حكم الشرع في حق الباطنية
وهكذا يواصل الشيخ أبو حامد الغزالي -رحمه الله- الرد على هذه الفرقة من كذا ناحية ومن كذا زاوية، وما بين رد إجمالي حينًا وتفصيلي حينًا آخر؛ وذلك لإبطال منهجهم وإظهار زيفهم، وسأضرب صفحًا عن الرد المتبقي من كلام الشيخ، سيما أنه ركّز الرد في إبطال وجوب التعليل من إمامه، وجعل له النصيب الأوفر في هذه الناحية؛ لِأصلَ بعدُ -إن شاء الله عز وجل إلى بيان حكم مقتضى الشرع في حقهم، فما هو حكم الشرع في حقهم؟ هل هو التكفير أو التضليل أو تخطئتهم فقط؟
فنقول -وبالله التوفيق-: مهما سئلنا عن واحد منهم أو عن جماعتهم وقيل لنا: هل تحكمون بكفرهم؟ نقول: لا نسارع إلى تكفير أحد منهم إلا بعد السؤال عن معتقدهم ومقالتهم ونراجع المحكوم عليهم، أو نكشف عن معتقدهم بقول عدول يجوز الاعتماد على شهادتهم، فإذا عرفنا حقيقة الحال حكمنا بموجبه.
ومقالاتهم تدور بين مرتبتين: إحداهما توجب التخطئة والتضليل والتبديع، والأخرى توجب التكفير لهم والتبري منهم
المرتبة الأولى: وهي التي توجب التخطئة والتضليل والتبديع هي أن نصادف عاميًّا يعتقد أن استحقاق الإمامة في أصل البيت، وأن المستحق اليوم المتصدي لها منهم، وأن المستحق لها في العصر الأول كان هو عليًّا رضي الله عنه، فدُفع عنها بغير استحقاق، وزعم مع ذلك أن الإمام معصوم عن الخطأ والزلل، فإنه لا بد أن يكون معصوما، ومع ذلك فلا يستحل سفك دمائنا ولا يعتقد كفرنا، ولكنه يعتقد فينا أنّا أهل البغي زلت بصائرنا عن إدراك الحق خطأ؛ إذ عدلنا عن اتباعه عنادًا ونكدًا، فهذا الشخص لا يستباح سفك دمه، ولا يحكم بكفره لهذه الأقاويل، بل بحكم بكونه ضالًّا مبتدعًا، فيُزجر عن ضلاله وبدعته بما يقتضيه رأي الإمام.
فأما أن يحكم بكفره ويستباح دمه بهذه المقالات فلا، وهذا إنما يقتصر على تضليله وتبديعه إذ لم يعتقد شيئًا مما حكينا مما مذهبهم في الإلهيات وفي أمور الحشر والنشر، ولكنه لم يعتقد في جميع ذلك إلا ما نعتقد، وإنما تميز عنا بقدر الذي ذكرناه آنفًا، فإن قيل: هلا كفرتموهم بقولهم: إن مستحق الإمامة في الصدر الأولى كان عليًّا دون أبي بكر وعمر ومن بعده، وأنه دُفع على الباطل، وفي ذاك خرق لإجماع أهل الدين؟ قلنا: لا ننكر ما فيه من القحوم على خرق الإجماع؛ ولذلك تلقينا من التخطئة المجردة التي نطلقها ونقتصر عليها في الفروع في بعض المسائل إلى التضليل والتفسيق والتبديع، ولكن لا ننتهي إلى التكفير، فلم يبن لنا أن خالق الإجماع كافر، بل الخلاف قائم بين المسلمين في أن الحجة تقوم بمجرد الإجماع أم لا، وقد ذهب النظار وطائفته إلى إنكار الإجماع وأنه لا تقوم به حجة أصلًا، فمن التبس عليه هذا الأمر لم نكفره بسببه، واقتصرنا على تخطئته وتضليله.
فإن قيل: وهلا كفرتموهم بقولهم: إن الإمام معصوم، والعصمة عن الخطأ والزلل وصغير المآثم وكبيرها من خاصية النبوة، فكأنهم أثبتوا خاصية النبوة لغير النبي، قلنا: هذا لا يوجب الكفر أيضًا، وإنما الموجب له أن يُثبت النبوة لغيره بعده، وقد ثبت أنه خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم أو يُثبت لغيره منصب الشيخ لشريعته، فأما العصمة فليست خاصية النبوة، ولا إثباتها كإثبات النبوة، فلقد قالت طوائف من أصحابنا: العصمة لا تثبت للنبي من الصغائر، واستدلوا عليه بقوله تعالى: {وَعَصَىَ ءَادَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ} [طه: 121] وبجملة من حكايات الأنبياء.
