حكم نسح جزء العبادة، أو إلغاء شرطها
تحرير محل النزاع في المسألة وتصويرها:
“إبطال شرط العبادة أو جزء متصل بها”: هذا التعبير يعني: أن الشارع ينسخ شرطًا من شروط العبادة، أو ينسخ جزءًا متصلًا بالعبادة، فهل إبطال الشرط أو إبطال الجزء يكون نسخًا أو لا يكون نسخًا؟ فالتعبير الأكثر شهرة: “إبطال شرط العبادة أو جزء متصل بها”.
وهناك تعبير آخر: “حكم نقص جزء من العبادة أو إلغاء شرطها” يعني: ما الحكم لو أنقص الشارع جزءًا من العبادة، يعني هب أن الصلاة رباعية فأنقص الشارع منها ركعة فصارت ثلاث ركعات، فهل هذا النقص نسخ أو لا؟ أو يشترط في الصلاة الطهارة، فهب أن الشارع ألغى شرط الطهارة، فهل هذا نسخ أو ليس بنسخ؟
ولنا أن نحرر محل النزاع في المسألة، فنقول وبالله التوفيق:
اتفق الأصوليون على أن نسخ السنة من سنن العبادة لا يكون نسخًا لتلك العبادة. فلو أن الشارع نسخ سنة من سنن العبادة، فهل يكون ذلك نسخًا لكل العبادة؟ هب أن الشارع مثلًا نسخ ستر الرأس يعني: أمرنا مثلًا أن نصلي ورءوسنا مستورة، فورد أمر بنسخ ستر الرأس فجاء نص وقال: “لا تستروا رءوسكم” وهذا يطلق عليه أنه نسخ السنة، فاتفق أهل العلم على أن نسخ السنة من سنن العبادة لا يكون نسخًا لتلك العبادة.
ومثلوا لذلك بنسخ ستر الرأس، والوقوف على يمين الإمام في الصلاة، من السنن أن تقف عن يمين الإمام في الصلاة، فلو ورد نسخ للوقوف على يمين الإمام في الصلاة، فهل يكون نسخًا للصلاة كلها أو لا يكون؟ هذا باتفاق لا يكون.
فالنكتة الأولى من تحرير محل النزاع أنهم اتفقوا على أن نسخ السنة من سنن العبادة لا يكون نسخًا لتلك العبادة، كنسخ ستر الرأس، أو الوقوف على يمين الإمام في الصلاة.
كما اتفقوا على أن الشارع إذا نقص جزءًا من العبادة، أو ألغى شرطًا من شروطها، كما إذا نقص ركعة من الصلاة الرباعية، فهذا نقص جزءًا من أجزاء العبادة، أو ألغى اشتراط الطهارة، هذا نقص شرط من شروط العبادة بالنسبة للصلاة، فإن ذلك يكون نسخًا لوجوب ذلك الجزء أو الشرط. يعني: بعينه يعني لو نسخ ركعة واحدة؛ فإن النسخ ليس لكل الصلاة بل لهذه الركعة، ولو نسخ اشتراط الطهارة للصلاة فهذا يكون نسخًا لهذا الشرط فقط. ثم اختلفوا بعد ذلك:
هل يكون ذلك نسخًا للعبادة التي نقص منها الجزء، أو ألغي منها الشرط أو لا يكون نسخًا لها؟
اختلفوا على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: قالوا -أي أصحاب هذا المذهب-: إن ذلك لا يكون نسخًا للعبادة مطلقًا. ومعنى مطلقًا يعني: لا فرق ببن الجزء أو الشرط، فلو أن الشارع نسخ ركعة من أربع، أو نسخ الطهارة للصلاة، فهذا لا يكون نسخًا للصلاة سواء كان نقص منها جزء وهو الركعة، أو شرط وهو الطهارة.
وإلى هذا المذهب ذهب جمهور العلماء من أصحاب الشافعي، واختاره الرازي، والآمدي، وابن الحاجب، وحكاه أبو الحسين البصري في (المعتمد) عن الكرخي من الحنفية. هذا المذهب الأول، وحاصله أن هذا لا يكون نسخًا مطلقًا سواء كان للشرط أو للجزء.
