Top
Image Alt

حكم خبر العدل إذا انفرد بزيادة في الحديث لم يروها غيره

  /  حكم خبر العدل إذا انفرد بزيادة في الحديث لم يروها غيره

حكم خبر العدل إذا انفرد بزيادة في الحديث لم يروها غيره

أمّا القول في حُكم خبر العدل إذا انفرد برواية زيادة فيه لم يَرْوها غيره، فقد حكى الخطابي عن جمهور الفقهاء وأصحاب الحديث: أنّ زيادة الثقة مقبولة إذا انفرد بها، ولم يُفرِّقوا بين زيادة يتعلّق بها حُكم شرعي أو لا يتعلّق بها حُكم، وبين زيادة تُوْجِبُ نقصانًا من أحكام تَثبت بخبرٍ ليستْ فيه تلك الزيادة، وبين زيادة توجب تغيير الحُكم الثابت، أو زيادة لا توجب ذلك، وسواء أكانت الزيادة في خبر رواه راويه مرّة ناقصًا، ثم رواه بعد ذلك وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة قد رواها غيرُه ولم يرْوها هو.

وقال فريق ممّن قبِل زيادة العدل الذي ينفرد بها: إنما يجب قبولُها إذا أفادت حكمًا يتعلّق بها، وأمّا إذا لم يتعلّق بها حُكم فلا.

وقال آخَرون: يجب قبول الزيادة من جهة اللّفظ دون المعنى. وحُكي عن فرقةٍ ممّن ينتحل مذهب الشافعي، أنها قالت: تُقبل الزيادة من الثقة إذا كانت من جهةِ غير الراوي، فأمّا إن كان هو الذي روى الناقص، ثم روى الزيادة بعد، فإنها لا تُقبل.

وقال قوم من أصحاب الحديث: زيادة الثقة إذا انفرد بها، غير مقبولة ما لم يرْوِها معه الحفاظ، وترْك الحفّاظ لنقْلها وذهابهم عن معرفتها يُوهنُها ويُضعف أمْرها، ويكون معارضًا لها.

ولقد اختار الخطابي من هذه الأقوال: أنّ الزيادة الواردة مقبولة على كلِّ الوجوه، ومعمول بها إذا كان راويها عدلًا حافظًا ومُتقنًا ضابطًا.

والدليل على صحة ذلك: أمور؛ منها: اتّفاق جميع أهل العلْم على أنه لو انفرد الثّقةُ بنقْل حديث لم يَنقله غيرُه لوجب قبولُه، ولم يكن ترْك الرواة لنقْله إن كانوا عرَفوه وذهابُهم عن العلم به معارضًا له، ولا قادحًا في عدالة راويه، ولا مُبطلًا له.

وكذلك سبيل الانفراد بالزيادة، قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: “هو احتجاج مردود؛ لأنه ليس كلّ حديث تفرّد به أيُّ ثقة يكون مقبولًا، كما تحدثنا عنه في نوع “الشّاذّ”.

ثم إنّ الفَرْق بين تفرّد الراوي بالحديث من أصله وبين تفرّده بالزيادة ظاهر؛ لأنّ تفرّده بالحديث لا يَلزَم منه تطرّق السهو والغفلة إلى غيره من الثقات؛ إذ لا مخالفة في روايته لهم، بخلاف تفرّده بالزيادة، إذ لم يرْوها من هو أتقن منه حفظًا وأكثر عددًا؛ فالظن غالب بترجيح روايتهم على روايته”.

وقال الخطيب: “فإن قيل: ما أنكرت أن يكون الفَرق بين الأمريْن: أنه غير ممتنع سماع الواحد الحديث من الراوي وحده وانفراده به، ويمتنع في العادة سماع الجماعة لحديث واحد، وذهاب زيادة فيه عليهم، ونسيانها إلاّ الواحد؛ بل هو أقرب إلى الغلط والسهو منهم؛ فافترق الأمران”. وقال: “فهذا باطل من وجوه غير ممتنعة، منها: أن يكون الراوي حدّث بالحديث في وقتيْن، وكانت الزيادة في أحدهما دون الوقت الآخَر. ويحتمل أيضًا أن يكون قد كرّر الراوي الحديث، فرواه أوّلًا بالزيادة وسمعه الواحد، ثم أعاده بغير زيادة اقتصارًا على أنه كان قد أتمّه من قبل، وضبطه عنه مَن يجب العمل بخبره إذا رواه عنه؛ وذلك غير ممتنع. وربما كان الراوي قد سَهَا عن ذكْرِ تِلْكَ الزيادةِ لمّا كرّر الحديث وترَكها غيرَ متعمِّد لحذْفها. ويجوز أن يكون ابتدأ بذكْر ذلك الحديث وفي أوّله الزيادة، ثم دخل داخل فأدرك بقيّة الحديث، ولم يسمع الزيادة، فنقَل ما سمعه؛ فيكون السامع الأوّل قد وعاه بتمامه.

