروع الدين متعذر.
الجواب الرابع: إن دعوى الواحد للنبوة ونزول الوحي عليه من أندر الأشياء، يعني: ما رأينا أحدًا ويقول: أنا نبي ونزل علي الوحي، هذا أمر نادر، وسرعان ما يظهر كذبه، إن لم تكن معه معجزة، فإذا لم يقترن بدعواه ما يوجب القطع بصدقه فلا يتصور حصول الظن بصدقه، بل الذي يجزم به إنما هو كذبه.
الدليل الثالث: لو جاز التعبد بخبر الواحد لجاز التعبد به في نقل القرآن، وهو محال، ومعلوم أن القرآن لم ينقل بأخبار الآحاد وإنما نقل بطريق التواتر. وجوابنا عن ذلك: أن القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الدالة على صدقه، ولا بد أن يكون طريق إثباته قاطعًا، وخبر الواحد ليس بقاطع، بخلاف أحكام الشرع فإن ما يثبت منها بخبر الواحد ظنية غير قطعية.
هذه أهم الأدلة التي استدل بها الجبائي والمتكلمون على أن خبر الواحد لا يجوز التعبد به عقلًا.
الترجيح:
بعد ذكر المذهبين يتضح لنا بجلاء أن مذهب الجمهور القائل: بجواز التعبد بخبر الواحد عقلًا، هو المذهب الراجح؛ لقوة ما استدل به، وسلامته عما يعارضه.
3. التعبد بخبر الواحد شرعًا:
اختلف العلماء في التعبد بخبر الواحد شرعًا على مذهبين أيضًا:
المذهب الأول –مذهب الجمهور:
التعبد بخبر الواحد شرعًا واقع، ومعنى “واقع” يعني: دل عليه القرآن أو السنة… أو غير ذلك، ونصوص أهل العلم في ذلك كثيرة، منها:
- قول ابن قدامة -رحمه الله- في روضته: فأما التعبد بخبر الواحد سمعًا فهو قول الجمهور. ومتى سمعت كلمة “سمعًا” فهي تساوي كلمة “شرعًا”.
أدلة الجمهور على جواز التعبد بخبر الواحد شرعًا:
استدل الجمهور على وجوب التعبد بخبر الواحد شرعًا بالقرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، وقد سبق ذكره.
أ. الدليل من القرآن:
قول الله تعالى في “سورة الحجرات”: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوَاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىَ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
ووجه الدلالة من الآية: على المطلوب أن الله عز وجل أوجب علينا بهذه الآية التثبت في خبر من علم فسقه، يعني: لو علمنا أن المخبر فاسق فلا بد أن نتثبت في خبره، ولا نأخذ به؛ وذلك لعلة الفسق. وهذا يعني: عدم وجوب التثبت في خبر معلوم العدالة؛ الآية تقول: إذا علمتم فسق المخبر فتثبتوا من قوله، وعلى هذا فإذا علمنا عدالة المخبر فلا نتثبت من قوله، فمن اتصف بالعدالة قبلنا خبره؛ وذلك لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، متى وجدت العلة وجد الحكم، ومتى انتفت العلة انتفى الحكم، فمتى وجد الفسق في المخبر لا بد من التثبت، ومتى انتفى الفسق من المخبر وثبتت العدالة فلا يجب علينا التثبت.
اعتراض على الاستدلال بهذه الآية:
هذه الآية لها سبب خاص في النزول، فلم عممتم هذه الآية في وجوب العمل بخبر الواحد؟! فالآية المذكورة نزلت في شأن الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، فعاد وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذين بعثه إليهم أرادوا قتله، فَهَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم؛ فنزلت هذه الآية تخبره بأن الوليد بن عقبة غير عدل؛ وعليه فلا يكون في الآية حجة على مسألتنا.
الجواب على الاعتراض: الآية حجة لنا من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قبل خبره؛ بدليل أنه هم ليغزو بني المصطلق؛ ومن حيث إن اللفظ أعم من سببه؛ فلا يقتصر عليه؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، هذه قاعدة أصولية: “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” يعني: كون الآية نزلت في شأن الوليد بن عقبة، هذا لا يمنع من أن الآية تصلح للاحتجاج والاستشهاد بها في غير هذا السبب؛ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ب. الدليل من السنة:
ثبت عن طريق التواتر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل أمراءه، وقضاته، وسعاته، إلى الأطراف -يعني: إلى البلاد البعيدة النائية- وهم آحاد، كان يرسلهم لقبض الصدقات، وحل العهود، وتقريرها، وتبليغ أحكام الشرع، هذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرسل أمراءه وقضاته وسعاته إلى الأطراف وهم آحاد، يعني: ما كان يرسل جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، لا، كان يرسل آحادًا وأشخاصًا، واحدًا أو اثنين أو أكثر، لكن لم يبلغوا حد التواتر.