المذهب الثاني: ويرى أصحابه أن هذا يكون نسخًا مطلقًا. يعني للعبادة مطلقًا بجزئها وشرطها. وإلى هذا المذهب مال جماعة من المتكلمين.
المذهب الثالث: قال: إن نقص الجزء نسخ للعبادة التي نقص منها، يعني لو نسخنا ركعة من أربع، فهذا نسخ للمجموع، يعني للركعة والثلاث المتبقي. أما إلغاء الشرط فليس نسخًا لها.
وهذا المذهب الثالث فرق بين نقص جزء أو إلغاء شرط، فقال: إن نقص جزءًا فهذا نسخ للعبادة، وإن ألغى شرطًا فليس نسخًا للعبادة. وهذا المذهب اختاره القاضي عبد الجبار، واختاره الغزالي -رحمه الله- في كتابه (المستصفى).
نسخ الحكم المقيد بالتأبيد:
اختلف الأصوليون في جواز نسخ حكم الخطاب إذا كان مقيدًا بلفظ التأبيد، مثل أن يقول الشارع مثلًا: يجب عليكم أبدًا صوم رمضان، فهذا مقيد بالتأبيد في كلمة أبدًا، أو يقول: صوموا أبدًا. وقريب من هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد ماض إلى يوم القيامة)).
فهل يجوز نسخ الحكم المقيد بالتأبيد أو لا يجوز؟
ذهب جمهور العلماء إلى جواز نسخه. أي: نسخ الحكم المقيد بالتأبيد، فلا مانع إذا قال الشارع مثلًا: يجب عليكم أبدًا صوم رمضان. أن ينسخ هذا الكلام.
وذهبت طائفة من الحنفية كالقاضي أبي زيد الدبوسي، وأبي منصور الماتريدي، وأبي بكر الجصاص، وفخر الإسلام البزدوي، وشمس الأئمة السرخسي، وغيرهم، ذهبوا إلى أنه لا يجوز نسخه، فكل ما حكم عليه بالتأبيد أو كل حكم مقيد بالتأبيد، فلا يجوز عند جمهور الحنفية نسخه.
نسخ ما لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط:
مسألة أخرى من المسائل المتممة للكلام على مسألة الزيادة على النص، وهذه المسألة هي “نسخ ما لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط”.
ولنبين معنى عنوان المسألة: لا شك أن وجوب الإيمان بالله تعالى ووجوب معرفة الله أمر حسن، وهذا الأمر الحسن لا يقبل السقوط. يعني لا يتصور أن يطلب الشارع منا أن نسقط من حسابنا ومن علمنا وجوب معرفته ووجوب الإيمان به. هذا معنى قولهم: “نسخ ما لا يقبل حسنه السقوط”، فالأشياء الحسنة عقلًا وشرعًا هل يجوز أن يأتي وقت وينسخها الشارع؟ فالشارع أمرنا بوجوب الإيمان بالله تعالى ووجوب معرفته، وهذه لا شك أمور حسنة، وهذه الأمور لا تقبل السقوط ولا تقبل النسخ، فهل يجوز نسخها أو لا يجوز؟ هذا معنى ما لا يقبل حسنه السقوط.
وكذلك الكفر والظلم والكذب أمور قبيحة، وكذا سائر العقائد الباطلة كلها أمور قبيحة، وهي مع قبحها لا تقبل السقوط. يعني لا يتصور أن يقول الشارع: رفعت عنكم الكفر أو رفعت عنكم أمر الظلم، أي: فاظلموا بعضكم بعضًا أو الكذب أو نحو ذلك، فهل يجوز نسخ ما لا يجوز حسنه أو قبحه السقوط أو لا؟
اختلف الأصوليون في جواز نسخ حكم ما لا يقبل حسنه السقوط، كوجوب الإيمان بالله تعالى ومعرفته، فوجوب الإيمان على ما قررنا الآن، ووجوب معرفته أمر حسن، وهو مع حسنه لا يقبل السقوط، وما لا يقبل قبحه السقوط، كتحريم الكفر وغيره من الظلم والكذب وسائر العقائد الباطلة، فالكفر لا شك قبيح، وهو مع قبحه لا يقبل السقوط؛ لذا اختلف الأصوليون في جواز نسخ حكم ما لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط.