وقد رُوي مثل هذا في خبرٍ جرى الكلام فيه بين الزبير العوام وبيْن بعض الصحابة؛ فعن عبد الله بن عروة، عن أبيه، أنه قال: سمع الزبير رجلًا يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلمّا فرغ الرجل من حديثه، قال له الزبير: هل سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم. قال: صدقت. ولكنك كنت يومئذ غائبًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث عن رجال من أهل الكتاب. فجئتَ في آخِر الحديث، ورسول اللهصلى الله عليه وسلم يحدِّث، فحسبْتَ أنه يحدِّث عن نفسه هذا، ومثله يمنعنا من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك رُوي أيضًا عن زيد بن ثابت، أنه قال لرافع بن خديج في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النّهيَ عن كراء المزارع.

وروى الخطيب بسنديْه في (الكفاية)، عن عروة بن الزبير، أنه قال: قال زيد بن ثابت: “يغفر الله لرافع بن خديج. أنا والله أعلم بالحديث منه. إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اتّفقا ثم اقتتلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان هذا شأنُكم فلا تكْروا المزارع))”، زاد بعض الرواة: فسمع قوله: ((لا تكروا المزارع)).

ويجوز أن يسمع من الراوي الاثنان والثلاثة، فينسى اثنان منهما الزيادة، ويحفظها الواحد ويرويها.

ويجوز أيضًا أن يحضر الجماعة سماع الحديث، فيتطاول حتى يغشى النوم بعضَهم، أو يشغله خاطر نفْس وفكْر، فربما عرض لبعض سامعي الحديث أمْر يوجب القيام ويضطره إلى ترْك استتمام الحديث.

وإذا كان ما ذكرناه جائزًا، فَسَد ما قاله المخالِف، فعن عمران بن حصين أنه قال: ((أتى نفرٌ من بني تميم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقبلوا البشرى، يا بني تميم؛ فقالوا: قد بشّرتنا فأعْطنا. فرُئِى ذلك في وجْه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء نفَر من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى، إذ لم يقْبَلْها بنو تميم. قالوا: قد قبِلنا يا رسول الله. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدء الخلق والعرش. فجاء رجل فقال: يا عمران، راحلتك! فقمتُ. فليتني لم أقُم!)).

ويدل أيضًا على صحّة ما ذكرناه: أنّ الثقة العدل يقول: “سمعت وحفظت ما لم يسمع الباقون”، وهم يقولون: “ما سمعنا ولا حفظنا”، وليس ذلك تكذيبًا له، وإنما هو إخبار عن عدَم علْمهم بما علِمه، وذلك لا يمنع علْمه به؛ ولهذا المعنى وجب قبول الخبر إذا انفرد به دونهم؛ ولأجله أيضًا قُبلت الزيادة في الشهادة إذا شهدوا جميعًا بثبوت الحق، وشهد بعضهم بزيادة حقّ آخَر، أو شهدوا جميعًا بالبراءة منه ولم يشهد الآخَرون.

وأما علّة من اعتلّ في ترْك قبولها، ببُعد ذهابها عن الجماعة وحِفْظ الواحد لها، فقد بيّنّا فسادَها فيما تقدّم، وجواز ذلك من غير وجه.