ومن أمثلة ذلك:
- تولية النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا قبض الصدقات باليمن، والحكم على أهلها.
- أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد إلى مكة، وهذا شخص واحد.
- أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة.
اعتراض على هذا الاستدلال:
إنما أنفذ الرسول صلى الله عليه وسلم الآحاد في أخذ الصدقات؛ لأنه كان قد أعلمهم تفصيل الصدقات شفاهًا، وبأخبار متواترة، وإنما بعثهم لقبضها. يعني: مسألة جمع الصدقات مسألة تأتي بعد التعليم.
الجواب على الاعتراض: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يبعثهم في الصدقات فقط، بل كان يبعثهم في تعليمهم الدين، والحكم بين المتخاصمين، وتعريف وظائف الشرع، ثم إنه لم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد؟ لنا أن نسأل هذا السؤال، إن هذا يدل على وقوع التعبد بخبر الواحد، وكان الصحابي يقول لمن يرسل إليهم: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبض مثلًا، فكانوا يصدقونه ويمتثلون لما جاء به.
ج. الدليل من الإجماع:
ثبت عن طريق التواتر ما يدل دلالة قاطعة على قبول الصحابة رضي الله عنهم أخبار الآحاد، وتطبيقها في وقائع كثيرة لا يمكن حصرها، كما أشار إلى ذلك ابن قدامة -رحمه الله- في (الروضة) وأورد منها اثنتي عشرة واقعة.
الواقعة الأولى: الجدة -أم الأم- جاءت إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة -رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل رضي الله عنه الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ يعني: هل معك آخر يشهد بما تقول به، فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه يعني: أعطى الجدة السدس.
ووجه الدلالة من هذه الواقعة: أن أبا بكر رضي الله عنه قبل خبر الواحد -وهو خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه؛ حيث لم يصل إلى حد التواتر، وكذلك عمر رضي الله عنه أعطى الجدة السدس، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة؛ إذ لو كان هناك إنكارٌ لنقل إلينا.
الواقعة الثانية: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في قصة الجنين -يعني: في دية الجنين- ما الحكم فيما لو اعتدى شخص على امرأة، فأسقط ما في بطنها مثلًا؟ ما هي دية الجنين؟ فروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في قصة الجنين -وقد حدث في عهده أن امرأة ضربت أخرى على بطنها، فقتلتها، وقتلت ما في بطنها، فعمر رضي الله عنه يعرف دية المرأة، لكنه لا يعرف دية الجنين- فقال رضي الله عنه: أذكرُ اللهَ امرأ سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئًا -يعني: ما أحد يسمع من رسول الله حكم في مثل هذه الواقعة- فقام إليه حَمْل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جاريتين -يعني: بين ضرتين، كان حمل متزوج امرأتين- قال: فضربتْ إحداهما الأخرى بمسطح -والمسطح بكسر الميم، عود القباء يعني: خشبة- فألقت جنينًا ميتًا، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة -يعني: عبد أو أمة، يعني: دية الجنين أن يدفع المعتدي الجاني عبد أو أمة- فقال عمر رضي الله عنه وتأملوا إلى كلام عمر- قال: لو لم نسمع بهذا؛ لقضينا فيه بغير هذا. يعني: لو لم نسمع بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان لنا رأي آخر، أو قضاء آخر فيمن اعتدت على جنين، أو من اعتدى على جنين.
ووجه الدلالة من الواقعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قبل خبر الواحد، وعمل به.
الواقعة الثالثة: ما روي عن عمر رضي الله عنه أيضًا: أنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها -يعني: إذا مات الرجل مقتولًا فدفع عائلة القاتل دية، فكان عمر رضي الله عنه يرى أن المرأة لا ترث من دية زوجها- هذا كان رأيه واجتهاده، حتى أخبره الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته. ففي الحال رجع عمر رضي الله عنه عن قوله، وتمسك بما رواه الضحاك رضي الله عنه.