المذهب الأول: مذهب جمهور أهل العلم أنه يجوز نسخ ما لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط عقلًا. يعني العقل لا يمنع ذلك.
المذهب الثاني: لا يجوز نسخه، قال به الحنفية والمعتزلة.
وقد اتفق الجميع الجمهور والحنفية والمعتزلة على عدم الوقوع. يعني: لم يقع في شرعنا أن الله تعالى نسخ ما لا يقبل حسنه السقوط أو ما لا يقبل قبحه السقوط.
وسبب الخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وقد مرت الإشارة إليه مرات عديدة.
فالجمهور -كما تعلمون- لا يقولون بمسألة التحسين والتقبيح العقليين، نظرًا لأنهم لا يثبتون التحسين والتقبيح بالعقل، وإنما يثبتونهما بالشرع، فجوزوا النسخ فيما لا يقبل حسنه وقبحه السقوط؛ لأن العقل لا مدخل له في ذلك، فالإيمان والكفر سيان عنده، فما أوجبه الشارع فهو حسن، وما حرمه الشارع فهو حرام، فالمعول عليه عند الجمهور هو الشرع وليس العقل.
أما المعتزلة فقد أحالوا نسخ حكم ما لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط؛ لأنهم قالوا بالتحسين والتقبيح العقليين، عندهم أن العقل له سلطة، وله قدرة على معرفة الحسن والقبيح، والجمهور يقولون: العقل لا مدخل له في الشرع، بل ما أثبته الشرع فهو المشروع، وما لم يثبته فليس بمشروع، فلما كانت المعتزلة يقولون بالتحسين والتقبيح أحالوا نسخ حكم ما لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط؛ لأنهم قالوا بالتحسين والتقبيح العقليين، وما دام العقل لم يرتفع -على كلام المعتزلة- فيستحيل النسخ لوجود المثبت لهما.
ومعلوم؛ أن مذهب الجمهور في هذه المسألة هو الراجح، وإن قلنا: إن هذا لم يقع، لكن الجمهور لا يعتبرون العقل، ولا مدخل للعقل عندهم في الشرع، فهم يقولون: لا مانع شرعًا أن ينسخ الله ما لا يقبله حسنه السقوط ولا مانع شرعًا، يعني: إذا ورد في الشرع سلمنا به، والعقل لا مدخل له في الشرعيات.
حكم نسخ جميع التكاليف:
وهناك مسألة ثالثة متممة يذكرها علماء الأصول عند كلامهم على مسألة “الزيادة على النص” هل هي نسخ أو لا؟ وهذه المسألة تعرف بمسألة “نسخ جميع التكاليف” يعني: التكاليف الشرعية، هل الشارع الحكيم ينسخ جميع التكاليف الشرعية؟ أو هل يجوز أن ينسخ الشارع الحكيم جميع التكاليف الشرعية ويبقى الناس بدون تكاليف؟
اتفق العلماء -وهذا تحرير لمحل النزاع- على جواز نسخ جميع التكاليف، وذلك بإعدام العقل الذي هو شرط في التكليف، فلو عدم العقل حينئذ تنعدم جميع التكاليف؛ لأن العقل -كما تعلمون وكما هو مشتهر على ألسنة أهل العلم- مناط التكليف، فإذا وجد العقل وجد تكليف، وإذا انعدم العقل انعدم التكليف. لذلك اتفقوا على جواز نسخ جميع التكاليف في حالة إعدام العقل الذي هو شرط في التكليف، هذه جزئية محل اتفاق بين أهل العلم.