فمن يعتقد في فاسق أنه مطيع ومعصوم عن الفسق لا يزيد على من يعتقد في مطيع أنه فاسق ومنهمك في الفساد، ولو اعتقد إنسان في عدل أنه فاسق لم يزد على تخطئة من اعتقد في غير معصوم أنه معصوم، كيف يحكم بكفره؟! نعم، يحكم بحماقته واعتقاده أمرًا يكاد يخالف المشاهَد من الأحوال وأمرًا لا يدل عليه مظهر العقل ولا ضرورته، فإن قيل: فلو اعتقد معتقد فسق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة فلن يعتقد كفرهم، فهل تحكمون بكفره؟ قلنا: لا نحكم بكفره، وإنما نحكم بفسقه وضلاله ومخالفته بإجماع الأمة، وكيف نحكم بكفره ونحن نعلم أن الله تعالى لم يوجب على من قذف محصنًا بالزنا إلا ثمانين جلدة، ونعلم أن هذا الحكم يشتمل كافة الخلق ويعمهم على وتيرة واحدة، وأنه لو قذف قاذف أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بالزنا لَمَا زاد على إقامة حد الله تعالى المنصوص عليه في كتابه، ولم يدعوا لأنفسهم بخاصية في الخروج عن مقتضى العموم.
فإن قيل: لو صرح مصرح بكفر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ينبغي أن يُنزّل منزلة من لو كفّر شخصا آخر من آحاد المسلمين أو القضاة والأئمة من بعدهم، قلنا: هكذا نقول، فلا يفارق تكفيرهم تكفير غيرهم من آحاد الأمة والقضاة وبين أفراد المسلمين المعروفون بالإسلام إلا في شيئين: أحدهما في مخالفة الإجماع وخرقه؛ فإن مكفر غيرهم ربما لا يكون خارقًا لإجماع معتدّ به، الثاني أنه ورد في حقهم من الوعد بالجنة والثناء عليهم والحكم بصحة دينهم وثبات يقينهم وتقدمهم على سائر الخلق أخبار كثيرة، فقال ذلك إن بلغته الأخبار واعتقد مع ذلك كفرهم فهو كافر لا بتكفيره إياهم لكن بتكذيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كذّبه بكلمة من أقاويله فهو كافر بالإجماع، ومهما قُطع النظر عن التكذيب في هذه الأخبار وعن خرق الإجماع نزلت تكفيرهم منزلة سائر القضاة والأئمة وآحاد المسلمين.
فإن قيل: فما قولكم فيمن يكفر مسلمًا فهو كافر أم لا؟ قلنا: إن كان يعرف أن معتقدَهم التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سائر المعتقدات الصحيحة، فمهما كفرهم بهذه المعتقدات فهو كافر؛ لأنه رأى الدين الحق كفرًا وباطلًا، فأما إذا ظن أنه يعتقد تكذيب الرسول أو نفي الخالق أو تثنيتَه أو شيئًا مما يوجب الكفر، فكفّره بناء على هذا الظن فهو مخطئ في ظنه المخصوص بالشخص صادق في تكفير من يعتقد ما يظن أنه معتَقَد هذا الشخص، وظن الكفر بمسلم ليس بالكفر، كما أن ظن الإسلام بالكافر ليس بالكفر، ومثل هذه الظنون قد تخطئ وتصيب، وهو جهل لحال شخص من الأشخاص، وليس من شرط دين الرجل أن يعرف إسلام كل مسلم وكفر كل كافر، بل ما من شخص يُفرض إلا وله جهله لم يضره في دينه، بل إذا آمن شخص بالله ورسوله وواظب على العبادات ولم يسمع باسم أبي بكر وعمر ومات قبل السماع مات مسلمًا، فليس الإيمان بهما من أركان الدين حتى يكون الغلط في صفاتهما موجب للانسلاخ من الدين.
وعند هذا ينبغي أن يُقبض عنان الكلام؛ فإن الغوص في هذه المغاصة يفضي إلى إشكالات وإثارة التعصبات، وربما لا تذعن جميع الأذهان لقبول الحق المؤيَّد بالبرهان لشدة ما يرسخ فيها من معتقدات مألوفة التي وقع النشوء عليها والتحق بحكم الاستمرار الاعتياد بالأخلاق الغريزية التي يتعذر إزالتها، وبالجملة القول فيما يوجب الكفر والتبري وما لا يوجبه لا يمكن استيفاؤه في أقل من مجلد، وذلك عند إيثار الاختصار فيه، فلنختصر على الغرض المهم في هذا الذي ذكرناه.