قال العلماء: كان عمر رضي الله عنه يرى في أول الأمر عدم توريث المرأة من دية زوجها؛ اعتمادًا منه على القياس. وغيرها كثير من الوقائع التي تدل على قبول بخبر الواحد.
اعتراضات على دليل الإجماع، والرد عليها:
الاعتراض الأول: الصحابة لعلهم عملوا بهذه الأخبار في الوقائع التي سقتموها -معشرَ الجمهور- لوجود قرائن قوَّت هذه الأخبار. فكأن العمل بهذه الأخبار ليس لذات الأخبار، وإنما لما انضم إليها من قرائن وأسباب وظواهر ونحو ذلك…
رد الجمهور على هذا الاعتراض:
إن ما روي عن الصحابة رضي الله عنهم في تطبيقهم لأخبار الآحاد يدل على أنهم عملوا بها بمجردها -يعني: دعواكم أيها الخصم أن هذه الأخبار صاحبتها قرائن دعوى غير مسلمة، بل الذي ثبت وتقرر أنَّ الصحابة رضي الله عنهم عملوا بمقتضى هذه الأخبار بمجردها- دون انضمام قرائن إليها، ولنبين ذلك:
- عمر رضي الله عنه حين أخبره حَمل بن مالك بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغُرة -كما ذكرنا سابقًا- لم يسعه رضي الله عنه إلّا أن يقول: “لولا هذا لقضينا بغيره” فكلام عمر فيه دلالة واضحة على أنه عمل بمجرد سماعه الخبر دون أي شيء آخر غير الخبر، فهذا يدل على أنه رضي الله عنه ترك رأيه لمجرد الخبر، فيكون الخبر بمجرده مستقلًّا بالمنع وليس فيه ذكر قرينة ولا غيرها.
فهذا الاعتراض غير صحيح وباطل يكذبه الواقع.
الاعتراض الثاني: إن ذكرتم أن الصحابة كانوا يعملون بأخبار الآحاد فسنذكر لكم وقائع كان الصحابة لا يقبلون فيها خبر الواحد. إذن هنا تعارض. وذلك في قضايا كثيرة، منها:
الواقعة الأولى: ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين)) -يعني: انصرف من صلاته بعد ركعتين فقط صلى صلاة رباعية وبعد ركعتين انصرف يعنى: سلم- ((فقال ذو اليدين)) -وهو صاحبي يسمى الخِرباق بن عمرو من بني سليم ذو اليدين، هذا كان يصلي خلف رسول الله فلما رأى الرسول قد انصرف من ركعتين بعد صلاة ركعتين قال: ((يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني للصحابة: أصدق ذو اليدين)) يعنى: ما يقوله ذو اليدين صحيح؟ هل أنا سلمت من ركعتين؟ وفي رواية: ((أحقٌّ ما يقول ذو اليدين؟ فقال الناس: نعم يا رسول الله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أُخريين)) الحديث رواه البخاري ومسلم.
إذن الآن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل خبر ذي اليدين وحده، وهذا دليل على أن خبر الواحد لا يقبل، هذه واقعة.
الواقعة الثانية: ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “استأذن أبا موسى رضي الله عنه فقال: السلام عليكم أأدخل؟ -أبو موسى يستأذن على من؟ على عمر رضي الله عنه فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال عمر رضي الله عنه: واحدة، ثم سكت ساعة -يعني: جزءًا من الوقت- ثم قال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال عمر رضي الله عنه: ثنتان ثم سكت ساعة، ثم قال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال عمر رضي الله عنه: ثلاث، ثم رجع أبو موسى، فقال عمر رضي الله عنه للبواب: ما صنع؟ -يعني أبو موسى- قال البواب: رجع يا أمير المؤمنين، قال رضي الله عنه: علَيّ به، فلما جاءه قال: ما هذا الذي صنعت؟ قال: السنة. قال: والله لتأتيني على هذا ببرهان أو لأفعلن بك -يعني: إذا كنت تزعم أن الاستئذان ثلاث مرات فإن لم يؤذن لك ترجع إن زعمت أن هذا من السنة فلا بد أن تأتيني بشاهد يؤكد هذا الكلام على أنه سنة- قال أبو سعيد الخدري: فأتانا ونحن رفقة من الأنصار، فقال: يا معشر الأنصار ألستم أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الاستئذان ثلاث فإن أُذن لك وإلا فارجع))؟ قال: فجعل القوم يمازحونه قال أبو سعيد: ثم رفعت رأسي فقلت: فما أصابك في هذا اليوم من العقوبة من شيء فأنا شريكك. قال: فأتى عمر رضي الله عنه فأخبره بذلك، فقال عمر رضي الله عنه: ما كنت علمت بهذا.