الجزئية الثانية: أنهم اتفقوا كذلك على أنه يستحيل أن يكلف الله سبحانه وتعالى أحدًا بالنهي عن معرفته. يعني: يستحيل أن يكلف الله تعالى فردًا مكلفًا، بأن لا يتعرف على الله -تبارك وتعالى- هذا مستحيل، إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق، والتكليف بما لا يطاق باطل، كما هو مقرر في الشريعة الإسلامية، فيستحيل أن يكلف الله سبحانه وتعالى أحدًا بالنهي عن معرفته، إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق، وذلك لأن تكليفه بالنهي عن معرفته، يعني: تكليف المكلف بالنهي عن معرفة الله -تبارك وتعالى- يستدعي العلم بنهيه، يعني: كيف يعرف أن الله كلفه بأنه نهاه عن معرفته، هذا يستدعي العلم بنهيه، أعني علم المكلف بنهي الله تعالى، والعلم بنهيه أي نهي الله يستدعي العلم بذاته، فإن من لا يعرف الباري تعالى يمتنع عليه أن يكون عالمًا بنهيه؛ إذ كيف أعرف نواهي الله وأنا غير عالم بالله، فلا بد أولًا أن أعرف الله -تبارك وتعالى- ثم أعرف تبعًا لذلك أوامره ونواهيه ونحو ذلك، فإذن تحريم معرفته -أي: معرفة المكلف لله، متوقف على معرفته -أي على معرفة الله- وهذا هو الدور الذي يقول عليه أهل العلم، والدور ممتنع.
إذن، ما ذكرناه الآن محل اتفاق بين أهل العلم، اتفقوا على جواز نسخ جميع التكاليف بإعدام العقل، واتفقوا على أنه يستحيل أن يكلف الله سبحانه وتعالى أحدًا بالنهي عن معرفته. وإنما الخلاف -وهذا هو محل النزاع- في أنه وإن جاز نسخ هذه الأحكام، فبعد أن كلف الله تعالى العبد:
هل يجوز أن ينسخ عنه جميع التكاليف أو لا؟
مذهب الجمهور: جمهور العلماء على أنه يجوز نسخ جميع التكاليف.
يعني: لا مانع أبدًا أن يأمرنا الله تعالى بعدد من التكاليف، وبعد أن نفعلها فترة من الزمن، لا مانع أن ينسخ الله -تبارك وتعالى- هذه التكاليف ونعود إلى ما قبل التكاليف. فجمهور أهل العلم على أنه يجوز نسخ جميع التكاليف بما في ذلك التكاليف الاعتقادية والعملية.
وما هو دليل الجمهور على هذا، قالوا: لأنه لا يترتب على فرض وقوعه محال -يعني هب أن الله فرض ذلك، وقال: نسخت عنكم هذه الأحكام التكليفية، هل يترتب على ذلك محال، لا يترتب على ذلك محال- فكل ما لا يترتب على فرض وقوعه محال فهو جائز. وهذا شبيه بالقاعدة. فاحفظوا هذه العبارة فإنها دليل الجواز عند جميع أهل العلم، يقولون: كل ما لا يترتب على فرض وقوعه محال، فهو جائز. هذا مذهب جمهور أهل العلم.
مذهب المعتزلة والحنفية:
وخالف في ذلك المعتزلة والحنفية، فقالوا: لا يجوز ذلك. يعني: لا يجوز أن ينسخ الله تعالى جميع التكاليف، بل قالوا: هو محال. وما هي حجتهم في ذلك؟
وحجتهم في ذلك: أن من التكاليف معرفة الناسخ للأحكام، وهو الله تعالى، وهذا النوع من التكاليف لا يتأتى نسخه، لما فيه من التناقض -كما بينا قبل ذلك- فإن مقتضى نسخ جميع التكاليف سقوط معرفته تعالى، يعني: لو قلنا: أسقطنا جميع التكاليف، فيدخل ضمن التكاليف معرفة الله، فلو نسخنا جميع التكاليف نسخنا بالتالي معرفة الله تعالى، ومقتضى معرفة الناسخ عند حصول النسخ وجوب معرفته تعالى، يعني: كيف أعرف أن هذه الأحكام منسوخة إلا إذا كانت عندي معرفة مسبقة بالناسخ وهو الله -تبارك وتعالى-، فيتحقق في المعرفة وفي وقت واحد الوجوب وعدم الوجوب، فيجب معرفتي للناسخ حتى أعرف أن الأحكام قد نُسخت، ويجب معرفتي للأحكام كذلك حتى أتصور نسخه، وهو تناقض، والجمع بين النقيضين محال.