قال الحافظ ابن حجر: “والجواب عن ذلك: أن الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة، إنما هو في زيادة بعض الرواة من التابعين فمَن بَعْدَهم. أمّا الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابيّ آخَر، إذا صحّ السند إليه فلا يختلفون في قبولها. وإنّما الزيادة التي يَتوقّف أهل الحديث في قبولها من غير الحفّاظ، حيث يقع في الحديث الذي يتّحد مخرجه، كمالك عن نافع عن ابن عمر، إذا روى الحديث جماعة من الحفّاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ، وانفرد دونهم بعضُ رواته بزيادة، فإنها لو كانت محفوظةً لَمَا غفل الجمهور من رواته عنها، فتفرّد واحد عنه بها دونهم، مع توفّر دواعيهم على الأخذ عنه وجمْع حديثه، يقتضي ريبة توجب التوقف عنه”.

قال الخطيب: “وأمّا فصْل مَن فصّل بين أن تكون الزيادة موجبَة لِحُكم أو غير موجبة له، فلا وجْه له؛ لأنه إذا وجب قبولها مع إيجابها حكمًا زائدًا، فبأن تُقبل إذا لم توجد زيادة حُكم أوْلى؛ لأن ما يثبت به الحُكم أشدّ في هذا الباب.

ومن الأحاديث التي تفرّد بعض رواتها بزيادة فيها توجب زيادة حُكم: ما رُوي عن سعد بن طارق، أنه قال: حدثني ربعي بن خراش عن حذيفة، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فُضِّلْنا على الناس بثلاث: جُعلت صفوفُنا كصفوف الملائكة، وجُعلت لنا الأرضُ مسجدًا، وجُعلتْ تُربتُها لنا طَهورًا إذا لم نَجد الماء))، وذكَر خصلة أخرى. فقوله: ((وجُعلت تربتُها لنا طهورًا)) زيادةٌ لم يَرْوِها -فيما أعلم- غيرُ سعد بن طارق عن ربعي بن خراش؛ فكلّ الأحاديث لفْظُها: ((وجُعلتْ لنا الأرضُ مسجدًا وطهورًا)).

وأيضًا: ما روي عن عثمان بن عمر، أنه قال: حدثنا مالك بن مغول، عن الوليد بن العيزار، عن أبي عمرو الشيباني، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ العمل أفضل؟ قال: الصلاة في أوّل وقْتها. قلت: ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قلت: ثم أيّ؟ قال: بِرّ الوالديْن)). فقوله: ((في أوّل وقْتها)) زيادة لا نعلم رواها في حديث ابن مسعود إلاّ عثمان بن عمر عن مالك بن مغول. وكلّ الرواة قالوا عن مالك: ((الصلاة لِوقْتها)).

وأمّا فصْل مَن فصّل بين أن تكون الزيادة في الخبر من رواية روايه بغير زيادة، وبيْن أن تكون من رواية غيره، فإنه لا وجْه له، لأنه قد يسمع الحديثَ مُتكررًا تارة بزيادة، وتارة بغير زيادة، كما نسمعه على الوجهيْن مِن راوييْن. وقد ينسى الزيادة تارة، فيرويه بحذْفها مع النسيان لها والشّكّ فيها، ويَذكُرها فيرويها مع الذِّكْر واليقين. وكما أنه لو روى الحديث ونسِيَه، فقال: “لا أذكر أني رويْتُه”، وقد حفِظ عنه ثِقةٌ، وجب قبولُه برواية الثقة عنه؛ فكذلك هذا. وكما لو روى أيضًا حديثًا مثبتًا لِحُكم وحديثًا ناسخًا له، وجب قبولُهما. فكذلك حُكم خبرِه إذا رواه تارة زائدًا وتارة ناقصًا. وهذه جملة كافية”.

قال الحافظ ابن الصلاح: “ومذهب الجمهور من الفقهاء، وأصحاب الحديث -فيما حكاه الخطيب البغدادي-: أنّ الزيادة من الثقة مقبولة إذا تفرد بها، سواء أكان ذلك من شخصٍ واحدٍ، بأن رواه ناقصًا مرّة ورواه مرة أخرى وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة من غير مَن رواه ناقصًا، خلافًا لمن ردّ من أهل الحديث ذلك مطلقًا، وخلافًا لمن ردّ الزيادة منه وقبِلها من غيره. وأكثر أهل الحديث: أنه إذا وصل الحديثَ قومٌ وأرسله قومٌ، أن الحُكم لمَن أرسله، مع أنّ وصْلَه زيادة من الثقة”.

error: النص محمي !!