حكم الحديث المرسل
اختلف العلماء من محدثين وفقهاء وأصوليين في حكم الحديث المرسل؛ فمنهم من لم يحتج به مطلقًا، ومنهم من لم يحتج به إلا مقيدًا بشروط، ومنهم من احتج به مطلقًا، ومنهم من فضله على الحديث المسند المتصل، إذا كان مرسله ثقة. وسنذكر مذاهبهم إن شاء الله تعالى.
سبب اختلاف العلماء في حكم الحديث المرسل:
إنما اختلف العلماء في حكم الحديث المرسل، وهو داخل في باب الحديث المنقطع المردود، ولم يختلفوا في حكم غيره من هذا الباب، كالحديث المعلق والمعضل؛ لأن الساقط من الإسناد في الحديث المرسل يحتمل أن يكون صحابيًّا، وهذا احتمال كبير جدًّا. والصحابة جميعًا عدول بتعديل الله سبحانه لهم، فلا يضر عدم معرفة عين الصحابي؛ لأننا نبحث عن الراوي بمعرفة حاله، وهل هو مقبول الرواية أم لا؟ والصحابي معروف العدالة، وإن جهلنا عينه. وسيأتي ذلك مفصلًا -إن شاء الله تعالى- ومع هذا الاحتمال؛ فيحتمل أن يكون الساقط من الإسناد تابعي فأكثر، وليس بصحابي فقط.
مذاهب العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل:
المذهب الأول في الاحتجاج بالحديث المرسل: ذهب جمهور المحدثين، وجماعة من الفقهاء إلى أن الحديث المرسل حديث مردود، لا يحتج به مطلقًا؛ سواء كان الذي أرسله من كبار التابعين، أو من صغار التابعين وسواء كان يرسل عن ثقة أو لا.
وجهة نظر من رد الحديث المرسل:
ترجع وجهة نظر من رد الحديث المرسل إلى الآتي:
- الحديث المرسل إسناده منقطع، ومن شروط الحديث المقبول المعمول به: أن يكون إسناده متصلًا، كما سبق ذلك مفصلًا.
- الساقط من الإسناد مجهول العين والحال معًا، ومن شروط الحديث المقبول: أن يكون كل راوٍ في إسناده معروفًا بالعدالة والضبط كما سبق، ومن جهلنا عينه كيف نعرف حاله؛ فبطل الحديث المرسل، ووجب رده للجهل بالواسطة بين التابعي الذي أرسله والنبي صلى الله عليه وسلم .
- أجمع المسلمون على أن الشهادة على الشهادة لا يجوز فيها إلا الاتصال والمشاهدة؛ فكذلك الخبر يحتاج إلى الاتصال والمشاهدة، لأنه باب في إيجاب الحكم واحد.
- لو جاز قبول المراسيل لجاز قبول خبر مالك والشافعي وأحمد، ومثلهم إذا ذكروا خبرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون إسناد، ولو جاز ذلك فيهم لجاز فيمن بعدهم إلى عصرنا، ولزم من ذلك بطلان اعتبار الأسانيد التي هي من خصائص الأمة الإسلامية، وترك النظر في أحوال الرواة، والإجماع منعقد في كل عصر على خلاف ذلك؛ فالبحث عن الرجال وأحوالهم لمعرفة من يقبل خبره، ومن يرد خبره أمر عني به المسلمون قديمًا وحديثًا، بل هو أمر خص الله به المسلمين، وهو من أسباب سلامة الإسلام من التحريف.
قال الحافظ بن حجر: المرسل؛ وهو ما سقط من آخره مَنْ بعد التابعي، وصورته أن يقول التابعي -سواء كان كبيرًا أو صغيرًا- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا، أو فعل بحضرته كذا، أو نحو ذلك، وإنما ذكر في قسم المردود لجهل بحال المحذوف؛ لأنه يحتمل أن يكون صحابيًّا، ويحتمل أن يكون تابعيًّا، وعلى الثاني أن يكون ضعيفًا، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون تحمل الحديث عن صحابي، ويحتمل أن يكون تحمله عن تابعي آخر.