وهذا حاصل دليل المعتزلة والحنفية ومن وافقهم على أنه يستحيل نسخ جميع التكاليف الشرعية.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك -أعني عن دليل المعتزلة والحنفية بأنه لا تناقض لجواز أن يكلف الله تعالى الخلق ابتداء بمعرفته- فبداية يكلف الله تعالى خلقه وعباده بمعرفته سبحانه، فحينئذ يكون عندهم معرفة للباري -جل وعلا- وهو الناسخ للأحكام، ثم ينسخ عنه بعد ذلك جميع التكاليف، ولا يكلف حينئذ بمعرفة الناسخ؛ لأنه عرفه قبل ذلك، فكأن عندي مرحلتين: مرحلة الله تعالى يكلف الخلق فيها بمعرفته. ومرحلة يكلفهم بأشياء أخرى، ثم ينسخ الأشياء الأخرى، ويبقى معرفة الله -تبارك وتعالى- موجودة ومستقرة في نفوس المكلفين، فالثابت للمعرفة قبل النسخ هو الوجوب، وبعد النسخ عدم الوجوب، وحينئذ فلا تناقض.
آراء العلماء في النسخ بلا بدل:
مسألة جديدة من مسائل النسخ وهي “نسخ العبادة إلى غير بدل”.
هل يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل أو لا يجوز؟
بمعنى: هل الشارع الحكيم قد ينسخ العبادة دون أن يقيم مقامها عبادة أخرى، هذا معنى البدل، وهذا حاصل ما يقال في البدل، النسخ بلا بدل، هل يجوز ذلك أو لا يجوز؟
اختلف الأصوليون في جواز النسخ بلا بدل على مذهبين:
المذهب الأول: وهو مذهب جمهور العلماء، وهؤلاء يرون جواز النسخ بلا بدل، فلا يشترط في الحكم المنسوخ أن يخلفه حكم آخر. يعني الله تعالى قد يرفع حكمًا، ولا يجعل مكانه حكمًا آخر. هذا هو المذهب الأول، وهو مذهب جماهير أهل العلم.
المذهب الثاني: فهو مذهب المعتزلة والظاهرية: وقد ذهبوا إلى عدم جواز النسخ بلا بدل. يعني: إذا نسخ الله حكمًا فلا بد عند المعتزلة والظاهرية أن يحل محله حكم آخر.
وإلى هذين المذهبين أشار ابن قدامة -رحمه الله- في روضته بقوله: فصل يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل. وهذا الكلام منه إشارة إلى المذهب الأول، وهو مذهب جمهور العلماء من فقهاء وأصوليين.
ثم قال -رحمه الله-: وقيل: لا يجوز. وهذا هو المذهب الثاني، وهو مذهب المعتزلة -كما قلت لكم- أو أكثر المعتزلة وبعض أهل الظاهر أو جميع الظاهرية كما قال غير واحد من أهل العلم، فقالوا: لا يجوز النسخ بلا بدل، بل لا بد من بدل.
وقد فهم بعض العلماء؛ لأن الإمام الشافعي -رحمه الله- اختلفوا في موقفه: هل هو ممن يرى جواز النسخ بلا بدل؟ أو ممن يرى أن النسخ لا بد أن يكون له بدل، فقد فهم بعض أهل العلم من كلام الإمام الشافعي -رحمه الله- في الرسالة أنه يرى ما يراه أصحاب المذهب الثاني من عدم جواز النسخ بلا بدل، فقد قال -رحمه الله- في كتابه (الرسالة) وهو أول كتاب صنف في علم أصول الفقه كما قررنا لكم قبل ذلك.
قال -رحمه الله-: “وليس ينسخ فرض أبدًا، إلا إذا ثبت مكانه فرض آخر”. هذا كلام الإمام الشافعي؛ كما نسخت قبلة بيت المقدس، فأثبت مكانها الكعبة، قال: “وكل منسوخ في كتاب الله تعالى وسنته صلى الله عليه وسلم هكذا”.
فظاهر هذه العبارة أنه لا يقع النسخ إلا ببدل؛ لذا فهم بعض أهل العلم من كلام الشافعي أن النسخ لا يقع إلا ببدل.