المرتبة الثانية: المقالات الموجبة للتكفير، وهي أن يعتقد ما ذكرناه ويزيد عليه، فيعتقد كفرنا واستباحة أموالنا وسفك دمائنا، فهذا يوجب التكفير لا محالة؛ لأنهم عرفوا أننا نعتقد أن للعالم خالقًا واحدًا قادرًا عالمًا مريدًا متكلمًا سميعًا بصيرًا حيًّا ليس كمثله شيء، وأن رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما جاء به من الحشر والنشر والقيامة والجنة والنار، وهذه الاعتقادات هي التي تدور عليها صحة الدين، فمن رآها كفرًا فهو كافر لا محالة، فإن انضاف إلى هذا شيئٌ مما حكي من معتقداتهم من إثبات إلهين وإنكار الحشر والنشر وجحود الجنة والنار والقيامة، فكل واحد من هذه المعتقدات موجب للتكفير قولًا واحدًا، صدر منهم أو من غيرهم.
فإن قيل: لو اعتقد معتقد وحدانية الإله ونفي الشرك، ولكنه تصرف في أحوال النشر والحشر والجنة والنار بطريق التأويل للتفصيل دون إنكار الأصل، بل اعترف بأن الطاعة وموافقة الشرع وكف النفس عن المحرمات والهوى سبب يفضي إلى السعادة، وأن الاسترسال على الهوى ومخالفة الشرع فيما أمر ونهى يسوق صاحبه إلى الشقاوة، ولكنه زعم أن السعادة عبارة عن لذَّة روحانية تزيد لذتها عن اللذة الجسمانية الحاصلة من المطعم والمنكح اللذين تشترك فيهما البهائم وتتعالى عنهما رتبة الملكية أو رتبة الملائكية، وإنما تلك السعادة اتصال بالجواهر العقلية وابتهاج بنيل ذلك الكمال واللذات الجسمانية محتقرة بالإضافة إليها، وأن الشقاوة عبارة عن كون الشخص محجوبًا عن ذلك الكمال العظيم محله الرفيع شأنه مع التشوق إليه والشغف به، وإن ألم ذلك يستحقر معه ألم النار الجسمانية، وأن ما ورد في القرآن مثَلُه ضرب لعوام الخلق لَمَّا قصر فهمهم عن درك تلك اللذات، فإنه لو تعدَّى النبي في ترغيبه وترهيبه إلى غير ما ألفوه وتشوقوا إليه وفزعوا منه لم تنبعث دواعيهم من الطلب والهرج، فذكر من اللذات أشرفها عندهم، وهي المدركات بالحواس، اللحوم والقصور؛ إذ تحظى بها حاسة البصر، ومن المطاعم والمناكح؛ إذ تحظى بها القوة الشهوانية، وما عند الله لعباده الصالحين خير من جميع ما أعربت عنه العبارات ونبَّهت عليه، ومن ذلك قال تعالى فيما حكى عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) وكل ما يدرك من جسمانيات فقد خطر على قلب بشر، أو يمكن إخطاره بالقلب.
هذا والقول عندهم بإلهين كفر صريح لا يتوقف فيه، وأما هذا فربما يَتوقف فيه الناظر يقول: إذا اعترفوا بأصل السعادة والشقاوة، وكون الطاعة والمعصية سبيل إليهما، فالنزاع في التفصيل كالنزاع في مقادير الثواب والعقاب، وذلك لا يوجب تكفيرًا، فكذلك النزاع في التفصيل، والذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف في تكفير من يعتقد شيئًا من ذلك؛ لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع ولجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها، فوصف الجنة والنار لم يُكتفَ بذكره مرة واحدة أو مرتين، ولا جرى بطريق كناية أو توسع وتجوز، بل بألفاظ صريحة لا يتمارى فيها ولا يُستراب، وأن صاحب هذا الشرع أراد منها المفهوم من ظاهرها، فالمصير إلى ما أشار إليه هذا القائل تكذيب وليس بتأويل، فهو كفر صريح لا يتوقف فيه أصلًا.
ولذلك نعلم عن القطع أنه لو صُرّح بإنكار الجنة والنار والحور القصور فيما بين الصحابة لبادروا إلى قتل قائله، واعتقدوا ذلك منه تكذيبًا لله ولرسوله، فإن قيل لعلهم كانوا يفعلون ذلك ويبالغون فيه حسمًا لباب التصريح به؛ إذ مصلحة العامة تقتضي ألا يجري الخطاب معهم إلا بما يليق بأفهامهم، ويؤثر في نفوسهم وإثارة دواعيهم، وإذا رُفعت عن نفوسهم هذه الظواهر اقتصرت عقولهم عن درك اللذات العقلية أنكروا الأصل وجحدوا الثواب والعقاب، سقطَ عندهم تمييز الطاعة عن العصيان والكفر عن الإيمان، قلنا: فقد اعترفتَ بإجماع الصحابة على تكفير هذا الرجل وقتله؛ لأنه مصرح به، ونحن لم نزد على أن المصرح به كافر يجب قتله، وقد وقع الاتفاق عليه، وهكذا فرقنا بين ما عندهم من كفر وما عندهم من ضلالات.