ونقل أبو بكر الرازي -من الحنفية- وأبو الوليد الباجي -من المالكية-: أن الراوي إذا كان يرسل عن الثقات وغيرهم، لا يُقبل مرسله اتفاقًا، وقد استدل من رد الحديث المرسل بأدلة من الكتاب والسنة؛ منها: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} [التوبة: 122]، أخرج الحاكم بإسناده عن يزيد بن هارون، قال: قلت لحماد بن زيد: يا أبا إسماعيل، هل ذكر الله أصحاب الحديث في القرآن؟ فقال: بلى، ألم تسمع إلى قول الله تعالى: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} [التوبة: 122]، هذا فيمن رحل في طلب العلم ثم رجع إلى من وراءه ليعلمهم إياه.
قال الحاكم: ففي هذا النص دليل على أن العلم المحتج به هو المسموع غير المرسل، هذا من الكتاب؛ أما من السنة فروى الحاكم بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم»الحديث أخرجه أبو داود والحاكم. قال الحاكم، بعد أن استدل بحديث عبد الله بن عباس السابق: والحديث مشهور مستفيض بذلك.
قوله صلى الله عليه وسلم : «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها حتى يؤديها إلى من لم يسمعها»، ونص الحديث عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نضر الله امرأً سمع منا حديثًا؛ فحفظه حتى يبلغه؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه» أخرجه أبو داود والترمذي من حديث زيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال الإمام النووي: المرسل لا يحتج به عندنا، وعند جمهور المحدثين، وجماعة من الفقهاء وجماهير أصحاب الأصول والنظر.
المذهب الثاني في الاحتجاج بالحديث المرسل: ذهب جماعة من الأئمة إلى قبول الحديث المرسل والعمل به بشروط؛ من هؤلاء: الإمام الشافعي، كما ذهب إلى ذلك المحققون من الحنفية أيضًا.
أولًا: مذهب الإمام الشافعي في الاحتجاج بالحديث المرسل:
اختلف العلماء في فهم مذهب الإمام الشافعي في الاحتجاج بالحديث المرسل؛ فمنهم من قال: إن الإمام الشافعي يرد الحديث المرسل مطلقًا، ومنهم من قال: إن الإمام الشافعي لا يرد المراسيل؛ ولكنه يُرجح بها عند التعارض، ومنهم من قال: إن الإمام الشافعي يحتج بمراسيل سعيد بن المسيب مطلقًا، ومنهم من قال: إنه يستحب العمل بمراسيل سعيد بن المسيب، ولا يوجب. ومنهم من قال: إن مراسيل سعيد بن المسيب عنده كمراسيل غيره.
ولكن من يرجع إلى كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي؛ يجد أن الإمام الشافعي يحتج بمراسيل كبار التابعين بشروط ذكرها في رسالته، ولا يخص مراسيل سعيد بهذا، بل لو فقدت مراسيل سعيد ما شرطه الشافعي ردها، وسنذكر شروط الإمام الشافعي التي شرطها في مراسيل كبار التابعين لتكون مقبولة عندهم. ومن المعلوم أن (الرسالة) للإمام الشافعي برواية الربيع بن سليمان الجيزي، هي من كتابه الجديد.
الشروط التي شرطها الإمام الشافعي لقبول الحديث المرسل:
شرط الإمام الشافعي شروطًا في المُرْسِل، وشروطًا في المرسَل حتى يكون الحديث المرسل عنده مقبولًا.
أولًا: شروط المرسِل -بكسر السين-: شرط الإمام الشافعي فيمن يحتج بمرسله شروطًا وهي:
- أن يكون المرسِل من كبار التابعين؛ فإن كان المرسِل من صغار التابعين رد الإمام الشافعي مرسله.
- إذا سمى المرسِل من أرسل الحديث عنه سمي ثقة لا مجهولًا، ولا مرهوبًا عن الرواية عنه.
- إذا شارك المرسِل أحدًا من الحفاظ في رواية حديث لم يخالفه.