قال ابن السبكي -وهو من الشافعية- بعد أن ساق كلام الصيرفي الذي بين فيه أن الإمام الشافعي يقول بجواز النسخ من غير بدل، قال -والقول للسبكي-: “وهذا لا يخالف فيه الأصوليون فإنهم يقولون: إذا نسخ الأمر بقوله: رفعت الوجوب أو التحريم مثلًا، عاد الأمر إلى ما كان عليه، وهو الحكم أيضًا”.
وقال الشوكاني -رحمه الله- في تقرير مذهب الشافعي: وهذا الحمل هو الذي ينبغي تفسير كلام الشافعي به، فإن مثله لا يخفى عليه وقوع النسخ في هذه الشريعة بلا بدل، ولا شك في أنه يجوز ارتفاع التكليف بالشيء، والنسخ مثله؛ لأنه رفع تكليف، ولم يمنع من ذلك شرع ولا عقل، بل دل الدليل على الوقوع”. انتهى كلام الشوكاني -رحمه الله-.
وبه يعلم أن الشافعي -رحمه الله- رأيه في المسألة موافق لمذهب الجمهور في جواز النسخ بلا بدل. استدل الجمهور على جواز النسخ بلا بدل بدليلين بدليل عقلي وآخر نقلي:
دليل الجواز من جهة العقل:
قالوا: إننا لو فرضنا وقوع النسخ بغير بدل يعني: بدل الحكم المنسوخ، لما ترتب على فرض ذلك محال -كما قلت لك قريبًا- كل ما لا يترتب على فرض وقوعه محال فهو جائز؛ فالجمهور يقولون: لو فرضنا وقوع النسخ بلا بدل، يعني: هبْ أن الله تعالى رفع حكمًا، ولم يأتِ بحكم بدل عنه، فهل هذا ممتنع عقلًا أبدًا، ليس ممتنعًا عقلًا، ولذلك قالوا: وليس للجواز العقلي معنى إلا صحة هذا الافتراض، وبتعبير آخر: ما لا يترتب على فرض وقوعه محال فهو جائز عقلًا، ولا يترتب على فرض نسخ الحكم بلا بدل محال، فيكون جائزًا عقلًا.
وبيان ذلك: نزيد الأمر بيانًا ووضوحًا، أن الأمر لا يخلو إما أن لا يقال برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى، أو يقال بذلك. يعني نقول: أفعال الله تعالى إما أن تراعى فيها الحكمة أو لا تراعى، فإن كانت لا تراعى الحكمة فرفع حكم الخطاب بعد ثبوته لا يكون ممتنعًا؛ لأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وإن كان الثاني -يعني: رعاية الحكمة- فلا يمتنع في العقل أن تكون المصلحة في نسخ الحكم دون بدله. يعني: لو قلنا برعاية المصلحة والحكمة في أفعال الله تعالى، فالعقل لا يمنع أن يكون النسخ بلا بدل هو الحكمة وهو المصلحة، ففي كلا الأمرين والحالين لا مانع عقلًا من جواز النسخ بلا بدل.
هذا حاصل الدليل العقلي للجمهور على صحة وجواز النسخ بلا بدل.
دليل الجواز من جهة النقل:
أعني من جهة الشرع، فقد استدلوا بوقائع من النسخ وردت في الكتاب والسنة، وتمت من غير المصير إلى بدل، ومن هذه الوقائع التي تمت في الكتاب والسنة من غير بدل ما يلي:
1. تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم كان واجبًا:
بمعنى: أن من أراد أن يناجي ويحدث النبي صلى الله عليه وسلم كان ملزمًا بتقديم الصدقة يتصدق بها حتى يتسنى له مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم كان واجبًا، وذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12] فظاهر الآية يفيد أن من أراد مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم يلزمه تقديم الصدقة وهذا كان واجبًا، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: 13].
وكان هذا النسخ بلا بدل، فالشارع الحكيم نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم بلا بدل، وصارت المناجاة بدون تقديم الصدقة ولا شيء.
ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] قال: كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهمًا، ثم قال رضي الله عنه: ثم نسخت فلم يعمل بها أحد {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13].
فهذا الخبر الذي رواه ابن أبي شيبة والحاكم وصححه فيه دلالة على أن الله تعالى نسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم بلا بدل.
ولذلك روى عبد الرزاق في مصنفه عن علي رضي الله عنه قال: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلا ساعة. يعني آية النجوى. هذا هو الدليل الأول من الأدلة الشرعية على صحة وجواز النسخ بلا بدل.
2. نُسخت حرمة المباشرة للنساء بعد الفطر بلا بدل:
فإن الإمساك بعد الفطر عن المباشرة كان واجبًا، ثم نسخ بلا بدل بقوله تعالى: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [البقرة: 187].
وفي (صحيح البخاري) وغيره عن البراء بن عازب، قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسك، كان هذا في بداية تشريع الصيام، ثم نسخ الله -تبارك وتعالى- هذا الحكم، ونسخه بلا بدل، لذلك جاء في سنن أبي داود عن ابن عباس قال: وكان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة.
والمشهور في رواية ابن عبد البر أو المقطوع في روايات البراء أن ذلك كان مقيدًا بالنوم، ويترجح بقوة سنده. هذا هو الدليل الثاني أو الواقعة الثانية التي تدل على جواز النسخ بلا بدل.
3. أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث محرمًا، ثم نسخ مبيحًا بلا بدل:
والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ثم أباح ذلك بلا بدل؛ ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم والنسائي عن جابر بلفظ: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، ثم قال -يعني: بعد ذلك- كلوا وادخروا)). هذه واقعة رابعة تدل دلالة واضحة على جواز النسخ بلا بدل.
إلى غير ذلك من الوقائع التي نسخت لا إلى بدل، والوقوع في الشرع أدل الدلائل على الجواز المطلوب إثباته في المسألة.
وقد ذكر الآمدي بعض الوقائع على جواز النسخ بلا بدل، لكن هذه الوقائع اعترض عليها، فمن ذلك أنه قال: نسخ الاعتداد يعني عدة المرأة المتوفى عنها زوجها نسخت من حول كامل إلى أربعة أشهر وعشر. هذا مثال، ومثل بمثال ثان وهو نسخ وجوب ثبات الرجل لعشرة، يعني في الجهاد.
واعترض المعترض بأن هذين الحكمين منسوخان إلى بدل في قول أهل العلم، فبدل الحكم المنسوخ الأول اعتداد المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر، وبدل الحكم المنسوخ الثاني وجوب ثبات الرجل للاثنين بدل العشرة، بالآيات الدالة على ذلك.
هذه أهم الوقائع التي استدل بها جمهور أهل العلم على جواز النسخ بلا بدل.
والمعارض الذي يرى أنه لا يجوز النسخ بلا بدل، ناقش هذه الوقائع، فقال في المثال الأول: لا نسلم أن نسخ وجوب الصدقة عند إرادة المناجاة من قبيل النسخ بلا بدل، يعني: ما مثل به الجمهور من نسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم الوجوب بلا بدل، اعترض عليها المانع للنسخ بلا بدل، وقال: إن نسخ وجوب الصدقة عند إرادة المناجاة من قبيل النسخ بلا بدل، هذا غير مسلم، وإنما هو نسخ ببدل، وكل ما في الأمر أن البدل لم يثبت بالناسخ، وإنما ثبت بدليل آخر.
وهذا الدليل على زعمهم هو الدليل العام الطالب للصدقة ندبًا، من غير تقييد بالزمن الثابت في الكتاب والسنة. يعني: قالوا الأمر بالصدقة مندوب إليه أبدًا، ليس بلازم أن أقدم الصدقة عند مناجاة النبي، فالصدقة مشروعة في كل حال وفي كل وقت عند مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم وغير مناجاته.
وعلى هذا فنسخ تقديم وجوب الصدقة عند مناجاة النبي ليس نسخًا بلا بدل، بل ببدل، غاية الأمر أن البدل ليس هو الناسخ، وإنما هو دليل آخر، وهو الأمر العام بندبية الصدقة في كل وقت وفي كل زمان.