Top
Image Alt

حكم الوصية الشرعي

  /  حكم الوصية الشرعي

حكم الوصية الشرعي

من حيث حكمها من الناحية الشرعية, أي: الحكم التكليفي؛ لأن هذه هي الأحكام التكليفية، هل نحن مطالبون بها على سبيل الإيجاب أم على سبيل الندب أم هي مُحَرّمة, إلى آخر الأحكام التكليفية الخمسة؟

الوصية حُكمُها الندب أو الاسْتِحْبَاب, فيندب للإنسان أو يستحب له أن يوصي ولو من صحيح غير مريض، فليس بشرط أن يكون الإنسان مريضًا حين يوصي؛ لأن الموت قد يأتي فجأة، فهي ليست واجبة في الأحوال العادية.

والدليل على أنها ليست واجبة في الأحوال العادية -ونقول الأحوال العادية؛ لأنه قد تجب في بعض الأحوال غير العادية- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يوصِ، ولو كانت الوصية فرضًا ما تركها صلى الله عليه وسلم وكذلك أكثر أصحابه لم ينقل عنهم أنهم أوصوا، ولو كانت واجبة لنقل عنهم نقلًا ظاهرًا أنّهم أوصوا، ولكن ذلك لم يثبت, إذًا الوصية ليست واجبة في الأحوال العادية.

كما أنها لا تخرج عن كونها تبرعًا أو عطية, لا تجب في حال الحياة؛ فلا تجب بعد الموت من باب أولى إلّا بسببٍ من أسباب وجوبها، فهي ليست واجبة في الأحوال العادية، كما أنها ليست بواجبة إلا بسبب يوجبها من أسباب سوف نذكرها بعد ذلك.

أما آية الوصية التي أولها: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ}  [البقرة: 180], فهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}  [النساء: 7], كما قال ابن عباس. وقال ابن عمر: آية إعطاء الوالدين والأقربين من الوصية منسوخة بآية المواريث.

بيان ذلك: أنّ الله فوض أولًا في آية البقرة إلى من حضرته الوفاة، أن يوصي للوالدين والأقربين من غير أن يُقيدهم بشيء من السهام والأنصباء، أي: يوصي مطلقًا، ثم أنزل بعد ذلك سبحانه وتعالى آيات المواريث وبيّن فيها السهام والأنصباء التي يرجع السهم فيها والنصيب لكل شخص أو فئة معينة؛ فدل ذلك على أن الذي فوضه الله سبحانه وتعالى إليهم أولًا في آية الوصية قد تولى سبحانه وتعالى بيانه بنفسه، وبذلك تكون الآية منسوخة, أي: أمر الوصية حصل بطريق أقوى؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } [النساء: 7], ثم فصلت الآية بعد ذلك هذا النصيب وهذا الحق.

كما يجوز أيضًا أن تكون هذه الآية منسوخة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث))، عند من يقول بجواز نسخ الكتاب بالسُّنة، وعند من لا يقول بذلك أيضًا؛ لأنّ في هذا الحديث إشارة إلى جهة النسخ؛ لأن النبيصلى الله عليه وسلم أشار إلى أن الميراث الذي أُعطي لكل وارث حقه منه يدل على ارتفاع الوصية، ما دام كل وارث أعطي حقه.

وإذا تحول فلا يبقى له حق في الوصية؛ كالقبلة لما تحولت من بيت المقدس إلى الكعبة، فلم يبق بيت المقدس قبلة، وكالدَّيْن إذا تحول من ذمة إلى ذمة, فلا يبقى في الذمة الأولى دين، وبعد نسخ وجوب الوصية التي كانت بقوله تعالى: {كُتِبَ} يبقى الاستحباب في حق من لا يرث.

وقد أشرنا ونحن نتكلم عن الحكم التكليفي للوصية إلى أنها مستحبة؛ إلا إذا وجبت في أحوال غير عادية، وعليه هناك أحكام أخرى للوصية، فقد تكون واجبة على الموصي بأن يوصي في الأحوال الآتية: كأنْ يُوصي برد ودائع عنده وديون مجهولة لا مستند لها، ويوصي بواجبات شُغلت ذمته بها إلى أن فاجأته المنية، أو لم يتمكن منها إلى أن رقد على فراش الموت، كالزّكاة والحَجّ والكفارات وفدية الصيام ونحو ذلك.

كما يجب عليه أن يوصي بحقوق الآدميين الذين لم تعلم إلا من جهته، كدين أو وديعة لا يعلم بها من تثبت له وله الحق فيها، فهو وحده -هذا الذي يُوصي- يعلم أنّ لفُلان دينًا عليه أو له عنده وديعة؛ فيجب عليه حتى تبرأ ذمته أن يوصي بإخراج هذا الدين الذي عليه، وبرد الوديعة الموجودة في المكان الفلاني… إلى آخره، ونظرًا لأن هذا الحق واجب عليه أصلًا, ولم يوفه ولم يقدر على وفائه بأي سبب؛ تكون الوصية هنا واجبة عليه برد هذه الودائع والديون المجهولة، وإخراج الزكاة والكفارات والأشياء وحقوق الآدميين كلها, فتكون الوصية واجبة بذلك, في ذلك كله؛ لأن ما لا يحصل الواجب إلا به فهو واجب.

ولها حُكم آخر غير الوجوب، حيث تندب الوصية أو تستحب للأقارب الفقراء غير الوارثين؛ كما تكون مندوبة أيضًا في جميع القربات كجهات البر والخير عامة، وللمحتاجين. وتسن لمن ترك خيرًا كثيرًا بحسب العرف، مثل الشخص الذي عنده أموال كثيرة بحسب عرف الناس، فيُسَنّ له أن يجعل جزءًا من ماله هذا وصية لأهل الصلاح والتقوى، ولطُلّاب العِلم ونحوه.

ولها حكم آخر, حيث تباح الوصية في كل مباح، كالوصية للأغنياء الأجانب والأقارب فهذه جائزة، وإن كان الأولى أن تكون فيمن ذُكر من أهل الصلاح والتقوى، والفقراء وطلاب العلم.

وقد تكون الوصية مكروهة لأهل الفسوق والمعاصي، إذا غلب على ظن الموصي أنّ هَؤلاء -أي: أهل الفسوق والمعاصي- يصرفون الوصية في الفسق والمعصية. أمّا إذا غلب على ظن الموصي أنهم يصرفونها في المباحات، أو يصرفونها فيما يساعدهم في البُعد عن المعاصي، ويتجهون بها إلى القربى؛ فتكون مباحة وقد تندب.

وأيضًا قد تكون الوصية حرامًا، وإذا كانت حرامًا تكون غير صحيحة اتفاقًا، كالوصية بالمعصية؛ فلو أوصى شخصٌ بتوزيع خمر أو بناء دار للّهْو، أو أوصى بنشر كتب الضلال، وكتب فيها علوم محرمة أو كتب تحض على الفساد، أو على إفساد الأخلاق العامة، فهذه الوصية بهذه الأنواع وغيرها وما في معناها محرمة, وغير صحيحة اتفاقًا عند أهل العلم.

error: النص محمي !!