ثانيًا: شروط المرسَل -بفتح السين-: شرط الإمام الشافعي في الحديث المرسل الذي يحتج به شروطًا وهي:
الشرط الأول من شروط قبول الحديث المرسل: أن يأتي الحديث المرسل من وجه آخر مسندًا: وإن لم يأت من وجه آخر مسندًا شرط فيه ما يأتي: أن يأتي من وجه آخر مرسلًا، أرسله من أخذ العلم من غير رجال المرسل الأول، ممن يقبل عنه العلم، أن يوافق الحديث المرسل قول بعض الصحابة، أن يفتي أكثر العلماء بمقتضى الحديث المرسل؛ فإذا تحققت هذه الشروط في الحديث المرسَل كان مقبولًا معمولًا به عند الإمام الشافعي، وإذا لم تتحقق هذه الشروط في الحديث المرسل رده الشافعي، ومع ذلك فإن الحديث المرسل الذي اجتمعت فيه هذه الشروط، لا يكون مثل الحديث المتصل في الاحتجاج به.
مذهب المحققين من أتباع أبي حنيفة:
الشرط الثاني من شروط قبول الحديث المرسل: ذهب المحققون من أتباع أبي حنيفة رحمه الله إلى الاحتجاج بالحديث المرسل، بشروط: أن يكون مرسله من أهل القرون الثلاثة الأولى الفاضلة، الذين زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم وعدلهم، وأثنى عليهم، واستدلوا على ذلك بما يأتي: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينُه شهادته» الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
قال السخاوي: خص بعض المحققين من الحنفية الحديث المرسل الذي يُقبل بأهل الأعصار الأُوَل -يعني: القرون الفاضلة- لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثم الذين يلونهم».
قال الحافظ السيوطي: محل قبول الحديث المرسل عند الحنفية، ما إذا كان مرسله من أهل القرون الثلاثة الفاضلة؛ فإن كان غيرها فلا، لحديث: «ثم يَفْشُو الكَذِب»، ولكن هذا التعديل الذي ورد في الحديث لأهل القرون الثلاثة الأولى الفاضلة، إنما هو باعتبار المجموع، وليس باعتبار الجميع.
قال الحافظ بن حجر: واستُدل بهذا الحديث -أي: حديث عبد الله بن مسعود- على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب والأكثرية؛ فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين -أي: من التابعين وأتباع التابعين- من وجدت فيه الصفات المذكورة المذمومة، لكن بقلة؛ بخلاف من بعد القرون الثلاثة؛ فإن ذلك كثير فيهم وأشهر.
المذهب الثالث والرد على أصحابه:
المذهب الثالث في الاحتجاج بالحديث المرسل: ذهب جماعة من الأئمة إلى قبول الحديث المرسل والعمل به؛ في الأحكام فيما يتعلق بالحلال والحرام، والمعاملات، والأخلاق، والآداب، وغير ذلك، وأنه كالحديث المسند في وجوب العمل به؛ من هؤلاء: الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك بن أنس؛ في المشهور عنه، وجمهور أتباعهم، وجماعة من المحدثين، وجمهور الفقهاء، والإمام أحمد بن حنبل في رواية حكاها عنه الإمام النووي، وابن القيم، وابن كثير، وغيرهم.
وذكر أبو داود أن الإمام أحمد كان يرى في المرسل رأي شيخه الشافعي، قال السخاوي: قال أبو داود في رسالته: وأما المراسيل؛ فقد كان أكثر العلماء يحتجون بها فيما مضى، مثل سفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي؛ حتى جاء الشافعي فتكلم في ذلك، وتابعه عليه أحمد وغيره، وقال ابن عبد البر -وهو مالكي المذهب-: وأصل مذهب مالك رحمه الله والذي عليه جماعة أصحابنا المالكيين: أن مرسل الثقة تجب به الحجة، ويلزم به العمل؛ كما يجب بالمسند سواء.
قال الإمام النووي: ذهب الإمام مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وأكثر الفقهاء إلى وجوب الاحتجاج بالمرسل، واستدل أصحاب هذا المذهب بما يأتي: قال الخطيب: قال بعض من احتج بصحة المراسيل: لو كان حكم المتصل والمنقطع -يريد به المرسل- مختلفًا لبينه علماء السلف، ولألزموا أنفسهم التحفظ من روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينوا ذلك لأتباعهم.