والشاهد من الحديث أن عمر رضي الله عنه لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان إلّا بعد أن انضم إليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه إذن خبر الواحد لا يقبل.
الواقعة الثالثة: أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يقبل خبر المغيرة وحده في ميراث الجدة كما سمعتم حتى قام محمد بن مسلمة وشهد بذلك.
الواقعة الرابعة: روى علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها ولم يدخل بها حتى مات -يعني لم يفرض لها مهرًا ولم يدخل بها، فمات قبل الدخول بها- فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لها مثل صداق نسائها، لا وكس -يعني: لا نقص- ولا شطط -يعني: ولا وزيادة- وعليها العدة ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت، ففرح بها -يعني: ابن مسعود رضي الله عنه يعني فرح أن وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رد الجمهور على هذا الاعتراض:
والجواب من وجهين:
الوجه الأول: إن ما ذكرتموه حجة عليكم، لا لكم، فإنهم رضي الله عنهم قد قبلوا الأخبار التي توقفوا عنها بموافقة غير الراوي له، ولم يبلغ بذلك رتبة التواتر ولا خرج عن رتبة الآحاد -يعني: هذا الدليل دليل عليكم وليس لكم؛ لأنَّ أبا بكر لما توقف في خبر المغيرة بن شعبة حتى شهد محمد بن مسلمة قبله أبو بكر، شهادة محمد بن مسلمة للمغيرة بن شعبة لا تجعل الخبر يرقى إلى حد التواتر فهو ما زال في دائرة الآحاد- إذن ما تستندون إليه هو حجة عليكم وليس لكم، فانضمام محمد بن مسلمة إلى المغيرة لم يجعل حديث الجدة ينتقل من خبر الآحاد إلى خبر المتواتر، وكذلك انضمام أبي سعيد الخدري إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لم ينقل الحديث إلى رتبة المتواتر.
الوجه الثاني: ذكره ابن قدامة -رحمه الله- في (روضة الناظر) وهو: أن توقف الصحابة رضي الله عنهم في قبول أخبار الآحاد في الصور التي ذكرتموها كان لمعانٍٍ مختصة بهم:
- توقف النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ذي اليدين لم يكن لأنه خبر واحد -أنتم تظنون أن النبي توقف في خبر ذي اليدين لأنه خبر واحد أبدًا- وإنما لظنه صلى الله عليه وسلم أنه غلط في هذا القول -يعني: النبي ظن أن ذا اليدين غلط- لأنَّ الناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كثيرين، وفيهم من هو أضبط لأفعال الصلاة من ذي اليدين، وأحرص على كمالها، ورفع النقص عنها، فكان تنبيه ذي اليدين لوقوع النقص فيها دون باقي الصحابة بعيدًا في العادة؛ لذلك توقف النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ذي اليدين حتى وافقه الناس على ذلك. إذن النبي لم يترك خبر ذي اليدين؛ لأنه خبر واحد، بل لأن النبي ظن أن ذا اليدين هو الذي غلط، فلما أكد الناس له ذلك عمل بمقتضى خبر ذي اليدين.
- أبو بكر رضي الله عنه لم يرد خبر المغيرة هو ما قال للمغيرة بن شعبة: أنا لن أقبل خبرك فلم يرد خبر المغيرة، وإنما طلب الاستظهار بقول آخر -يعني: هل معك ما يؤيدك- فلما شهد له محمد بن مسلمة هل خرج الحديث عن حد الآحاد إلى حد التواتر؟ أبدًا لم يخرج، فأبو بكر رضي الله عنه لم يرد خبر المغيرة وإنما طلب الاستظهار بقول آخر، وليس في الحديث ما يدل على أنه لا يقبل قوله لو انفرد. إذن اعتراضكم هذا غير مسلم.