قال ابن عبد البر: وقالت طائفة -أي: من المالكية-: لسنا نقول: إن المرسل أولى من المسند، ولكنهما سواء في وجوب الحجة، والاستعمال؛ واعتلوا بأن السلف رضي الله عنهم أرسلوا ووصلوا وأسندوا؛ فلم يعب واحد منهم على صاحبه شيئًا من ذلك، بل كل من أسند أرسل، ولو لم يكن ذلك كله عندهم دينًا وحقًّا ما اعتمدوا عليه؛ لأنا وجدنا التابعين إذا سئلوا عن شيء من العلم، وكان عندهم في ذلك شيء عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وقال عمر: كذا، ولو كان ذلك لا يوجب عملًا، ولا يُعد علمًا عندهم، لما قَنَع به العالم من نفسه، ولا رضي به منه السائل.
الرد على أصحاب هذا المذهب الثالث:
لقد رد العلماء على أولئك الذين يحتجون بالحديث المرسل؛ كاحتجاجهم بالحديث المتصل، وبينوا أن الأئمة قبل الشافعي؛ قد تكلموا في المراسيل، وعابوا على من يرسل الحديث، ولم يلتفتوا إلى ما أرسلوه، ولقد بدأ ذلك في زمن الصحابة والتابعين، ولم ينتظر حتى مجيء الإمام الشافعي؛ بل بدأ البحث عن الإسناد، وتمحيص الروايات في زمن مبكر؛ فهذا عبد الله بن عباس الصحابي الجليل يعرض عن حديث بشير بن كعب العدوي التابعي الثقة وينكر عليه؛ لأنه أرسل الحديث، ولم يذكر من حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق.
وهذا هو الخطيب البغدادي رحمه الله يرد على من يسوي بين المرسل والمتصل، ويبين أن السلف قد ردوا المراسيل، وعابوا على من يرسل؛ فقال بعد أن ذكر ما استدلوا به لمذهبهم: وهذا الكلام غير صحيح. ثم قال: فأما قوله: لو كان حكم المتصل والمنقطع مختلفًا؛ لبينه علماء السلف، ولألزموا أنفسهم التحفظ من رواية كل مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينوا ذلك لأتباعهم، فإنا نقول: إنهم قد بينوا اختلاف المتصل والمنقطع. ثم روى بإسناده عن عتبة بن أبي حكيم، قال: “جلس إسحاق بن أبي فروة إلى الزهري، فجعل يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الزهري: ما لك قاتلك الله! تحدث بأحاديث ليس لها أزمة”. وروى عن غير ابن شهاب شبيه بهذا المعنى، ثم روى بإسناده عن مالك بن إسماعيل النهدي، أنه قال: سمعت ابن المبارك يقول: “طلب الإسناد المتصل من الدين”.
ثم قال: وقد كان الإمام أحمد بن حنبل يختار الأحاديث الموقوفات عن الصحابة، على المرسلات عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أن في هذه الآثار السابقة، إبطال لقول أبي داود، وابن جرير الطبري وغيرهما من الذين قالوا: إن أول من تكلم في المراسيل هو الإمام الشافعي، المتوفى في سنة أربع ومائتين، بل هو مسبوق إلى ذلك؛ فلقد سبقه إلى ذم الإرسال كما رأيت: عبد الله بن عباس الصحابي الجليل المتوفى في سنة ثمان وستين من الهجرة، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري المتوفى في سنة خمس وعشرين ومائة، وعبد الله بن المبارك المتوفى في سنة إحدى وثمانين ومائة، كما سبق.
قال السخاوي: وما أشعر به كلام أبي داود في أن الشافعي أول من ترك الاحتجاج بالمرسل، ليس على ظاهره؛ بل هو قول عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وغير واحد قبل الشافعي.
وبالجملة: فالمشهور عن أهل الحديث خاصة: القول بعدم صحة الاحتجاج بالحديث المرسل، ومحل الاحتجاج بالحديث المرسل، واعتباره صحيحًا عند هؤلاء العلماء: إذا كان مرسِله ثقة، ولا يرسل إلا عن الثقات؛ فإن كان المرسِل ضعيفًا، أو عُرف بأنه يرسل عن الضعفاء؛ فلا خلاف في رد مرسَله.