د. الدليل من القياس:
في هذا الدليل قياس الرواية على الفتوى والشهادة بجامح تحصيل المصلحة المظنونة أو دفع المفسدة المظنونة في كل، ولما كان خبر الواحد العدل واجب القبول فيهما -يعني: في الفتوى والشهادة- إجماعًا وجب قبوله في الرواية كذلك.
اعتراض على هذا القياس: هذا قياس مع الفارق، ومعلوم على ما سيأتي -إن شاء الله- في مبحث القياس أن القياس إذا كان قياسًا مع الفارق لا يكون قياسًا صحيحًا، فالمعترض يقول: قياسكم الرواية على الفتوى والشهادة قياس مع الفارق إذن يكون القياس باطلًا، كيف ذلك؟ قالوا: لأن الفتوى والشهادة تقتضيان حكمًا خاصًّا ببعض الناس، وهو المستفتي والمشهود له أو عليه -يعني: الفتوى خاصة بالمستفتي والشهادة خاصة بالمشهود له أو المشهود عليه- أما الرواية فهي عامة تشمل كل أفراد الأمة وتشمل كل أفراد المكلفين، إذن هناك فرق بين المقيس والمقيس عليه، فالمقيس عليه وهو الفتوى والشهادة أمور خاصة، والمقيس وهو الرواية أموره أمور عامة، إذن القياس مع الفارق.
قالوا: وأما الرواية فتقتضي حكمًا عامًّا لكل الناس، ولا يلزم من وجوب العمل بالظن في حق الواحد في أمر الفتوى والشهادة وجوبه في حق الناس جميعًا كما هو في الرواية، إذ الظن يخطئ ويصيب، وعدم الإصابة في حق الجميع أكثر خطرًا من الواحد يعني: لو أخطأنا في الرواية فالخطر المترتب على هذا الخطأ خطر كبير يعم كل الناس بخلاف ما لو أخطأنا في الفتوى أو في الشهادة فالخطر لا يتعدى المستفتي ولا يتعدى المشهود له ولا المشهود عليه.
رد الجمهور على هذا الاعتراض: هذا اعتراض مرفوض وغير مسلم؛ لأن شرعية أصل الفتوى لا تختص بالمستفتي، الله تعالى لما شرع الفتوى وقال: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] شرعية أصل الفتوى مختصة بجميع الناس إذن هي كالرواية، وكذا شرعية أصل الشهادة لا تخص المشهود له أو المشهود عليه في واقعة معينة أو في واقعة عين، وإنما تعم هذا المشهود له وغيره أو المشهود عليه وغيره، وذلك لأن اتباع الظن فيها لا يختص بمسألة ولا شخص وحينئذٍ فلا فارق بينهما -يعني: بين الرواية والفتوى والشهادة- وإذا ما أثبتنا أنه لا فارق بين الرواية وبين الفتوى والشهادة صح للجمهور أن يقيسوا الرواية على الفتوى والشهادة وحينئذٍ يكون قياسهم قياسًا صحيحًا.
المذهب الثاني: لا يجوز التعبد بخبر الواحد شرعًا:
وهو مذهب الجماهير من القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاشاني أو كالقاساني يُنطق بالشين والسين، فالجماهير من القدرية ومن وافقهم من أهل الظاهر قالوا: لا يجوز التعبد بخبر الواحد شرعًا، ونصوص العلماء في ذكر هذا المذهب كثيرة.
أدلة أصحاب المذهب الثاني، والردّ عليها:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال تعالى: {إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنّ الظّنّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئاً} [النجم: 28]، وقال سبحانه: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
ووجه الاستدلال من هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى نهى عن اتباع ما ليس بعلم كما في الآيتين الأولى والثالثة قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فقد نهى تعالى عن اتباع ما ليس بعلم، كما ذم سبحان الذين يتبعون الظن في قوله: {إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنّ الظّنّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئاً} قالوا: ولاشك أن كل من النهي عن اتباع ما ليس بعلم والذم الذي يستحقه من يتبع الظن يفيد التحريم، ومعلوم أن خبر الواحد يفيد الظن فيكون العمل به حرامًا.