وقد سبق قول الخطيب البغدادي، وابن عبد البر في أن الذين احتجوا بالمراسيل شرطوا أن يكون المرسِل ثقة، ولا يرسل إلا عن ثقة.
المذهب الرابع في الاحتجاج بالحديث المرسل:
ذهب جماعة من العلماء إلى أن الحديث المرسل أرجح وأقوى من الحديث المسند المتصل.
وجهة نظرهم: ترجع وجهة نظر هؤلاء الأئمة إلى الآتي:
أ- الإمام الثقة إذا أرسل الحديث، وأضافه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك يدل على صحة الحديث؛ لأن الإمام الثقة -مع أمانته، وديانته- لا يستجيز أن يُرسل الحديث، ويُضيفه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان واثقًا أن من أسقطه من الإسناد ثقة، وأن الحديث صحيح.
ب- الإمام الثقة إذا أرسل الحديث؛ فإنه يكفي الناس مؤنة البحث عن رجاله وصحته، ويكون هو المسئول عن صحته، أما إذا ذكر الحديث بالإسناد المتصل؛ فإنه يُحيل القارئ على البحث عن رجاله، وعن مدى صحته لذلك قالوا: “من أسند فقد أحالك، ومن أرسل فقد تكفل لك” أي: بالصحة.
الرد على أصحاب هذا المذهب:
قال الخطيب البغدادي في الرد على أصحاب هذا المذهب: فالذين يفضلون المرسل على المسند، وقول المخالف: إن المنقطع عند أهل النظر أبين حجة، وأظهر قوة من المتصل، دعوى باطلة؛ لأن أهل العلم لم يختلفوا في صحة الاحتجاج بالأحاديث المسندة، واختلفوا في المراسيل، ولو كان القول الذي قاله المخالف صحيحًا؛ لوجب أن تكون القضية بالعكس في ذلك.
أما عن قولهم: إن الإمام الثقة لا يُرسل الحديث إلا إذا كان واثقًا، أن الذي أسقطه من الإسناد ثقة، فهذا قول غير مُسلَّم؛ لأنه قد علم من حال الثقات أنهم يمسكون عن تعديل الراوي وجرحه، فإذا سئلوا عنه جرحوه تارة، وعدلوه أخرى؛ فعلم بذلك أن الإمساك عن الجرح ليس تعديلًا، كما أن الإمساك عن التعديل ليس بجرح، ومن الممكن أن يكون الممسك عن الجرح والتعديل أمسك عن الأمرين للجهل بحال الراوي من عدالة أو جرح؛ فيمسك عن الأمرين.
وعلى فرض أن الذي أسقطه المُرسِل من الإسناد ثقة عنده؛ فقد يكون ثقة عنده، ضعيفًا عند غيره من علماء الجرح والتعديل؛ لأن المجرح اطلع على جرح في الراوي لم يطلع عليه المرسل، ومن المعلوم أن الجرح المفسر مقدم على التعديل؛ لأن مع الجارح مزيد علم لم يطلع عليه المعدل، ولكن المعدل أخبر عن ظاهر حاله، وسيأتي ذلك مفصلًا في باب الجرح والتعديل إن شاء الله تعالى.
أكثر من تُروى عنهم المراسيل:
قال الحاكم: أكثر ما تُروى المراسيل من أهل المدينة عن سعيد بن المسيب، ومن أهل مكة عن عطاء بن أبي رباح، ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال، ومن أهل الشام عن مكحول الدمشقي، ومن أهل البصرة؛ عن الحسن بن أبي الحسن البصري، ومن أهل الكوفة؛ عن إبراهيم بن يزيد النخعي. وقد يُروى الحديث بعد الحديث عن غيرهم من التابعين، إلا أن الغلبة برواياتهم وأصحها مراسيل سعيد بن المسيب، والدليل عليه أن سعيدًا من أولاد الصحابة؛ فإن أباه المسيب بن حزم من أصحاب الشجرة، وبيعة الرضوان، وقد أدرك سعيدُ عمرَ وعثمانَ وعليًّا وطلحةَ والزبيرَ إلى آخر العشرة المبشرين بالجنة. وليس في جماعة التابعين من أدركهم وسمع منهم غير سعيد، وقيس بن أبي حازم.