رد الجمهور على هذا الاستدلال:
أولًا: إن ما ذكرتموه يعود عليكم أيضًا -يعني: حجة عليكم وليس لكم- كيف ذلك؟ قال الجمهور للقدرية: لأن إنكاركم العمل بخبر الواحد قول في الدين بعلم أم بغير علم؟ بغير علم، فإذا كان إنكاركم لخبر الواحد قول في الدين بغير علم إذن فالدليل عليكم.
ثانيًا: لا نسلم أنه قول بغير علم -يعني: القول بوجوب العمل بخبر الواحد قول بغير علم- هذا لا نسلمه، بل هو معلوم بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة، أضف إلى ذلك -الجمهور يقول: أضف إلى ذلك- أن العلم في اللغة هو مطلق الإدراك الذي يشمل الظن والقطع، وقد يُطلق العلم في القرآن على الظن، ومع ذلك يرتب الشارع عليه أحكامه كما في قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنّ إِلَى الْكُفّارِ} [الممتحنة: 10] فمعنى {عَلِمْتُمُوهُنّ}: أي ظننتم إيمانهن؛ لأن الإيمان كما تعلمون عمل قلبي لا يمكن لأحد من البشر الاطلاع عليه، لكن يمكن أن يغلب على الظن أن هذا مؤمن.
الدليل الثاني: إن الراوي -يعني: الخبر الواحد- يجوز عليه الكذب أو الغلط مع احتمال صدقه، وعليه فلا نقطع بثبوت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: الذي يروى خبر الواحد يجوز عليه أن يكون كاذبًا أو يغلط مع احتمال صدقه، وإذا كان الأمر مترددًا بين كذبه وبين صدقه فعلينا ألا نقطع بثبوت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك لا نقبل خبر الواحد.
رد الجمهور على هذا الاستدلال:
إن احتمال الصدق والكذب وإن كان قائمًا، وكذا احتمال الخطأ والصواب إلا أننا نرجح جانب الصدق على جانب الكذب، ونرجح جانب الصواب على جانب الخطأ، ما دامت الشروط متوفرة في الراوي، طالما الراوي مسلم، وبالغ، وعاقل، وضابط، وعدل… إلى غير ذلك من شروط الراوي، طالما أن هذه الشروط متوفرة في الراوي.
فلماذا نرجح جانب الكذب؟ الأَولى والأحرى أن نرجح جانب الصدق.
الدليل الثالث: إن الله تعالى يقول: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سـبأ: 28] ووجه الاستدلال أن هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الناس كافة فوجب عليه أن يخاطب بشرعه جميع الناس، وذلك يقتضي نقل جميعهم أو من يتواتر الخبر بنقله، وقد ذكرنا هذا الدليل في مسألة الجواز العقلي، وبينا كيف رد الجمهور على هذا الدليل؛ لذلك هم يقولون: فما روي عن طريق الآحاد ليس من شرع النبي صلى الله عليه وسلم.
رد الجمهور على هذا الاستدلال:
لا يختلف اثنان في أنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الناس جميعًا، لكنْ لِمَ لا يكون مرسلًا إلى كافة الناس وإن بين شرعه لبعضهم عن طريق الآحاد؟ ما المانع أن يكون النبي مرسلًا لجميع الناس وأنه يبلغ شرعه بطريق الآحاد؟ لا يوجد مانع لا عقلي ولا شرعي فلا يترتب على فرض وقوعه في العقل المحال فهو جائز عقلًا، وأما شرعًا فقد أقمنا الأدلة من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، فإن قالوا لجواز ألا يصل إليهم شرعه إذا أودعه آحاد الناس، المعترض يقول: ممكن أن يكلف النبي صلى الله عليه وسلم آحاد الناس أن يبلغوا الشرع فلم يبلغ الشرع عن طريق آحاد الناس، وقد أجبنا على ذلك -والحمد لله- بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل آحاد الناس إلى الأطراف، ومع ذلك كانوا يعملون بمقتضى هذه الأخبار ويعملون بموجب خبر هؤلاء الرسل.
الترجيح:
بعد ذكر هذين المذهبين يتضح لنا بجلاء أن مذهب الجمهور القائل: بالتعبد بخبر الواحد شرعًا هو المذهب الراجح الذي تستريح إليه النفس لقوة أدلته وسلامتها عن المعارض، فقد قام الدليل من القرآن، ومن السنة، ومن إجماع الصحابة وإجماع التابعين، وقام الدليل من القياس على وجوب التعبد بخبر الواحد شرعًا.